IMLebanon

الصين: دروس مستفادة من أكبر حملة لمكافحة الفساد الاقتصادي

ChinaCorrupt

بعد عقود من التركيز على النمو بأي ثمن، قررت الصين التضحية ببعض منه والتركيز على جعله أكثر استدامة. فرغم النجاح منقطع النظير لتلك الدولة المليارية، توجد عدة عوامل تهدد جميع المكتسبات التي دفع المجتمع ثمنا باهظا لتحقيقها، من الدماء خلال الحرب الأهلية و”الزحف العظيم” إلى التقشف والقهر خلال الثورة الثقافية وبناء الصين الحديثة.

ورغم أن تلك الجهود جعلت الصين على رأس اقتصاديات العالم ورفعت عشرات الملايين من فقراءها للطبقة المتوسطة سنويا، إلا أنها أنتجت في حد ذاتها تحديات جديدة. فما الفائدة بالنسبة لقرية صينية أن تقايض الفقر المدقع بمصنع يمرض كل سكانها حتى تتساقط أسنانهم في العشرينات ويموتون قبل بلوغ الأربعين؟ وماذا يجدي بناء ناطحات سحاب بديعة في بكين إذا غطتها الأدخنة السامة عن الأنظار طوال العام؟ وما جدوى التنمية إذا انتهت ثمارها في حسابات سرية لمسئولين خارج البلاد بدلا من بطون الشعب؟ وما معنى تعيين المزيد من الموظفين العموم إذا كانوا يبتزون المواطن بدلا من توفير الخدمات؟ وأهم من ذلك كله بالنسبة للحزب الشيوعي الحاكم، أيهما يفضل: تصحيح مسار تلك الانحرافات أم انتظار نسمات الربيع الصيني؟
كل هذه الآفات البيئية والمجتمعية تحتاج إلى كم هائل من المجهود وسنوات طويلة للقضاء عليها. لكن النظام الصيني توصل إلى يقين أنه لن يحقق شيئا دون على تلك الأصعدة دون مكافحة الفساد. فإذا طبقت أشد المعايير البيئية على المصانع واكتفي القائمون على التفتيش بجمع الرشا لتركها تعمل لن تحقق شيئا. كما أن المتضرر من هذا الفساد سيحمل مسئولية مأساته على الإدارة الصينية وقد ينتهي الأمر إلى انتفاضة عشرات أو حتى مئات الملايين يستحيل احتوائها.

والصين لديها العديد من الأسباب لتكافح الفساد كجميع دول العالم. البعض لا يمتلك الحكمة حتى للمبادرة أو الفهم بأن الفساد يهدد النظم السياسية، والكثير من حكومات الدول النامية التي تريد محاربة الفساد تفشل في ذلك، أو على الأقل لا تحقق تقدما ملحوظا في الأمر. لذا لا يجب الالتفات إلى رغبة الصين في الإصلاح الإداري بحد ذاتها، فالجميع يمكنه الاتفاق على أن الفساد سيء. لكن يجب الالتفات إلى منهجية هذا الإصلاح وعدة عوامل مبتكرة فيه.

1- الإصلاح لا يعني تراجع الدولة

منذ الثمانينيات وهناك اعتقاد راسخ أن الإصلاح المؤسسي للأجهزة الحكومية يرادف تقليص عدد العاملين فيها والتناقص المضطرد للميزانيات التي تخصص لها. هذا التوجه الذي ينتمي لمدرسة شيكاغو للاقتصاد تروج له المنظمات العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي ومكاتب التقييم العالمية والغالبية العظمى من الأكاديميين واللاعبين في النظام المصرفي. وتعالت أصوات بعض نواب المجلس الوطني للشعب الصيني منادية بنقل هذا النموذج. ولا يزال هناك حديث عن تقليص عدد العاملين في دواوين الحكومة بنسبة 20 %. وتتعامل الحكومة مع هذا المطلب بحنكة شديدة. فتارة تذكر أن العاملين في الدولة يمثلون أقل من نصف في المائة من عدد السكان أي ما بين 7 و10 مليون موظف لأكثر من مليار مواطن (للمقارنة فرنسا لديها 6 مليون موظف لستين مليون مواطن ومصر ما يقرب 7 مليون لثمانين مليون مواطن) ما يمثل كفاءة مرتفعة للغاية. وحتى عندما انتصر هذا التيار ونال دمج وزارات في مطلع الثمانينيات تم تقليص عدد العمالة الغير مؤهلة واستبدالها بـ”كوادر”، أي موظفين ذوي درجات علمية مرتفعة أغلبهم يكونوا أعضاء فاعلين في الحزب الشيوعي. بهذا تتمكن الدولة بإحكام قبضتها على الجهاز الإداري في جميع الأحوال، ولا تتحول إلى دولة رخوة تحت دعوى الحوكمة.

2- الارتكاز على ثقافة البلد

موضوع البيروقراطية في الصين ليس هينا. فالصين تاريخيا كانت أم البيروقراطية منذ قديم الأزل. وتمكنت الإمبراطورية الصينية على حكم تلك المساحات الشاسعة التي تتنوع فيها اللغات والجغرافيا بفضل جهاز بيروقراطي منظم ومنهجي بينما كان الأوروبيون يعيشون في فوضى العصور المظلمة. وارتكزت الإدارة الصينية في خطتها الإصلاحية على مفاهيم مترسخة في ثقافة الشعب ترجع إلى تلك العصور السحيقة. فما يضايق الصينيين في الجهاز الحكومي ليس القسوة، وإنما غياب العدالة. فحتى تحت الحكم الإمبراطوري الذي يجعل الحاكم شبه إله، كان هناك امتحان دوري في أرجاء البلاد يفرض على جميع العاملين أو من يريدون العمل في الدولة. وكان التأهل في اختبارات الحساب والذكاء والذاكرة والكتابة هو مفتاح تقدم الفرد في الجهاز الإداري. ولم يكن هناك مجال للمحسوبية حيث كان من الممكن أن ينتهي قريب للإمبراطور في وظيفة حارس بينما يصل قروي موهوب في الحساب إلى القيام على خزانة الدولة. وبغض النظر عن دقة هذا المفهوم تاريخيا لكنه مترسخ في العقل الصيني ويمثل الإدارة الرشيدة التي يريدها الناس. لذا يمثل الارتكاز على تلك الأساطير المؤسسة أسلوبا ذكيا لتوفير أرضية شعبية لبرنامج الإصلاح. بينما فشلت محاولات إصلاح في العديد من الدول النامية لأن القائم عليها كان يرتكز على التشبه بالغرب دون مراعاة الثقافة المحلية.

والطابع الثاني الذي يؤكد على فاعلية احترام الثقافة المحلية هو اختيار مصطلحات يفهمها الجميع من المزارع إلى رئيس الوزراء خلال حملة التطهير العملاقة وبأسلوب صيني خالص. في مراحل الإصلاح المختلفة، حددت الحكومة مكامن الفساد وأطلقت عليها مسميات قد لا تعني شيئا لمسئولي البنك الدولي لكنها تحفر في ذهن المواطن الصيني فورا. بدأت الحملة الموسعة ضد فئتان من الفسدة: الذباب والنمور، ثم امتدت لملاحقة العرايا!

3- لا أحد فوق المحاسبة

الصورة واضحة. عملت الحكومة على التضييق على الذباب. كائنات مزعجة كثيرة العدد تتجمع على أي فرصة لاقتناص طعام لها. ينطبق ذلك على ضابط المرور أو موظف الميناء الذي يجمع الرشى الصغيرة أو يفرض الإتاوات في شكل إكراميات على المتعاملين. ويجب إخافة الذباب وإبعاده بشكل دوري وعدم ترك فرصة له للتسلل ووضعه تحت المراقبة. وهو غير قادر على مواجهة السلطات الصينية المرعبة فيبتعد عن ممارسته ببعض الحزم والعقوبات المثالية.
أما النمور فهي المفاجأة الكبرى التي تصدم المراقبين الدوليين وتوضح جدية الصين في خطتها الطموحة للقضاء على الفساد في وقت قياسي. اعتقد البعض في البداية أن الأمر سيقتصر على رجال أعمال فاسدين أو موظفين كبار من خارج الحزب الحاكم مثلما حدث في روسيا مطلع الألفية. لكن العقوبات القاسية طالت بعض أباطرة النظام كان يعتقد أن سلطاتهم مطلقة ولهم صلاحيات غير محدودة. عندها ظهر تفسير بأن هذه التحقيقات مؤشر على تصفية حسابات داخلية في قلب الحزب الشيوعي الصيني. لكن مع توالي القضايا الضخمة لم يظهر تيار بعينه في النظام يمكن الجزم بأنه مستهدف. علقت اللجنة المركزية للرقابة على الانضباط رؤوس نمور لم يتخليها أحد على جدارها: من المسئول عن الموارد الحكومية وأبرز قيادي في مجال البترول الصيني جيانج جيمين، ووزير التجارة السابق القيادي في الحزب بو زيلاي إلى وزير الداخلية السابق زو يونج كانج، مرورا بالإعلامي المتعصب لصالح النظام روي شنج جانج! لم يرحم النظام أصدقائه وإذا استمرت العدالة بهذا الأسلوب (قاطعة وغير مسيسة) من الصعب تخيل أن يجرؤ أحدا من كبار المسئولين على التحايل.

4- الإصلاح عمل اجتماعي لكن الفساد جريمة

شهدت الدول النامية عقودا من الوعود بمكافحة الفساد دون تقدم حقيقي. وبما أنها كانت في معظم الأوقات تقام لإرضاء المانحين للقروض والمساعدات، كانت تأخذ قواعد جامدة وتنقلها محققة هكذا المعايير الورقية المطلوبة من الدولة. كما لا يجب إنكار أن هناك عددا من الحكومات حاول جديا أن يواجه تلك الظاهرة. وهناك مدرستين في مكافحة الفساد بشكل عام، مدرسة اجتماعية تريد إلغاء الفساد بتقليص العوامل التي تؤدي له بتصميم نظم مبتكرة ورفع أجور الموظفين وتشجيعهم، ومدرسة أخرى عقابية تكتفي بسن قوانين جنائية دون إمكانية تطبيقها. وفي الواقع معظم الدول تحاول إدماج المنهجين في صورة العصا والجزرة.

لكن من الواضح أن الإدارة الصينية تعمل بشكل مختلف تماما قد يكون التعلم به مفيدا لكثير من الدول النامية. فهي لا تؤمن إلا بعقاب الفاسدين الذي يصل إلى السجن المؤبد وليس الفصل أو الغرامة. لكنها مع ذلك لا تتجاهل الطابع الاجتماعي، بل توظفه ليصبح أداة بحث جنائي. إذا لم تدرس الإدارة الأعراض الاجتماعية التي تؤدي إلى الفساد أو تدل عليه واكتفت بالتوعد لما كانت فلحت بالمرة. هكذا بدأت عدة حملات تركز على أعراض اجتماعية للفساد الإداري. وبعد تقدم محسوس سواء في أعلى درجات الإدارة أو أدناها، بدأت الإدارة في التعرض للجذع نفسه وهو الموظف المتوسط. وهنا استخدمت علم الاجتماع لفلترة الممارسات الفاسدة.

فمن غير المنطقي مثلا، أن يكون موظف راتبه متواضع يرتدي ساعة بأربعين ألف دولار. ضيقت الصين على الفساد عن طريق الهدايا حتى وصل الأمر إلى منع تلقي الكعك في الأعياد! هل نجح الأمر؟ يبدو كذلك لأن نمو مبيعات الشركات العالمية للمنتجات الفاخرة في الصين توقف فور تفعيل المبادرة وأثر ذلك على النتائج المالية لتلك الشركات بشكل مباشر.

أما الآن، فبدأت البحث عن “العرايا” في الإدارة. والموظف “العاري” في قاموس الحزب الشيوعي الصيني هو موظف انتقلت عائلته للخارج. وهو أكثر عرضة للفساد بشكل كبير، فهي ظاهرة متفشية في العديد من الدول كنيجيريا وباكستان وروسيا والفلبين على سبيل الذكر لا الحصر. يعمل الشخص في الجهاز الحكومي بينما عائلته هاجرت إلى دولة غربية وتتمتع بمستوى معيشة لا يتناسب مع راتبه الرسمي بالمرة دون أن يبدو الموظف ملفت للنظر داخل البلاد. كما أنه من السهل تحويل الرشا إلى الموظف من الخارج إلى الخارج دون أن تتمكن الإدارة من رصدها في النظام المصرفي الصيني. والآن تعمل الحكومة على بناء جهاز متخصص في هذه الحالات يجمع البيانات المتفرقة حول الموظفين وعائلاتهم، ويتعقب الأموال المنهوبة والجناة حتى أبعد بقاع الأرض.