IMLebanon

التكامل الاقتصادي العربي ليس ترفاً بل حاجة مصيرية

التكامل-الاقتصادي-العربي

كامل صالح

يخال المرء وهو يقرأ عنوان «التكامل العربي» أن المسألة لا تعدو كونها مزحة، أو شطحة من شطحات كاتب حالم، خصوصاً أن لا دلالة أو إشارة توحي بأن هناك من يسعى إلى تحقيق هذا التكامل على أرض الواقع، من المحيط إلى الخليج.
فحلم التكامل الذي كاد أن ينضج في خمسينيات القرن الماضي، تلاشى وتبدد، ونما في المقابل، عكسه تماما؛ فتعمّق التشرذم والانفصال، وتفشت المؤامرات والدسائس.
لكن، وعلى الرغم من هذه الواقعية السوداوية، ثمة من يصرّ على الحلم، ويرى في هذا السواد الذي يشتد حلكة، بارقة أمل. من هنا يأتي تقرير «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» (الاسكوا)، عن «التكامل العربي: سبيل لنهضة إنسانية»، الذي أطلقه أمس، «معهد كارنيغي للشرق الأوسط» في احتفال أقيم في فندق فينيسيا.

رؤية استراتيجية

يتضمن التقرير وهو الأول الذي تعده اللجنة، تحليلا واقعياً جديداً للتكامل العربي، وتقديم رؤية استراتيجية لتكريس هذا التكامل. فما يبينه مثلاً، بعد التحليل العلمي الدقيق، أن إجراءات بسيطة كتخفيض كلفة النقل، وزيادة حجم العمالة المتبادلة بين الدول العربية، ترفع الناتج العربي أكثر من 750 مليار دولار في غضون سنوات قليلة، وتوفر أكثر من ستة ملايين فرصة عمل جديدة.
ويلحظ في المقابل، أن خمس العرب تحت خط الفقر، وثلثهم يعانون من الأمية، وأن الشباب العربي يعاني من أعلى معدلات البطالة، والنساء من أقل نسبة مشاركة اقتصادية، وأن سوء التغذية ينتشر بين خمسين مليون مواطن عربي، وأن عدد الأطفال المهددين بالموت جوعاً في اليمن وحده، يبلغون أكثر من نصف مليون طفل، وأكثر من مليون طفل في الصومال، ناهيك عن أعداد القتلى في سوريا والنازحين في بلدهم وخارج بلدهم، والوضع المماثل في العراق ومصر وغيرها من الدول العربية.
كما لا ينسى التقرير الإشارة إلى أنه وبعد عقود من التنمية، لم تنجح المنطقة العربية في تنويع اقتصاداتها، ولا في بناء اقتصادات المعرفة، وهي اليوم أقل تصنيعاً مما كانت عليه في ستينيات القرن الماضي، ولا يتجاوز نصيبها من النشر العلمي في العالم واحداً في المئة.
وفيما يؤكد المشاركون في حفل إطلاق التقرير أن «طريق التكامل الاقتصادي العربي ليست ترفاً، ولم تعد مسألة اختيارية بل باتت حاجة ملحة ومصيرية على المستوى العربي»، فإن التقرير نفسه، يؤكد على هذه المسألة، عبر تناوله التكامل العربي الواقع بإنجازاته وإخفاقاته ومشكلاته المزمنة والطارئة.
ففي حضور الرئيس فؤاد السنيورة، والنائبة بهية الحريري، وممثلة «الاتحاد الأوروبي في لبنان» انجيلنا ايخهورست، ومهتمون، تعرض الباحثة في «معهد كارنيغي» مهى يحيى دور المعهد في تشجيع الحوار حول القضايا السياسية والاجتماعية ومناقشة التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة العربية.

ثلاثة أركان

قبل أن يشرح مدير «إدارة التنمية الاقتصادية والعولمة في الاسكوا» د. عبد الله الدردري مضمون التقرير، وأبرز بنوده، توضح وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للاسكوا ريما خلف أن استراتيجية التقرير تعتمد على ثلاثة أركان؛ أولها التعاون السياسي العربي في دعم إقامة الحكم الديموقراطي الصالح، وثانيها تعميق التكامل الاقتصادي العربي وصولا إلى وحدة اقتصادية عربية، أما الركن الثالث فهو في الاصلاح الثقافي والتربوي الذي يعيد إحياء ثقافة الإبداع، ويحرر الفكر من نزعات الانغلاق والتطرف والتبعية.
تؤكد خلف أن «التكامل العربي حلم سكن الوجدان العربي، لكن ضعف الانجاز على صعيد التكامل الرسمي ومقاومة بعض المصالح الخاصة لفكرته، أدخل الشك إلى قلوب البعض حول جدوى هذا المشروع».
ولا تغيب عن كلمتها الإشارة إلى أن مشكلات المنطقة تتعاظم باستباحة خارجية تتجلى في أبشع صورها من الاحتلال الأجنبي المباشر؛ فاحتلال إسرائيل لفلسطين هو الاحتلال الأطول والوحيد المتبقي في العصر الحديث، واصفة إصرار إسرائيل على الاعتراف بها دولة لليهود، بأنه إحياء مرعب لمفهوم النقاء الديني والعرقي للدول.

قلق إسرائيل

يتوجه السنيورة في مستهل كلمته، إلى الحاضرين قائلا «لقد أصبحنا ندرك بسبب ممارسات العدو الإسرائيلي المتكررة أنه عندما تقلق إسرائيل من قضية ما، وعلى وجه الخصوص من هذا التقرير، فهذا يعني أن هذا الأمر بالغ الجدية والرصانة، وأنه حتماً يصب في مصلحة ومستقبل هذه الأمة، ومستقبل أجيالها المقبلة».
ويدعو إلى تحويل هذا التقرير وتوصياته من نظريات وتقديرات ودراسات إلى وقائع ومعطيات وبرامج وخطوات قابلة للتنفيذ، لرفع شأن التقدم العربي الذي يحتاج وفي هذه الظروف بالذات، إلى جهود مخلصة وجبارة تتكاتف فيها سواعد كثيرة وطاقات كبيرة على مسارات المستقبل الواعد.
وإذ يعتبر أن التقرير مرجع من مراجع التأسيس لنهضة عربية حديثة ومستنيرة مع مطلع القرن الحادي والعشرين، يلحظ أن التقرير يشير إلى مجموعة المرتكزات بوصفها معطيات للانطلاق منها في التعاطي مع المواضيع المتصلة بها.
ويرى أن «تراكم الفشل العربي على أكثر من مستوى، أدى بنا إلى اليأس والإحباط، وبالتالي إلى التقاعس والتواكل والاستسلام للتعرض للعدوان من المتطرفين، ومن الجوار الإقليمي. كذلك فقد قادنا إلى التشرذم والتناحر والوقوع في براثن الفتنة الطائفية والمذهبية. لقد تناسينا أن الفرادة والمبادرة لا تزال موجودة، وأن ما يجمع العرب أكبر بكثير مما يفترقون عليه، وأن النجاح ما زال ممكناً، وأن الريادة العربية ممكنة التحقق، ونموذج تجربة ابن خلدون ما يزال حاضراً وناظراً.

المشتركات الثقافية

أما على مستوى التكامل الثقافي، فيلحظ السنيورة أن «التقرير لا يفوته أن يقول وبشجاعة إن المشتركات الثقافية العربية تركت تأثيرها وفعلها ولعبت دورها في تأطير وتجميع الثقافة العربية الواحدة. ومن ذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر التأثير الكبير لتراث المطربة أم كلثوم، وما تركته في ضمير العرب، وكيف لعبت دوراً هي والسيدة فيروز، وغيرهما كثر، في الفن والأدب والشعر وذلك في التأطير والتقريب بين العرب ثقافياً وحضارياً».
ويلفت الانتباه إلى أن التقرير قد وضع إصبعه على نبض الأحداث المهمة والكبيرة التي شهدها ويشهدها العالم العربي، أي أحداث الربيع العربي التي انطلقت من تونس لتنتشر في أغلب أرجاء الوطن العربي، وترفع شعار: «الشعب يريد»، وتطالب بالحرية والعدالة والكرامة.
لقد كان التقرير واقعياً في هذا الإدراك والتفهم، وفي أن ما تشهده بعض بلدان الربيع العربي من مآس وإشكالات ما هي إلا من جهة أولى رد فعل أهل الخريف العربي على أهل الربيع العربي، وإمعانهم في استعمال العنف من جهة أولى، ومراهقة أهل الربيع العربي، وعدم نضجهم وتشرذمهم من جهة ثانية، واستسلامنا لفتن من يضمرون الشر لنا ولأمتنا ويمعنون في تمزيق الصف العربي وتفريخ منظمات لا همَّ لها إلا إلهاب الاقتتال الداخلي من جهة ثالثة. ذلك ما أوقع بعض بلداننا العربية في هذا الجحيم المستمر حتى الآن.
لكن ومع ذلك، فإنه لا يجوز لإيماننا أن يضعف، يقول السنيورة، ولقناعتنا بأن تتراجع عن الاعتقاد بأنه لا بد لهذا الليل المدلهم من نهاية، وبالتالي لا بد من قيامة جديدة.

المشكلات الكبرى

مع أن التقرير قد وضع وصاغ تصورات وخططاً واقتراحات جريئة ومتقدمة لتنفيذ واستكمال خطوات التكامل العربي في أوجه عديدة ومتنوعة، لكنه إلى ذلك كشف المشكلات الكبرى التي تعيق نجاح التكامل، وسلط الأضواء على مسببات الفشل الداخلي والخارجي الإقليمي والدولي.
ويرى السنيورة أن مصير أمتنا أصبح معلقاً على قدرتنا في إدراك المنافع التي ستعود على أجيالنا القادمة من خلال التعاون والتشابك والمصالح المشتركة. وبالتالي في نجاحنا في العودة لإطلاق طاقاتنا بطريقة فعالة ومتناغمة ومنتجة، وفي استعمال مواردنا على نحو ما هو مفيد لأمتنا ومختلف شعوبنا العربية.
لم تكن تجارب الوحدة التي سعينا إليها مبنية في الأساس على مراكمة وتعظيم شأن المصالح الاقتصادية المشتركة، التي كانت في أساس نجاح تجربة الوحدة الأوروبية بعد عقود بل قرون من الحروب والنزاعات بين بلدانها المختلفة. والمفارقة الغريبة، وفق السنيورة، أن التجارب الوحدوية العربية انطلقت في الفترة ذاتها تقريباً مع انطلاق فكرة السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت منذ عقدين باتجاه الوحدة الأوروبية.
ويؤكد أنه «علينا أن نعترف، لا سيما بعدما كشفته حركات التغيير، أن الأنظمة العسكرية والأمنية العربية، وعلى مدى أكثر من أربعين عاماً، شكلت انتكاسة كبرى للدولة الوطنية في العالم العربي، لجهة إغفال مبدأ احترام الحريات وعدم السعي الحثيث والكافي لتحقيق التنمية، وعدم المثابرة على صون المصالح الوطنية والقومية».

الحفاظ على التنوع

يرى السنيورة أنه إذا كان شعار الوحدة العربية قد شغل التقدميين العرب طوال القرن العشرين، فإن التكامل العربي يجب أن يكون في القرن الحادي والعشرين الهدف الذي نتطلع إليه باعتباره المسار الواقعي الطموح بعد كل النكسات وتجارب الفشل.
فوحده المواطن الحر في النظام الديموقراطي القائم على الحرية والعدالة واحترام الكرامة الإنسانية، كما يؤكد السنيورة، هو الضمانة. وعلى ذلك لن يستطيع العرب التقدم إلى الأمام من دون اعتماد الديموقراطية نظاماً واحترام حقوق الإنسان قيماً، واعتماد مبدأ التداول السلمي للسلطة دستوراً وقانوناً ومنهجاً. بهذه الأدوات وحدها يمكن أن نخط طريقنا نحو التقدم ونحو التكامل على قاعدة رفض العودة إلى تجربة الأنظمة الاستبدادية، ورفض السماح بسيطرة التطرف والتعصب وفكرة إلغاء الآخر من جهة أولى، وفهم واستيعاب فكرة إعلاء شأن المصالح الاقتصادية المشتركة من جهة ثانية، وذلك بما يعود بالخير على مجتمعاتنا العربية وبما يسهم في تعزيز مستوى عيشها ونوعية هذا العيش.