IMLebanon

هل تنجح فرنسا في إزاحة الدولار؟

TornDollar

محمد إبراهيم السقا

اتهم بنك بي إن بي باريبا أكبر البنوك الفرنسية بتسهيل حرية الوصول إلى السوق العالمي للدولار من خلال مركز التسويات الدولارية في نيويورك لدول تحظر عليها الولايات المتحدة إجراء أي معاملات بالدولار الأمريكي، مثل السودان وكوبا وإيران، خصوصا تلك المعاملات المرتبطة بصادرات النفط والغاز، وذلك عن طريق عمليات تمت هندستها في فرع البنك بسويسرا، وذلك من خلال إخفاء أسماء بعض العملاء عن عمد على النحو الذي لا يمكن الولايات المتحدة من اكتشاف هوية العملاء الأصليين لهذه المعاملات، وقد قدرت هذه العمليات بنحو 190 مليار دولار خلال الفترة من 2002 ـــ 2012، وكانت الولايات المتحدة قد فرضت مقاطعة على السودان وذلك بسبب اتهامه بدعم الإرهاب واشتباه وجود صلات مع القاعدة، فضلا عن الاتهامات المستمرة بمخالفة حقوق الإنسان في دارفور، ووفقا لهذه المقاطعة لا يجوز للسودان إجراء أي معاملات تتم بالدولار الأمريكي، وكذلك فعلت مع كوبا وإيران. مثلت هذه العمليات التي قام بها بي إن بي باريبا مخالفة للقوانين الأمريكية التي تحظر تسوية أي معاملات مالية لهذه الدول بالدولار الأمريكي.
لمعاقبة البنك أصدرت المحكمة الفيدرالية الأمريكية حكما يقضي بإلزامه بدفع غرامة مالية بقيمة 8.97 مليار دولار، ومنع البنك من إجراء بعض أشكال المقاصة على معاملاته الدولارية من خلال فرع البنك في نيويورك لمدة عام يبدأ في منتصف كانون الثاني (يناير) القادم، وذلك عوضا عن إلغاء رخصة البنك في نيويورك، والتي كان من الممكن أن تخرج البنك تماما من الولايات المتحدة، ويشمل المنع أيضا وحدات البنك بما فيها مركز البنك في باريس، ومكاتبه الأخرى المخالفة لقانون العقوبات في جنيف وبعض المراكز حول العالم، ويعد هذا الحظر نوعا جديدا من العقوبات التي تطبقها الولايات المتحدة على المؤسسات المالية المخالفة، وكذلك ألزمت البنك بالتخلص من 13 من كبار موظفيه بمن فيهم كبير رؤساء العمليات شودرون دي كورسيل، فضلا عن حرمان البنك من قدرته على أن يكون مراسلا لبنوك أخرى في نيويورك لأغراض مقاصة النقد الأجنبي لمدة سنتين.
أحدثت الغرامة صدمة في سوق الخدمات المصرفية العالمي، وفي تبرير لحجم الغرامة، أشارت المحكمة إلى أنها تعكس مستوى المخالفة التي ارتكبها البنك، حيث إن البنك اتخذ إجراءات تحول دون تطبيق قوانين المقاطعة الأمريكية، وأكد المراقبون أن الغرامة الضخمة وكذلك باقي العقوبات تعكس حقيقة أن البنك لم يلتزم بقوانين المقاطعة الأمريكية، واضعا أرباحه في المقام الأول، قبل أي اعتبار آخر، غير أنه من الواضح بعد هذه العقوبات أنها تعكس حقيقة أن الإمبراطورية الأمريكية المستندة إلى قوة الدولار كعملة للعالم هي التي ترسم قواعد اللعبة على النحو الذي تراه في هذا العالم الذي نعيش فيه، وكيف تتم اللعبة أيضا بالصورة التي تبتغي أن تراها أمريكا. غير أن الحكم قد نظر إليه من جانب الأوروبيين على أنه يمثل حالة استعراض عضلات واضحة للقوة المالية الأمريكية، للتأكيد على سيطرتها على المعاملات المالية التي تتم بالدولار عبر العالم، وفي الوقت ذاته إرسال رسالة واضحة وحاسمة ف لأي مؤسسات مالية حول العالم يمكن أن تفكر في تحدي إرادة الولايات المتحدة الخاصة بقرارات المقاطعة.
في أول رد فعل على العقوبات الضخمة التي فرضتها الولايات المتحدة على بي إن بي باريبا، طالبت فرنسا العالم بوضع نهاية لسيادة الدولار الأمريكي، حيث دعا رئيس الوزراء الفرنسي إلى ضرورة إعادة التوازن لسوق العملات العالمية ووضع نهاية لسيطرة الدولار الأمريكي على تلك المعاملات.
دعوة فرنسا لإعادة التوازن في سوق العملات الدولية ليست نقية، فهي تعكس في الدرجة الأولى الرغبة في الانتقام من الولايات المتحدة بسبب الإجراءات التي اتخذتها في حق أكبر البنوك الفرنسية، والتي تراها فرنسا غير عادلة، حيث تعتقد أن ما قام به البنك من معاملات غير قانونية، من وجهة النظر الأمريكية، ليس على هذا النحو من وجهة النظر الأوروبية، هذا بالطبع فضلا عن العداء التقليدي الفرنسي للهيمنة النقدية الأمريكية، منذ اتفاقية “بريتون وودز”.
في حديث له مع الـ “فاينانشيال تايمز” ذكر رئيس الوزراء الفرنسي أن انكشاف أوروبا على الدولار الأمريكي يعرض الدول الأوروبية لمخاطر غير ضرورية في النقد الأجنبي، وأن منطقة اليورو لا بد أن تسعى نحو استخدام عملتها اليورو في تمويل التجارة العالمية، وقد ذكر بالحرف “أنه مقتنع بأن منطقة اليورو لا بد أن تسأل نفسها مرة أخرى عن الدور الذي يجب أن تعطيه لعملتها المشتركة”، وهي دعوة لمطالبة الدول الأوروبية بالتخلي عن الدولار الذي يسيطر على تجارتها، مشيرا إلى أن سيطرة الدولار الأمريكي لها العديد من النتائج السلبية، بما فيها تدخل النظام القضائي الأمريكي خارج حدود الولايات المتحدة، وأن ما حدث مع بنك بي إن بي باريبا يؤكد حاجة الاتحاد الأوروبي إلى استخدام عملات أخرى غير الدولار، وقد تساءل رئيس الوزراء الفرنسي قائلا، “نحن في أوروبا نتاجر مع الآخرين باستخدام الدولار، فهل نحن بالفعل في حاجة إلى أن نقوم بذلك؟” مجيبا على تساؤله بأنه لا يعتقد بذلك تماما، وبالعكس إنه يعتقد أن أوروبا لا بد أن تغير هذا التوازن في العملات، ليس فقط نحو اليورو، وإنما أيضا نحو العملات الأخرى التي يتزايد ثقلها يوما بعد يوم في سوق العملات العالمية، وذلك من أجل إحداث التوازن اللازم في المعاملات النقدية العالمية بعيدا عن الدولار.
والواقع أن حديث رئيس الوزراء الفرنسي فيه قدر كبير من الصحة، من حيث لا معقولية تدخل المحاكم الأمريكية في الكثير من الحالات خارج نطاق اختصاصها القانوني، بما في ذلك حالة الأرجنتين التي تعرضت لإفلاس قهري بسبب قرار قاض في محكمة أمريكية، فمن وجهة نظر الفرنسيين، فإن ما قام به البنك لا يخالف القواعد الأوروبية، وأن البنك سقط ضحية للنظام القضائي الأمريكي.
اليوم ليست فقط فرنسا هي التي تريد اختفاء النظام الذي يقوم على سيطرة الدولار، فالكثير من الدول والشركات تريد الابتعاد عن الدولار بسبب قدرة أمريكا على تجميد الأرصدة الدولارية في البنوك الأمريكية، بل والأكثر خطورة هو القدرة على شل إمكانية الوصول إلى سوق التسويات الدولارية الدولي الذي مركزه في نيويورك، والذي يعني من الناحية الواقية تعطيل أعمال المؤسسات المالية بشكل جوهري ويؤدي إلى شل قدراتها التنافسية، وهناك اتجاه متزايد بين بعض البنوك المركزية اليوم إلى تنويع احتياطياتها بعيدا عن الدولار. مثل هذه التحركات بنى عليها الكثير من المحللين الفروض المرتبطة باختفاء الدولار من التعامل في العالم وأفول نجم الدولار كعملة احتياط في العالم وبزوغ الفرصة للكثير من عملات العالم التي تصلح لأن تكون بديلا للدولار، وبصفة خاصة اليورو واليوان الصيني.
كذلك يرى بعض المحللين أنه بتحول الصين إلى أكبر اقتصاد في العالم واحتلالها مكانة الولايات المتحدة في هذا المجال، فإن ذلك سيساعد على التحول نحو النظام النقدي اللا دولاري في العالم، والذي لا تحميه أصول حقيقية بالمعني التقليدي للعملة الاحتياطية العالمية، وإنما تحميه القوة العسكرية الضاربة في أمريكا، وأن مراكز الثقل الاقتصادي تتحول اليوم من الولايات المتحدة إلى مناطق أخرى في العالم، والدولار الأمريكي يخسر المزيد من الأرض يوما بعد يوم، والحكومة الأمريكية لا تستطيع أن تفعل شيئا حيال ذلك، ولكن هل هذا التحليل واقعي؟ وهل هناك ما يؤيد ذلك على الأرض؟ وهل تجد دعوة فرنسا صدى لدى دول أوروبا أو المناطق الأخرى في العالم؟ هذا ما سنحاول أن نحلله في الأسبوع القادم – إن شاء الله.