IMLebanon

سياسة باريس الاقتصادية … الوصول للحضيض

FinancialTimes
هيو كارنيجي
صورة بائسة تم بثها مباشرة هذا الأسبوع لشخصية الرئيس الفرنسي، يبدو فيها يائساً من رئاسته، كانت كافية لتلخيص محنة فرانسوا هولاند. هولاند، الذي انتقل جواً على متن مروحية إلى جزيرة سين، التي تعصف بها الرياح قبالة ساحل بريتاني الشرقي الصخري، لإحياء ذكرى تحرير فرنسا من الاحتلال النازي قبل 70 عاماً، وقف لإلقاء خطابه بدون حماية من عاصفة الأطلسي المطرية الجليدية.

بدون محضر جلسة رئاسية، بدون مساعد شخصي، ولا حتى مسؤول علاقات عامة في حالة تأهب يتقدّم بمظلة، بدلاً من ذلك، تُرك الرئيس الأقل شعبية في تاريخ فرنسا ما بعد الحرب، وحيداً ومُتسخاً على خلفية جزيرة قاتمة، والمطر يحجب نظاراته، ويُبلل شعره ويُرهق عنقه. كتبت صحيفة لو كانار إنشينيه الساخرة دعابة على صفحتها الرئيسية “أنا ومعي الطوفان”. والمثير للمفارقة، أن الواقعة حدثت في اليوم الذي كان كثير من الناس يعتقدون أن هولاند قد اتخذ الإجراء الأكثر حسماً، في فترة رئاسته على مدى 28 شهراً. في ذلك الصباح، طهّر حكومته الاشتراكية من اليساريين المعارضين، ومنح زمام الأمور مانويل فالس، رئيس وزرائه المُشاكس، لدعم إصلاح السوق الذي لطالما كان شركاء فرنسا الدوليون يحضون باريس، من قِبل لإنعاش ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا.

أولئك اليائسون لرؤية فرنسا تنتعش من صورة الركود يأملون أن الإخراج المثير لرئيس الاقتصاد السابق المضطرب، أرنو مونتيبورج، الذي يُعتبر من أشد منتقدي العولمة، والمكافح العنيد ضد سياسات التقشف في الاتحاد الأوروبي، قد يُمثل نقطة تحوّل. الفريق الصغير الداعم لهولاند – لا تزال شعبيته عالقة عند نسبة 20 في المائة أو أقل – يأمل أن إعادة تنظيم الحكومة، وتبني السياسات الداعمة للأعمال سوف تعكس موقفه السيئ، الذي تُمثله بشكل واضح الأجواء المُحيطة بجزيرة سين.

مهما كانت النتائج، فإن أحداث هذا الأسبوع قد بيّنت الصعوبة المؤلمة التي تواجهها مؤسسة السياسة الفرنسية في مواجهة الأزمة الاقتصادية المزمنة، التي أبرزها النمو بمعدل صفر في النصف الأول من هذا العام، فيما زاد معدل البطالة المكون من رقمين بمقدار نصف مليون شخص، منذ أن تسلم هولاند السلطة في عام 2012.

يقول باسكال بيرينو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة العلوم السياسية: “لأن كلا الحزبين اليميني واليساري في فرنسا أجّلا سن الإصلاحات الهيكلية لأعوام، لذلك يجب أن تتم الآن في ظروف صعبة جداً، وهي تزعزع النظام السياسي من أساسه”.

المخاطر بالكاد يمكن أن تكون أكبر. احتمالات هولاند الضعيفة بالفعل لإعادة الانتخاب في عام 2017 تعتمد على العودة إلى النمو، وفوق كل شيء، على حدوث تحويل جذري في معدل البطالة. بسبب انخفاض صدقيته، كانت هناك دعوات من المعارضين يطالبون باستقالته – وهو سيناريو لا يمكن تصوّره تقريباً بالنسبة لرئيس تم انتخابه لمدة خمسة أعوام. حزبه الاشتراكي انغمس الآن في الضجة الداخلية لتحويل سياسته، التي ستكون صاخبة في عطلة نهاية هذا الأسبوع، في مؤتمر الحزب الصيفي في الميناء الغربي لمدينة لاروشيل، التي سيظهر فيه كل من مونتيبورج وفالس.

إذا كانت هناك أي مواساة بالنسبة لهولاند فهي أن حزب الحركة الشعبية اليمين الوسط المعارض، الذي يستعد لما يبدو أنه عودة وشيكة للرئيس السابق نيوكولاس ساركوزي، هو أيضاً ممزق من المنافسات القيادية، والفضائح المالية، ومشاحنات سياسته الخاصة بشأن أوروبا والاقتصاد.

في الوقت الذي تتصارع فيه الأحزاب السائدة داخلياً، هناك من ينظر باستمتاع لا يكاد يكون مخفياً، وهي مارين لو بان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف. لقد ظهرت، الفائزة في انتخابات البرلمان الأوروبي في أيار (مايو)، أول مرة من خلال استطلاع رأي حديث، لتتفوق على هولاند وساركوزي في سباق الانتخابات عام 2017. موقفها الشعبي يستند إلى مكافحة المهاجرين، ومكافحة منصة الاتحاد الأوروبي الرافضة للإصلاحات، التي تصوّرها بأنها مزيج من تحرير الأنظمة “الليبرالية المتطرفة” وسياسة التقشف التي فرضتها بروكسل وبرلين. وهي في هذه المرحلة لا تعتبر فائزة محتملة للإقامة في قصر الإليزيه، لكنها لا تعاني أيا من معاناة السياسة للحزبين الكبيرين والتهديدات، لإخراج واحد أو آخر من الجولة الثانية من الانتخابات المقرر عقدها عام 2017.

يقول جيرارد جرانبيرج، وهو أيضاً أستاذ علوم سياسية في جامعة العلوم السياسية: “إن الضغوطات من أوروبا تفجر الانقسامات اليمينة اليسارية القديمة. إنها تصبح قضية تتعلق أكثر بأوروبا ضد القوميين، والمستفيد الرئيسي هو حزب الجبهة الوطنية”. يُضيف موظف حكومي كبير: “نحن في وضع خطير جداً. مارين لا تقول الكثير في هذه اللحظة، فقط تنتظر عودة الحشد إليها”. أوروبا كانت السبب المباشر لإخفاق مونتيبورج. في تحد صريح لسياسة الحكومة – الثابتة الآن على تخفيض الضرائب للشركات، ومتوازنة مع تخفيضات في فاتورة الإنفاق العام الكبيرة في فرنسا – يُطالب بالتخلي عن أهداف عجز الميزانية المُحددة من الاتحاد الأوروبي، لصالح زيادة القوة الشرائية للأسر من أجل تحفيز الطلب.

هولاند وفالس يرغبان أيضاً في تخفيف الاتحاد الأوروبي لأهدافه الجامدة المتعلقة بالموازنة، لكنهما يصرّان على أن فرنسا – التي تجاهلت سياسة التقشف المفروضة على العديد من بلدان منطقة اليورو – لا يمكنها تحمّل أكثر من استرخاء هامشي، نظراً لديونها العامة البالغة تريليوني يورو والقطاع العام الذي يمثّل 57 في المائة من الناتج الأهلي، وهو واحد من أعلى المستويات في أوروبا.

قال فالس: “لقد أنفقنا فوق طاقتنا من مواردنا المالية خلال الأعوام الـ 40 الماضية”. الأهم من ذلك، أن القطيعة مع مونتيبورج كانت تمثل معركة داخلية صريحة داخل الحزب الاشتراكي، حول التزام هولاند المُكتشف حديثاّ بالديموقراطية الاجتماعية الموّجهة نحو الأسواق، التي تكرر الاضطرابات في حزب العمال البريطاني في التسعينيات في عهد توني بلير. الفرق هو أن هذا يحدث في ظل ضغوط اقتصادية حادة، بينما الحزب هو من يتولى الحُكم، وليس المعارضة.

إن استبدال وزير الاقتصاد مونتيبورج بإيمانويل ماكرون، المصرفي الاستثماري الشاب السابق في بنك روتشيلد، أثار الجروح الكامنة لدى الحزب اليساري الاشتراكي. ماكرون تسبّب بصيحات من الغضب عندما تم الكشف أنه كان قد دعا إلى إلغاء القانون الفرنسي لأسبوع العمل المكون من 35 ساعة، في مقابلة مع مجلة تم إجراؤها تماماً قبل أن يتم استدعاؤه لتولي المنصب. وفالس أيضاً، عازم على نقل الاشتراكيين إلى أرض الوسط. أعلن يوم الأربعاء قائلاً: “أنا أحب الأعمال”، في مناشدة محسوبة لمؤتمر ميديف السنوي، وهو اتحاد رجال الأعمال الذي يكره اليساريين، الأمر الذي أكسبه حفاوة بالغة.

ماريان لو بان

لوران بوميل، عضو مجموعة من “المتمردين” في المجموعة البرلمانية الاشتراكية، قال إن خطاب فالس كان “منقولاً” عن خطاب توني بلير. كما اشتكى بقوله: “بعبارة أخرى، لقد كان عرضاً أيديولوجياً للانفكاك من كل شيء، كنّا نحن الذين على الجانب اليساري نؤمن به منذ عقود”. لطالما تم اعتبار هولاند بأنه ديموقراطي اجتماعي سري، لكنه لم “يعلن عن نفسه” حتى كانون الثاني (يناير) عندما تبنّي لأول مرة مجموعة صريحة من السياسات المؤيدة للأعمال من جانب العرض، في محاولة يائسة لإنعاش الاقتصاد. النتيجة كانت إطلاق عمله المُخادع بإبقاء جميع الفصائل الاشتراكية في المجلس، الذي ميّز دوره السابق كرئيس مسؤول في الحزب. يقول الأستاذ جرانبيرج: “البعض يراها بأنها حرب. الأمر صعب جداً بالنسبة لهولاند، خاصة لأنه لم يتم الموافقة أبداً على الموقف السياسي الجديد من قِبل مؤتمر الحزب”. تواجه الحكومة الآن بضعة أشهر عصيبة حيث تعمل للحفاظ على أغلبية في البرلمان من أجل عملياتها للإصلاح – خاصة موازنة عام 2015 المقرر وضعها الشهر المقبل – في مواجهة عداء المتمردين وغيرهم من الخصوم في الأحزاب الحليفة مثل الحزب الأخضر.

الحديث عن هزيمة التصويت بسحب الثقة من الحكومة، وحل البرلمان قد تكون مُضللة، حيث ستؤدي إلى خسارة عشرات المقاعد الاشتراكية – وهو احتمال يبدو من غير المرجح أن يدعو إليه المتمردون.

بالمثل، فإن حزب الحركة الشعبية ليس لديه الكثير من الأسباب للضغط باتجاه حل البرلمان، فهو مشغول بمعركة قيادية تلوح في الأفق، وغير مهتم بتشكيل حكومة للتعايش مع هولاند، بافتراض فوز الحزب بانتخابات تشريعية جديدة.

الحدث الأكبر بالنسبة لحزب الحركة الشعبية هو عودة ساركوزي المتوقعة، الذي تعهد بالكشف عن نواياه في الأسابيع القليلة المقبلة. بالتأكيد ليست لديه نية تشكيل حكومة، بينما هولاند في المنصب. يقول الموظف الحكومي: “إن استراتيجيته هي أنه كلما أصبحت الأمور أسوأ بالنسبة لهولاند، تكون أفضل بالنسبة له”.

ساركوزي لن يحصل على كل شيء بطريقته في حزب الحركة الشعبية بأية حال. آلان جوبيه، رئيس الوزراء السابق، والسياسي المخضرم الذي يحظى باحترام كبير، والزعيم السياسي الأكثر شعبية في استطلاعات الرأي، قال هذا الشهر إنه سيرشح نفسه لرئاسة الحزب المقبلة، “مهما يحدث”. كذلك، فإن فرانسوا فيلون، رئيس الوزراء لمدة خمسة أعوام في عهد ساركوزي، يعتزم نفس الشيء.

التحدّي الأكبر أمام هولاند الآن هو سن إصلاحاته، والأمل أن تُسفر عن نتائج ملموسة مع الوقت، وذلك لمنحه فرصة للانتعاش عام 2017. يقول الأستاذ بيرينو: “نحن ما زلنا في انتظار تدابير ملموسة. لقد كان هناك حديث أكثر من الأفعال، وليس هناك الكثير من الوقت”. سواء في حزبه أو في حزب الحركة الشعبية، يعتقد العديد أن الوقت قد فات بالفعل: الشخصية البائسة في جزيرة سين، قد تكون في النهاية شعاراً يُعبّر عن يوم مأسوي في فترة ولاية هولاند، أكثر من كونه يوم الإطاحة بمونتيبورج، بيد أنه في هذه المرحلة، هناك شخص واحد فقط يبدو من المؤكد أنه هو من سيستفيد: مارين لو بان. وكما يقول الأستاذ بيرينو: “الجميع يخاف من مارين لو بان”.