IMLebanon

رأي حول الاقتصاد المصري.. “استقرار الصدمة وحتمية الحراك”

EgyptEcon5

منذ ٢٥ كانون ثاني وعبر أكثر من ثلاث سنوات ونصف من موجات الصعود والهبوط، أدعي أن قليلين فقط هم من قيموا حجم التحولات الرهيبة والصراعات الكامنة والفواتير المؤجلة في المشهد المصري، فالأحداث المتسارعة والتغيرات الجذرية والارتدادات المفاجئة استنفذت الجميع فى التفاصيل، ولم تسمح للكثيرين بتحليل أشمل وأكبر. ورغم أن قدرا من الاستقرار السياسى بدا فى الأفق عقب انتخاب الرئيس الجديد، إلا أن أيام قليلة فصلت بين “التنصيب” وما واكبه من أحلام رومانسية حالمة، وبين قرارات رفع الدعم جزئيا عن المحروقات مصحوبا بموجة غلاء فى بعض السلع والخدمات، أظهرت بوضوح أن “الاستقرار” المنشود مازال حلما بعيد المنال.

قد يفهم من الفقرة السابقة أني أحمل الرئيس الجديد وحده مسؤولية عدم الاستقرار نتيجة لقراره برفع الدعم، ورغم أنني ومن حيث المبدأ أحمل أي صانع قرار مسؤولية سياسية عن أي عواقب سلبية لقراراته، إلا أني أرى أن الفترة الفائتة من عمر مصر، على الأقل منذ الانتهاء من أول استحقاقات خارطة الطريق، وبين قرار رفع الدعم عن المحروقات، ما هو إلا استقرار مؤقت، قل عنه هو استقرار الهدنة، أو لنكن أكثر دقة، هو استقرار الصدمة، حيث تعرضت التيارات التي عبرت عن يناير على اختلاف تنويعاتها لصدمات متكررة، تارة من ترشح السيسي ووصلوه إلى مقعد الرئاسة، وتارة من حجم الانتهاكات والخروقات للحريات، وثالثة من حجم العنف السياسي، ورابعة من سرعة انتهاك الدستور المستفتى عليه لتوه، وهكذا. إلا أنه وبعد خفوت حدة الصدمة بدأ الجميع فى التحرك، تارة بالتعبير الرمزي وأخرى بالمظاهرات وثالثة بتغير الحلفاء القدامى والبحث عن جدد، والأهم أنه في خضم كل ذلك، كان هناك وعيا جديدا يتشكل وهو الذي سيقود إلى حراك يبدو حتميا، ليس بالضرورة فى شكل ثورة بالمعنى التقليدي، ولكنه حراك يدفع عجلة تغيير لن تتوقف قريبا عن التحرك، لأنها ستنكأ الجراح القديمة المسكوت عنها حتى الآن. وفي النقاط القادمة يمكن رصد أسباب حتمية هذا الحراك:

– أولا: ظلت مصر تعيش لفترة طويلة انفصاماً بين شكل دولة صمم على طراز ما بعد الحقبة الاستعمارية، حيث الحزب الواحد والجهاز البيروقراطي الضخم والآلة الإعلامية الموجهة، والدولة الحاضنة لمواطنيها، والنظام السياسي القائم على القائد الرئيس الأب، وبين سياستها الاقتصادية التحررية المعتمدة على اقتصاد السوق وحرية رأس المال، فهذا الانفصام لم يعد محتملا، فإما أن تتحرر الدولة اقتصادية وبالتالي تعيد تعريف وظائفها السياسية على نحو مغاير لوظائف ما بعد الاستعمار، أو أن تعود إلى وظائفها التقليدية وتتخلى عن اقتصاد السوق، أما معادلة “رأس مال الدولة” كحل وسط لن تعالج ذلك الانفصام وستزيد من حدة التناقضات بين نظام يبني شرعيته السياسية بالأساس من فكرة الدولة الأم والقائد الأب، بينما تنسحب تدريجيا من المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأبوة

– ثانيا: كما هو الحال بالنسبة لثورة يناير/كانون ثاني، فإن حلفاء نظام 30 حزيران وبعد أن تخلصوا من خصمهم الإخواني اللدود، كان عليهم مواجهة تركة كبيرة من الصراعات السياسية فيما بينهم، وتفكك حلفاء 30 حزيران تدريجيا مع ضعف شرعية “الحرب على الإرهاب” كأداة لتوحيد الحلفاء تدريجيا، سيقود إلى لحظة تالية من الصدام، ويبدو لي أن الانتخابات البرلمانية ستكون أولى محطات هذا الصراع كما يتضح من أفق التحالفات الانتخابية الجارية حاليا.

– ثالثا: منذ قيام ثورة يناير/كانون ثاني وأجهزة الدولة لم تصفى حساباتها المؤجلة بعد، فقضية التوريث وتوغل الداخلية وبعض الأجهزة السيادية في الحياة السياسية ومسؤوليتها المباشرة أو غير المباشرة عن تدهور الأوضاع وقيام الثورة في الأيام الأخيرة لمبارك، هي حسابات لم تصفى بعد، كما أن التنافس على مساحات النفوذ الجديدة لا يمكن إغفالها في الوقت الذي أخذ به نظام جديد في التشكل.

– رابعا: شبكات المصالح التقليدية والتي لا يمكن اعتبار انهيار الحزب الوطني اختفاءً لها، لأسباب كثيرة، أهمها أنها كانت تعتبر الحزب واجهة ومعبر للنظام وموارده ليس أكثر، انتظرت وتحملت ودعمت طويلا حتى استطاعت العبور لنظام 30 حزيران، وتجاوز ضربات يناير، وهنا معضلة كبيرة، فهذه الشبكات ذات التواجد والنفوذ في الوجه البحري والصعيد، ستكون رأس الحربة ضد أي إصلاح سياسي أو اقتصادي يهدد مصالحها، ولأنه لا يمكن للنظام الأخذ في التشكل لتوه أن يستمر طويلا بلا إصلاح، فسيكون أمام خيارين كلاهما مر، فإما الإصلاح والاشتباك مع هذه الجماعات المصلحية أو السكوت عنها ودفع ضريبة عدم الإصلاح، وفي كلا الخيارين عدم استقرار للنظام الحالي.

– خامسا: اتصالا مع الملاحظة السابقة، فجهاز الدولة البيروقراطي هو الآخر أصبح يعبر عن شبكة مصالح متعددة الأطراف تدعم النظام وفي التحليل الأخير، الدولة طالما أمنت الوصول إلى موارد وقيم الدولة المتعددة، هذا الجهاز كان له اليد الطولى فى إفشال الإخوان بلا أدنى شك، وهو الأداة الوحيدة التى سيعتمد عليها النظام لتنفيذ سياساته، وهنا تكمن معضلة أخرى، فإما الاستجابة لمطالب هذه الشبكة العميقة، وإما الدخول في صراعات غير محمودة العواقب ضدها، إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة مطلب أساسي للإصلاح السياسي والاقتصادي، لكنه يتعارض مع الخطوط الحمراء لهذا الجهاز نفسه، فأي خيار مر يسلكه النظام الجديد؟

– سادسا: مؤسسات الدولة القوية مثل الجيش والقضاء والداخلية حافظت على قدر كبير من مكاسبها واستقلاليتها عن النظام السياسي في معادلة معقدة منذ أيام مبارك، وأي اقتراب من مناطق نفوذها سيواجه برد فعل قاس، فإما أن يرضخ النظام لمناطق النفوذ والخطوط الحمراء ويضطر الدخول في معادلة مبارك القديمة، وما يعنيه ذلك من دفع الثمن آجلا، أو محاولة إعادة رسم مناطق النفوذ تلك، وما يتضمنه ذلك من مخاطر جمة ودفع الثمن عاجلا.

– سابعا: لن يستطيع النظام السياسي الجديد (كما لم يستطع أي نظام قديم)، أن يفصل مصر عن محيطها الإقليمي والدولي، ولما كان هذا المحيط دائما مصدر ضغوط سياسية واقتصادية وأمنية على مصر، فإن التغير السريع في المحيط العربي والشرق أوسطي، سيضع دوما قيود على حركة النظام في الداخل، ولن يسمح له بتنفيذ أجندته الداخلية ولا الخارجية بحرية.

– ثامنا: عبر ثلاث سنوات ونصف ربما فشلت الثورة بشكل مؤقت، لكنها ورغم كل ذلك خلقت وعيا سياسيا عميقا لدى فئات الشعب المتنوعة، هذا الوعي من الأرجح أن يكون أقدر عن التعبير عن مطالبه وتنظيم صفوفه وتنويع وسائل ضغطه على النظام بأشكال متنوعة، لن يطالب بالضرورة بالديموقراطية لكنه سيرفض القمع! لن يحارب من أجل تعدد الأحزاب، لكنه سيرفض الاستئثار بالسلطة! لن يقدم السياسي على الاقتصادي لكنه سيضع دوما نصب عينه مصادر أكل عيشه وسيرد بحسم على من يقترب منها أو ينافسه فيها!

– وأخيرا: ربما انهارت تيارات الإسلام السياسي مؤقتا، لكن الأفكار موجودة، والمظالم حاضرة، وتضييق النظام على حريات العمل العام مع بعض البطش الذي طال هذا التيار أو ذاك حتى من خارج التيارات الإسلامية لن يوفر للنظام هدنة سياسية طويلة، ولكنها ستكون هدنة مؤقتة، وقد تعود مراوغات قديمة واستراتيجيات جديدة لمواجهة النظام مجددا بشكل ربما أسرع وأعنف من قدرتنا على التوقع.

هذا النظام السياسي الذى يتشكل لتوه هو فاعل، ولكنه أيضا مفعول به، فهو إن شاء أو أبى سيتحمل تكلفة فواتير صراعات كثيرة مؤجلة على مستويات عديدة في الدولة المصرية منذ إنشائها، وقد جاء وقت تحصيلها، ومع إصرار النظام فيما يبدو على المعالجات الأمنية والضربات القاسية فحسب، يبدو أننا نخرج رويدا من استقرار الصدمة متجهين تدريجيا نحو حراك حتمي وطويل ستتغير على إثره شكل الدولة المصرية وربما الشرق الأوسط بأثره.