IMLebanon

نزيف الاستثمار الأجنبي في مصر

EgyptEcon2

نعمان الزياتي

المتصفح لمسيرة الاستثمار الأجنبي المباشر منذ أربعة عقود, كان يعتبره جزءا من مشاكل التنمية في العالم النامي, تحول إلي جزء من الحل لمشاكل النمو الاقتصادي والتنمية. حيث أفاض بعض الاقتصاديين في فضائل التدفق الحر لرأس المال عبر الحدود الوطنية, حيث يتيح فرصة الحصول علي أعلي معدل للعائد. كذلك كما أنها تحد من المخاطر التي يواجهها أصحاب رأس المال, وذلك بإتاحة الفرصة أمامهم لتنويع قروضهم واستثماراتهم, كما يسهم في نشر أفضل الأساليب المتبعة في إدارة الشركات, وقواعد المحاسبة, والتقاليد القانونية. ويحد من قدرة الحكومات علي اتباع سياسات رديئة. بالإضافة إلي تحقيق مكاسب مباشرة للدول المضيفة بنقل التكنولوجيا, وأن يحفز المنافسة في السوق المحلية لمستلزمات الإنتاج, وعلي تدريب للموظفين علي تشغيل مشروعات الأعمال الجديدة, مما يسهم في تنمية رأس المال البشري في الدول المضيفة.وتسهم الأرباح التي يحققها الاستثمار الأجنبي المباشر في إيرادات ضرائب الشركات في البلد المضيف. ولكن الأزمة المالية جعلت الأوقات الطيبة تقترب من نهايتها, فباسم’ الوطنية الاقتصادية’ والأمن واعتبارات أخري باتت مقاومة الاندماجات والحيازات العابرة للحدود تتخذ أشكالا أكثر تنظيما في عدد متزايد من الدول.

لقد تغيرت في الماضي أساليب التناول المختلفة للمسائل المتصلة بالاستثمار الأجنبي المباشر, ومن الممكن أن تتغير من جديد في المستقبل, وذلك تبعا لنظرة الحكومات إلي كيفية إيجاد التوازن بين التكاليف والفوائد. ولا يشتمل هذا التوازن علي العوامل الاقتصادية فحسب, بل هناك أيضا اعتبارات أخري مثل الأمن ورغبة كل دولة في التحكم في تنميتها الاقتصادية. ولقد طالبت في أكثر من مقالة علي ضرورة إعادة النظر في الاتفاقيات التي تم توقيعها مع مستثمرين أجانب لتضمينها بعض البنود التي تعود بالمنفعة علي الاقتصاد الوطني, سيرا علي النهج الذي اتبعته بعض الدول, ووفقا لما نادت به بعض المنظمات الدولية وكبار المفكرين الاقتصاديين بضرورة حماية الدول المضيفة في مسعاها لتنمية اقتصادها, بل انتقدوا بعض الدول النامية وخاصة مصر التي أفرطت في تقديم الحوافز والإعفاءات للمستثمرين الأجانب مما انعكس سلبيا علي تنمية اقتصادها. فالاستثمارات القائمة أساسا علي الحوافز تعد الأقرب إلي الزوال فور انتهاء المزايا المالية أو الضريبية. فقد قدمنا حوافز استثمارية سخية لمدد خمس وعشر سنوات لمشاريع محلية وأجنبية ثم قررت أن توقف أنشطتها بعد انتهاء فترة الحوافز. وحذروا من تصاعد حزم الحوافز المقدمة داخل المناطق الإقليمية المختلفة, ذلك أن الحكومات الساعية إلي تحويل مسار الاستثمارات في اتجاه أقاليمها كثيرا ما تجد نفسها في خضم’ حروب مزايدة’ متنوعة, حيث يؤلب المستثمرون مواقع مختلفة علي بعضها البعض, مما يؤدي إلي تقديم مجموعات من الحوافز أكثر وأكثر جاذبية من أجل الفوز بالاستثمار.

إن تبني وإطلاق التصريحات المتتالية حول الاستثمار في مصر لا يجوز أن يرتبط بهموم ومشاكل تتعلق بالخزينة. وإنما يجب أن ينظر إليه في إطار إصلاح شامل سياسي واقتصادي وإداري, يهدف إلي تحسين أبعاد التنمية, علي المدي المتوسط والطويل, لمجمل الاقتصاد الوطني. لسنا في حاجة إلي إصلاح يراهن علي الرأسمال الدولي ويدعم بالضرورة طبقة المضاربين بأموال الدولة والمغتنمين علي حسابها دون ثمن ودون أن نحقق للمجتمع أي نقل حقيقي للتقنية, كما أن التنمية التكنولوجية التي رأيناها في الفترة الأخيرة هي التي تصب في خانة تدعيم جيوب الوكلاء واستنزاف أموال المواطنين وجعل السوق المصري سوقا استهلاكية لمنتجات الشركات العملاقة. المطلوب هو خلق وضعية سياسية واجتماعية ونفسية جديدة لإعادة تأهيل المجتمع المستنزف ووضعه في شروط العمل والإنتاج. وقد طالبنا مرارا بإعادة التفاوض مع المستثمرين حول بنود معينة تبين للجهات المسئولة أنها تضر بمصلحة الوطن واقتصاده, وقلنا إن اتفاقيات الاستثمار التي توقعها دولة مع دولة أخري أو مع مستثمر أجنبي أو محلي ليست قواعد ملزمة إلي الأبد, ولا يمكن الخروج عنها بل هي تخضع للتطوير المستمر حسب ما يراه مصلحة طرف من الأطراف. ويمكن لأي طرف أن يعيد التفاوض مرة أخري علي بنود ثبت أنها تهدد مصلحته أو لم تساعد في تحقيق التنمية المنشودة, وبالتالي لا عجب من تزايد عدد حالات إعادة التفاوض بشأن اتفاقيات الاستثمار المبرمة بين الدولة والمستثمرين في كثير من البلدان, حيث أعيد التفاوض علي العديد من الاتفاقيات التي وضح فيها بنودا مخلة بعملية التنمية. وكثيرا ما تؤدي التحولات الكبري في أعقاب الثورات أو الأزمات الكبري إلي تغيرات في أسعار السلع وتغيرات في المشاريع الاقتصادية بل وفي نمط التنمية ككل, إلي إعادة التفاوض, وخاصة حين يتعلق الأمر بالاستثمارات الضخمة في الموارد الطبيعية والبنية الأساسية. ولكن كثيرا ما يرجع السبب إلي أن معظم العقود التي أبرمناها لم تكن عادلة. ورغم أن العدالة قد تكون واضحة في بعض الأحيان, إلا أننا قد لا نمتلك الخبرات المطلوبة للتفاوض بما يسمح لنا بالتوصل إلي أفضل اتفاق ممكن.

والذين ينصحون صانع القرار بتقديم الحوافز والإعفاءات لجلب الاستثمار الأجنبي يعرفون أنه لم يكتب النجاح إلا لعدد ضئيل من الدول, مثل الصين والهند, اللتين تمكنتا من التفاوض علي قدم المساواة مع دول العالم الصناعي. والغريب في موضوع الاستثمار الأجنبي المباشر أننا نجهل طريقة التعامل معه ونعتبر كلما أكثرنا من تقديم الحوافز والإعفاءات استطعنا جذبه, ونجهل ما تقدمه القوانين والمنظمات الدولية من تدابير لحماية مجتمعاتنا فأحيانا تربط البلدان المضيفة منح حافز بالوفاء بشروط معينة في الأداء لا يحظرها الاتفاق المتعلق بتدابير الاستثمار المتصلة بالتجارة, الذي يعد ملزما لجميع الأعضاء في منظمة التجارة العالمية, فعلي سبيل المثال, قد تطلب هذه البلدان إلي المستثمرين أن يحدثوا عددا أدني من الوظائف, أو الاستثمار في منطقة محددة أو نقل تكنولوجيا معينة. كما وضح تماما بأن هناك اهتماما بالنسبة للغة الاتفاقيات مع المستثمرين, واستخدام الاستثناءات العامة في الصياغات, وإدخال إصلاحات علي إجراءات تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول, بوصفها سبلا لتعزيز دور الدولة, بالإضافة إلي مسألة مسئولية الشركات الاجتماعية وما يجب أن تتضمنه اتفاقات الاستثمار الدولية شروطا إلزامية تفرض علي المستثمرين, ثم أخيرا, كيف يمكن لاتفاقات الاستثمار الدولية أن تزيد مساهمة المستثمرين الأجانب في التنمية الاقتصادية والاجتماعية, بالإضافة إلي اتفاقات الاستثمار الدولية القائمة مثل الاستثناءات( الأمن الوطني, والنظام العام, والصحة العامة, والضمانات) وبشكل خاص فيما يتصل بتحويلات رءوس الأموال), والتحفظات التي من شأنها أن تمنح قدرة أكبر علي التحرك في مجال السياسات العامة في قطاعات معينة. كما يجب أن تكون اتفاقات الاستثمار التي يبرمها بلد ما منسجمة مع سياساته الاقتصادية والإنمائية الداخلية.

والمتتبع لمسيرة الاستثمار الأجنبي في مصر يجد أن نصوص اتفاقياتها لم تكن عادلة لنا ويرجع ذلك إلي أننا قد لا نمتلك الخبرات المطلوبة للتفاوض بما يسمح لنا بالتوصل إلي أفضل اتفاق ممكن.فالشركات متعددة الجنسيات الضخمة قادرة علي إرسال فريق تفاوض يتضمن محامين عالميين, وخبراء في الجيولوجيا, ومحللين ماليين مخضرمين. ولا نستطيع مجاراة مثل هذا الفريق. بل وربما لا ندري حتي ما الذي قد نحتاج إليه في إدارة مثل هذه المفاوضات.وبالطبع سوف تكون النتيجة عقدا أشد إثارة للشكوك والمشاكل. لذلك من الأهمية أن نستعين بخبراء دوليين لمساعدتنا في المفاوضات. فكثيرا ما نفتقر إلي الموارد اللازمة للتفاوض بشأن الاتفاقات التي نرغب في التفاوض بشأنها. وقد نشارك في المفاوضات دون أن تتوافر لدينا المعرفة اللازمة للحصول علي تنازلات كان بإمكاننا, لولا ذلك, الحصول عليها, أو دون أن يكون لدينا فهم تام للنتائج المترتبة علي الاتفاق الذي نبرمه في نهاية المطاف, أو دون أن تتوافر لنا القدرة علي الوفاء بمقتضيات الاتفاق بعد إبرامه. وفي كثير من الأحيان نجهل كيفية الموازنة بين المصالح الخاصة والعامة ضمن اتفاقات الاستثمار الدولية. وبالنسبة لمسألة قيود القدرة الاقتصادية, فكثيرا مـا نفتقر إلي الموارد البشرية المؤهلة في هذا التخصص والملمة بأحدث الاتجاهات في اتفاقات الاستثمار الدولية. وفي حالات كثيرة تكون تلك التشريعات أو فرادي التدابير متوافقة مع بعض اتفاقات الاستثمار الدولية الـتي وقعنا عليها ولكنها تتعارض مع اتفاقات أخري, مما يبرر الدعاوي المتصلة بانتهاك المعاهدات. فمن الضروري أثناء التفاوض بشأن عقد اتفاقات استثمار دولية جديدة, ضمان انسجامها مع التنمـية الاقتصادية لبلدنا وتعزيزها لهذه التنمية بالفعل.

وبعد كثرة المنازعات علي المستوي المحلي والعالمي وضح أن المؤسسات متعددة الجنسيات تريد أفضل صفقة ممكنة لصالحها; ولكنها أيضا تريد عقودا مستمرة لا ترفضها الحكومات القادمة. وهذا يعني أنها لديها مصلحة في التفاوض علي اتفاق عادل علي نحو ملحوظ للمراقبين. فضلا عن ذلك فإن تكاليف فرق التفاوض تكون ضئيلة نسبيا في الاتفاقات الضخمة( أو قد يكون من الممكن تعويضها أو استقطاعها من عائدات المشروع). وتثار مجموعة من الاقتراحات علي المستوي الدولي علينا الأخذ بها مثل الاستعانة بمؤسسة لإعانة عقود الاستثمار(ICAF), تعمل تحت مظلة إحدي المنظمات المحترمة علي مستوي العالم. وتستطيع مثل هذه المؤسسة أن تعمل كطرف ثالث مستأمن تدفع له الشركة الأرصدة المطلوبة لتمكين الدولة المضيفة من استئجار فريق تفاوض جيد. ثم يوجه مدير مؤسسة إعانة العقود الدعوة إلي الدولة المضيفة لاختيار الفريق, فيقترح عليها الخبرات والمهارات المطلوبة, بل وقد يقدم إليها قائمة بالخبراء في هذا المجال. وبهذا يكون للدولة المضيفة الحرية في اختيار فريقها, ولسوف تكون النتيجة في النهاية عقدا عادلا قدر الإمكان.

أما بالنسبة لموضوع الاستثمارات الأجنبية وتأثيراته السلبية علي الأمن القومي, علينا أن نعي الدرس من دولة كبري تمثل معقل الرأسمالية وهي الولايات المتحدة الأمريكية حيث أصبح تدقيق الحكومة الأميركية في بعض صفقات الاستثمار المباشر الأجنبية أمرا ملزما بموجب القانون الذي أقره مجلسا النواب بأنه يجب علي الحكومة أن تدقق بإمعان في الصفقات التي تعقد مع شركات أجنبية ويحتمل أن يكون لها تأثير علي الأمن الوطني الأمريكي. وقد فرضت حكومات كل من ألمانيا وكندا واليابان وروسيا والهند قيود علي المشتريات الأجنبية للشركات والعقارات في بلدانها. كما لجأت الحكومات إلي استخدام حواجز’ غير رسمية’ لتقييد الاستثمارات الأجنبية والحد منها وذلك بإعلان صناعات معينة أو شركات محددة أنها ممنوعة عن الاستثمار أو التملك الأجنبي. إن المشكلة الحقيقية في بلدنا ليست عدم كفاية الاستثمار. بل إن البيئة المبنية تتدهور نتيجة للنهج المفتت المجزأ في التخطيط للبنية الأساسية وتمويلها وتسليمها وتشغيلها, والذي يؤكد علي التكلفة وفئة الأصول والموقع الجغرافي. ومن ثم علين أن ننهج من سبقونا ففي كوريا الجنوبية نجح مركز إدارة الاستثمارات العامة والخاصة في البنية الأساسية في خفض الإنفاق علي البنية الأساسية بنسبة35%; واليوم يرفض المسئولون46% من المشاريع المقترحة التي يراجعونها, مقارنة بنحو3% سابقا. وعلي نحو مماثل أنشأت المملكة المتحدة برنامج مراجعة التكاليف الذي حدد أربعين مشروعا رئيسيا كأولويات, وأصلح عمليات التخطيط الإجمالية, ثم أنشأ لجنة فرعية في مجلس الوزراء تتلخص مهمتها في ضمان تسليم المشاريع بسرعة أكبر, وبالتالي خفض الإنفاق علي البنية الأساسية بنسبة15%. ويتولي جهاز الاستثمار العام الوطني في شيلي تقييم كل المشاريع العامة المقترحة باستخدام نماذج وإجراءات ومقاييس معيارية ــ ويرفض ما قد يصل إلي35% من المشاريع المقترحة.