IMLebanon

العلاقات الارتباطية بين الفقر المائي وشرعية الأنظمة بالشرق الأوسط

سكوت جرين وود

خلال السنوات الماضية، برزت اتجاهات أكاديمية تربط بين قضية المياه في المنطقة العربية، ومستقبل الاستقرار السياسي والمجتمعي بدول المنطقة، خاصة أن أغلب المناطق العربية تعاني ندرة فى المياه، نظراً لوقوعها في المناطق الجافة وشبه الجافة من الكرة الأرضية، فضلا عن الآثار المحتملة للتغيرات المناخية على دول المنطقة .

من ثم، افترضت العديد من الأدبيات أن استمرار أنماط الاستهلاك الحالية في العالم العربي، مع نقص كمية المياه، وتغير نوعيتها للأسوأ سيقود إلى احتدام المنافسة والصراع حول المياه، وما يتصل بهذا من أزمات اجتماعية حادة.

وفي هذا الصدد، يتناول سكوت جرين وود، عبر دراسته المنشورة بدورية سياسة الشرق الأوسط (صيف 2014) والمعنونة بـ “الخطر المائي وتغير المناخ والحكم في العالم العربي” التداعيات المحتملة لأزمة المياه على الأوضاع القائمة في الدول العربية. وينطلق الكاتب من دراسة الأردن – كنموذج للدول العربية التي تعاني فقرا مائيا ملحوظا – ليصل إلي نتائج ومعطيات قابلة للتطبيق على غيرها من الدول العربية، لاسيما مع تشابه الأنساق السياسية والاجتماعية في هذه الدول.

قضية المياه وشرعية الحكم

عبر عقود، والنظام الحاكم في الأردن يستند في ترسيخ شرعيته إلى شبكة من العلاقات والولاءات التقليدية مع مجموعة من النخب السياسية، وفئات اجتماعية واقتصادية مؤثرة في التركيبة المجتمعية، حيث وجد النظام في هذه الشبكة ما يمكن أن يحقق الاستقرار المجتمعي، ويوفر ضمانة حقيقية لديمومة نمط الحكم القائم، ويقوض أي محاولات لتهديد شرعيته.

ويشير جرين وود إلى أن أحد العناصر الجوهرية التي اعتمد عليها هذا التحالف (بين النظام الحاكم والنخب والفئات الموالية له) هو توفير الأراضي بأسعار زهيدة، والمياه اللازمة للري وعمليات الزراعة. وقد استُخدمت هذه الاستراتيجية بجانب المعاملة التفضيلية التي حظي بها القاطنون (خاصة المنتمين للقبائل الرئيسية) بالضفة الشرقية للأردن، حيث تم منحهم امتيازات عدة، من ضمنها الوظائف الحكومية، والمشاركة في القوات المسلحة، وهكذا أفضت هذه الاستراتيجية إلى خلق قاعدة قوية للنظام الحاكم في المناطق الريفية.

وتُرجع الدراسة الأهمية التي احتلتها المياه في المعادلة السياسية الأردنية إلى عقد الخمسينيات من القرن الماضي، حينما شجعت الحكومة السكان بالمناطق الريفية على التوسع في الزراعة، وقامت بتأسيس هيئات حكومية لتعزيز هذه التوجهات الحكومية. وكانت هيئة قناة الغور الشرقية من أولى الهيئات التي عنيت بهذا الغرض، فقد تأسست الهيئة عام 1959 لتنفيذ خطط التنمية الريفية بمنطقة وادي الأردن، وهو ما أفضى إلى ازدهار الزراعة، وتعزيز التنمية الاقتصادية بوادي الأردن. بيد أن هذه التنمية شهدت تراجعا مع اندلاع حرب 1967 ليستمر هذا التراجع حتى عام 1970 ، حيث طمحت الحكومة الأردنية في هذا العام إلى استعادة معدلات التنمية السابقة، وبالفعل تمكنت من تطوير قطاع الزراعة بالمنطقة.

ومع تسارع وتيرة التنمية الزراعية في السنوات التالية، باتت فكرة “الأمن المائي” مهددة بصورة كبيرة. فمن جانب، كانت الاستثمارات في قطاع الزراعة تتم بصورة غير منظمة، وهو ما أدى إلى استنزاف شديد لمصادر المياه. ومن جانب آخر، افتقدت الدولة القدرة على إدارة ملف المياه بالفاعلية المطلوبة. ففي حين عجزت الدولة عن فرض قيود على استخراج المياه الجوفية، ترسخ لدى المزارعين اقتناع بأن المياه بمنزلة “مورد مجاني” لا يتعين إخضاعه لإجراءات تنظيميه من قبل الحكومة.

وعطفاً على ما سبق، فقد شكل المزارعون وجماعات المصالح كتلة ضغط على السلطة الحاكمة، تجلت ملامح تأثيرها إبان إصدار الحكومة اللائحة 85 لسنة 2002 ،والتي كانت تستهدف الحد من استهلاك المياه الجوفية، حيث تدخلت تلك الكتلة (المزارعون وجماعات المصالح) لتحديد محتوى هذه اللائحة، وكيفية تطبيقها بما يتواءم مع مصالحها الذاتية.

ويضيف جرين وود أن المأزق الذي تمر به الأردن (وغيرها من الدول العربية) لا يقتصر على تراجع الموارد المائية المتاحة، ولكنه ينطوي أيضاً على بعد خارجي يتمثل في التغيرات المناخية، وتأثيراتها السلبية المحتملة، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن مناطق شمال ووسط الأردن ستشهد ارتفاعا في متوسط درجات الحرارة السنوية يتراوح بين 3.2 و 3.8 درجة مئوية مع انخفاض معدل الأمطار السنوية بنسبة تتراوح بين 10 و 40%.

تحديات رئيسية

تفترض الدراسة أن التغيرات المناخية، وتعاظم معضلة الأمن المائي (في ظل الاستنزاف الشديد للموارد المائية) سيشكلان تهديداً للروابط والعلاقات التي أسستها القيادات العربية الحاكمة على مدى عقود طويلة مع فئات اجتماعية رئيسية مثل المزارعين والقبائل، وحتي مستهلكي المياه في المناطق الحضرية. وفي هذا السياق، تستدعي الدراسة أربعة تحديات رئيسية أمام دولة الأردن وغيرها من الدول العربية، على أساس أنها نماذج شبه متماثلة

أولاً) القدرة على تطوير استراتيجية أكثر رشادة وكفاءة في إدارة الموارد المائية واستخداماتها في قطاع الزراعة، إذ إن السياسات التي تبنتها الحكومة الأردنية تجاه ملف المياه طوال عقود تدل على مأزق إدارى، وتضاؤل قدرة الدولة على فرض القيود والتنظيمات الضرورية للحفاظ على معدلات استهلاك رشيدة للمياه، ومن ثم صارت موارد المياه تعاني استنزافا شديدا.

ويذكر جرين وود أن هذه الإشكالية تتكرر في دول عربية أخرى، منها سوريا، فقد تبني حزب البعث الحاكم سياسة الاكتفاء الذاتي، وقام بدعم زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه مثل القطن، بالإضافة إلى الدعم الذى قدمته الدولة للمحاصيل الغذائية الاستراتيجية مثل القمح، والشعير. وكانت المحصلة لهذه السياسات غير المنظمة أن المزارعين اتجهوا إلي زيادة الإنتاج بصورة كبيرة تتجاوز إمكانات الدولة من الموارد المائية.

ثانياً) تراجع قدرة الدولة على تنفيذ القوانين هو إحدى السمات السائدة في العالم العربي، وهي ظاهرة تبدو معقدة ومتشابكة من الناحية التحليلية، فهى مرتبطة بماهية الأنساق الاجتماعية والأطر الفكرية الحاكمة. ففي خضم التحولات التى مرت بها الدول العربية، خلال العقود الماضية، تم صك عدد من المفاهيم من قبيل المحسوبية والمقربين من السلطة، وهذه المنظومة المفاهيمية كانت في الكثير من الأحيان تمثل الحاضنة للفساد البيروقراطي، فضلاً عن رخاوة الدولة في مواجهة ذوى النفوذ الذين يضغطون من أجل تحقيق مصالحهم، والاستثناء من القوانين. ويدلل الكاتب على هذه الفكرة من خلال استحضار الواقع الأردني، وتدخل جماعات المصالح للضغط على السلطة الحاكمة، كى تُستثني من بعض القوانين واللوائح المنظمة لاستخدام المياه.

ثالثاً) من المحتمل أن تكرس مشكلة ندرة المياه، وتداعيات التغيرات المناخية “لثنائية الريف والحضر” في المجتمعات العربية بصورة متزايدة، بحيث ينطوى السياق المجتمعي على صراعات ضمنية بين المناطق الريفية والحضرية، ويكون الصراع في هذا الإطار متمحورا حول توزيعات الموارد المائية. فمن المتوقع أن يزداد الطلب الإجمالي على المياه في الدول العربية الأعضاء باللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا) ليصل إلى 248 مليار متر مكعب سنوياً بحلول عام 2025 بزيادة تُقدر بنسبة 50% عن كمية المياه المستخدمة عام 2000 . كما تشير الإحصاءات إلى أنه من المتوقع أن ينمو الطلب على المياه المستخدمة للأغراض المنزلية بمعدل أكبر من الطلب على المياه لقطاع الزراعة بزيادة 118% مقابل 28% ، وبالتوزاى سيتزايد تعداد السكان مع تركز أغلب هذه الزيادات في المراكز الحضرية.

وتوضح الدراسة أن تلك المعطيات يمكن أن تفضي إلى تواترات مجتمعية تتجلي في ثلاثة ملامح، أولها أن المزارعين الذين يعتمدون على المياه في ري الأراضي لن يتقبلوا أى محاولات إعادة توزيع للمياه تنقص من حصتهم لمصلحة المناطق الحضرية، وهو ما سيؤدي إلى توتر العلاقات بين المزارعين وملاك الأراضي من جهة، والسلطة الحاكمة من جهة أخري.

أما الملمح الثاني،فيتصل بالرؤية التي تشكلت لدى نسبة يعتد بها من المواطنين في المناطق الريفية من أن السلطة الحاكمة تعمل لحساب مجموعة من رجال الأعمال والنخب، وتسعي لتحقيق مصالحهم ورفاهيتهم، ولو حساب من يقطنون المناطق الريفية. وفي هذا السياق، بدأت تظهر حالة من الاستياء في صفوف مزارعين أردنيين، نظراً لأنهم رأوا الدولة تسمح للأثرياء المقيمين في عمان ببناء المسابح الخاصة بهم، في حين يُقال للمزارعين بضرورة تخفيض استهلاكهم من المياه.

وينصرف الملمح الثالث والأخيرإلى المقارنة التي تجريها الدولة بين الزراعة والقطاعات الأخرى من زاوية المنفعة الاقتصادية، وهى مقارنة تضغط على النظم الحاكمة لإعادة توزيع استخدامات المياه على حساب قطاع الزراعة، وذلك في ضوء تناقص إسهام قطاع الزراعة في الاقتصاد الكلى للدول العربية، وكذلك إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي، والعمالة، مقارنة بالقطاع الصناعي والقطاع الخدمي القائمين بصورة أساسية في المناطق الحضرية. وهكذا، تبدو الحكومات معرضة لضغوط تدفعها لتخصيص المزيد من المياه للمناطق الحضرية (حيث تتركز الصناعات والخدمات).

رابعاً) يمكن أن تشكل أزمة المياه مدخلا ومحفزا لعدم الاستقرار في المجتمعات العربية، فثمة توجه أكاديمي يربط بين ندرة الموارد الطبيعية، وحدوث الصراعات العنيفة. وهنا، تذهب بعض التحليلات إلى أن أحد أسباب الاضطرابات والفوضى الأهلية التي بدأت في البلدات الريفية السورية، مثل درعا ودير الزور في عام 2011 ،تتمثل في الجفاف الشديد الذى مرت به سوريا خلال الفترة من 2006 إلى 2010 ، وما ترتب عليه من آثار سلبية على المزارعين وملاك الأراضي، عجزت الدولة عن معالجتها.

وبحسب الدراسة، فإن القضية بمنزلة متوالية تبدأ بسوء إدارة الموارد المائية، وبالتالي تتراجع ربحية قطاع الزراعة، وتتزايد الهجرة من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية، وسرعان ما يبحث المهاجرون الجدد عن وظائف من الصعب الحصول عليها، فتتزايد معدلات البطالة. كما أن هذه الهجرة الداخلية تمثل ضغطا على المرافق والخدمات الأساسية بالمراكز بالحضرية. وهنا، تبدو السطة الحاكمة عاجزة عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين بصورة تؤدي إلى تنامى الاستياء، والإحباط بين المواطنين، وصولاً إلى مزيد من الاحتجاجات، وحالة من عدم الاستقرار.