IMLebanon

الأزمة الأوكرانية تضع ألمانيا في دوامة اقتصادية

FinancialTimes
ستيفان واجستيل

الشركة الهندسية ترومبف فخورة جداً بأدواتها الآلية، بدليل استمرارها في عرضها في قاعة معرض التكنولوجيا العالمية، في مقرها الرئيسي في جنوب ألمانيا.

آلة القطع بالليزر، وآلة الثقب، والمستوى العالي من التطوّر الذي يجمع بين آلة القطع بالليزر، وآلة الثقب تلفت انتباه الزائرين بدقتها التي لا تُخطئ – من خلال إنتاج أي شيء من المجوهرات إلى قطع غيار أبواب السيارات. ألواح الصُلب تتحول إلى مكونات خلال بضع ثوان. المعدن الخردة يختفي تلقائياً بغمضة عين.

كل شيء قد يبدو جيداً لهذه الشركة التي تملكها إحدى العائلات، والتي حققت مبيعات سنوية في العام حتى شهر حزيران (يونيو) تبلغ 2.6 مليار يورو، وهي الأعلى في تاريخها الممتد على 90 عاماً، لكن الأزمة الأوكرانية تُلقي بظلالها حتى على أفق شركة ترومبف.

يقول ماتياس كامولر، نائب الرئيس التنفيذي: “إن زبائننا لا يزالون يستثمرون، لكنهم كانوا حذرين جداً منذ أزمة بنك ليمان (عام 2008). وأوكرانيا الآن تجعل الناس حتى أكثر حذراً من قبل”.

الحذر ينتشر في جميع أنحاء ألمانيا، مدفوعاً من الصراع المتفاقم في أوروبا الشرقية والفرض الأخير لعقوبات الاتحاد الأوروبي الاقتصادية على مستوى القطاع على روسيا، الأمر الذي يُفاقم المشاكل المحلية.

وكما يقول جو كايزر، الرئيس التنفيذي في شركة سيمنز، إن التوترات الجغرافية السياسية الآن تشكّل “مخاطر جسيمة” على النمو في أوروبا هذا العام والعام المقبل.

ما كان متوقعاً أن يكون عام 2014 قوياً للاقتصاد الألماني، أكبر اقتصاد في أوروبا – حيث يمثّل نحو 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو – يبدو الآن دون المتوسط في أحسن الأحوال.

النمو في الربع الثاني من العام انخفض بنسبة 0.2 في المائة، أي ضعف النسبة التي كانت متوقعة، الأمر الذي يؤدي إلى خفض خبراء الاقتصاد توقعاتهم لعام 2014 من 2 في المائة إلى نحو 1.5 في المائة.

لطالما كان اقتصاد ألمانيا المتوجه نحو الصادرات نموذجاً لبقية أوروبا، لكن قوته الواضحة قد أخفت نقاط ضعف طويلة الأجل تهدد بتقليص إمكاناته.

الآثار المترتبة على التباطؤ في ألمانيا تمتد إلى خارج حدودها. النمو الأسرع من شأنه منح المزيد من الوقت للدول الأضعف الأعضاء منطقة اليورو من أجل إعادة الهيكلة في الوقت الذي يعمل فيه التباطؤ على تأخير انتعاش منطقة اليورو، ويُضيف إلى الضغط على البنك المركزي الأوروبي لتوسيع سياساته النقدية فائقة التراخي.

في آب (أغسطس) أجّل البنك المركزي الأوروبي إطلاق مبادرات جديدة لتعزيز الاقتصاد، على الرغم من أن نمو الناتج في منطقة اليورو انخفض إلى صفر في الأشهر الثلاثة المنتهية في حزيران (يونيو)، جزئياً بفضل مساهمة ألمانيا السلبية.

سيجتمع البنك مرة أخرى، لمواجهة دعوات – بعد أرقام التضخم الضعيفة في منطقة اليورو الأسبوع الماضي – من أجل المزيد من برامج التسهيل النقدي.

يقول هولجر شمايدينج، كبير الاقتصاديين في بيرينبيرج: “إن الهبوط المفاجئ في الربع الثاني إلى الركود الظاهري كان مفاجئاً ودون اسبق إنذار. ذلك ربما يخدم الهدف بتذكير الجميع، بما في ذلك برلين، أن الاقتصاد الألماني ليس منيعاً من التعرض للخطر”.

“كما أنه سبب واضح للبنك المركزي الأوروبي للتفكير في فعل المزيد”.

التباطؤ في ألمانيا لا يتعلق فقط بأوكرانيا. مخاوف التنفيذيين الألمان أيضاً تشمل ضعف الأسواق الناشئة في بلدان مثل البرازيل، إضافة إلى التهديدات التنافسية المتزايدة من الصين والولايات المتحدة التي تشهد طفرة صناعية جديدة.

في الداخل يشعرون بالقلق من تكاليف الطاقة المرتفعة، ونقص العمالة الماهرة، والبنية التحتية المتهالكة، والعقبات البيروقراطية.

كذلك فإن الشركات لا تحب السياسة الاقتصادية الأخيرة للمستشارة أنجيلا ميركل، خاصة الحد الأدنى الإلزامي للأجور والزيادة المُكلفة في التقاعد المبكر. وقد أدانت غرفة التجارة الوطنية، DIHK، خطوات السياسة، التي يبدو أنها تتعارض مع ما نزعة ألمانيا سابقاً بحثّ جاراتها في الجنوب على فعله.

لا تزال ألمانيا بحالة جيدة. مع توقعات نمو يبلغ 1.5 في المائة هذا العام، فإن الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بنهاية عام 2014 من المتوقع أن يكون 10 في المائة، أكبر مما كان قبل الأزمة المالية العالمية لعامي 2008-2009. وهذا أقل من الولايات المتحدة بتوقعات تبلغ 13 في المائة، لكنه تقدّم بفارق كبير عن بقية الاتحاد الأوروبي، حيث الناتج يتضاءل دون مستويات عام 2008.

أداة التصدير الألمانية القوية قد تجاوزت ذروتها لعام 2009 في عام 2011 وتنتج كميات كبيرة تصل إلى نحو 1.1 تريليون يورو، وهي الثالثة بعد الصين والولايات المتحدة.

أموال الحكومة الفيدرالية مستقرة، مع توقّع انخفاض الاقتراض المُخطط إلى الصفر في العام المقبل. ومع أن ديون الأُسر قد انخفضت، إلا أن الاستهلاك يزيد، وإن كان ببطء. كذلك معدل البطالة أقل من 7 في المائة، مقارنة مع بلوغه نحو 13 في المائة في أماكن أخرى في منطقة اليورو.

النمو البطيء سيجعل من الصعب تمويل خطة التقاعد المبكر الجديدة، والزيادات في أجور القطاع العام والإنفاق الإضافي على البنية التحتية. كما سيعمل على تعزيز مطالب الإصلاحات المؤيدة لقطاع الأعمال.

يقول ماركوس كيربر، العضو المنتدب في بي دي آي، رابطة الصناعة الألمانية: “إن ألمانيا الآن في وضع جيد جداً، لكن في الأعوام العشرة المقبلة، على كل اقتصاد في العالم المتقدّم لا بد أن يتغيّر. … في ألمانيا برنامج الإصلاحات لا يُحقق التقدّم الذي حققه في الأعوام السابقة”.

لأول وهلة، قد يكون من المحيّر تسبب الأزمة الأوكرانية في إلحاق كل هذا الضرر في ثقة الأعمال الألمانية، في حين أن روسيا تمثّل 3 في المائة فقط من صادرات ألمانيا، وكييف مجرد 1 في المائة.

الشركات الألمانية البالغ عددها ستة آلاف شركة والتي تتعامل مع روسيا لديها روابط واسعة في مختلف قطاعات الاقتصاد. عقوبات الاتحاد الأوروبي في مجال الدفاع والمالية ومعدات النفط قد تفاقمت بسبب إجراءات روسيا المُضادة في مجال الزراعة، الأمر الذي ألحق الضرر بالمزارعين الألمان.

في الوقت نفسه، أسواق التصدير الأخرى تبقى غير مستقرة. غرفة التجارة DIHK في آب (أغسطس) خفضت توقعاتها لنمو الصادرات لهذا العام إلى 3 في المائة، مقارنة بتوقعات أصلية تبلغ 4.5 في المائة.

هينكل، شركة المنتجات الاستهلاكية، قالت إن الاضطرابات في الشرق الأوسط، إضافة إلى الأزمة الأوكرانية “سيكون لها تأثير سلبي على بيئة السوق”.

الصادرات الضعيفة لها تأثير في المعنويات في البلاد أكبر من أي مكان آخر في العالم المتقدّم، لأن ألمانيا بشكل خاص تعتمد على التجارة.

تمثّل الصادرات 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 30 في المائة في المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا، ونحو 15 في المائة بالنسبة للولايات المتحدة واليابان.

مصدر الخوف هو أنه مع خفض الشركات إنفاقها، فإن تراجع الصادرات قد يُصيب الاستثمار.

في WSM، وهي جمعية مكونة من خمسة آلاف شركة معادن عاملة، قال كريستيان فيتماير، العضو المنتدب: “إن النصف الأول من العام كان جيداً، مع نمو إنتاجية بلغ 6.1 في المائة. في استطلاع للرأي في تموز (يوليو)، قال أعضاء الجمعية إن التوقعات تتحول لتصبح كئيبة”.

انخفاض الاستثمار هو أحد أوجه القصور الاقتصادي في ألمانيا منذ فترة طويلة. حصة تكوين رأس المال الثابت الإجمالي في الناتج المحلي الإجمالي هي 17 في المائة، أدنى بكثير من متوسط يبلغ 21 في المائة بالنسبة للبلدان الصناعية.

كذلك انخفض كل من الاستثمار في القطاع العام والخاص في العقد الأول من الألفية – استجابة لطفرة الاستثمار الممولة بالائتمان في التسعينيات بعد إعادة توحيد ألمانيا. خبراء الاقتصاد يقولون إن مستويات الاستثمار الآن كانت منخفضة دون الحد لفترة طويلة جداً فوق الحد. كما تُفيد دراسة أعدتها غرفة التجارة DIHK أن الفجوة الاستثمارية بالكامل تشكّل 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أو 80 مليار يورو سنوياً.

في القطاع العام، تعتبر الفجوات أكثر وضوحاً بكثير، على سبيل المثال، في الجسور المتآكلة عبر نهر الراين في ألمانيا الغربية. في ليفركوزن، على سبيل المثال، تم منع الشاحنات التي تزن أكثر من 3.5 طن من استخدام جسر الطريق السريع A1 – وهو وصلة رئيسية بين الشرق والغرب. وليس من المقرر أن يتم افتتاح البديل الأقوى على الأقل لمدة ستة أعوام.

لقد استجابت الحكومة الفيدرالية بإضافة عشرة مليارات يورو على خطة ميزانية الأعوام 2014-2017، لكن هذا يعتبر أقل بكثير من تقديرات صندوق النقد الدولي في وقت سابق من هذا العام، الذي حض برلين على إنفاق 50 مليار يورو. وفي القطاع الخاص، استثمارات الآلات المحلية هي في أدنى مستوياتها بنسبة تبلغ 6.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. باعتراف الجميع، الشركات الألمانية تستثمر بشكل كبير في الخارج، ولا سيما في أوروبا الشرقية والصين.

الاستثمار الأجنبي المباشر يبلغ نحو 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب تقديرات البنك الدولي، لذلك هذا وحده لا يفسر الفجوة الاستثمارية المحلية.

التهديد المباشر هو سياسة الطاقة. تخشى الصناعة من تكاليف حملة الحكومة لتعزيز مصادر الطاقة المتجددة والحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري، وفي الوقت نفسه التخلص من الطاقة النووية بحلول عام 2022.

وفقاً لبيانات من وكالة الطاقة الدولية، زادت أسعار الكهرباء في قطاع الصناعة الألمانية ثلاثة أضعاف منذ عام 2000، مرتفعة من أسفل سلم الاتحاد الأوروبي إلى القمة تقريباً.

الحكومة تراهن على أن الطاقة البديلة ستقوم بجعل الصناعة مستدامة وابتكار تكنولوجيا للتصدير. في شركة ترومبف، كامولر يدعم برلين قائلاً: “نحن لا نرى تحوّلات الطاقة بمثابة تهديد. ألمانيا متقدمة لأن الشركات الألمانية تستثمر لتوفير الطاقة ولا يزال على الآخرين فعل ذلك”.

الصناعات الثقيلة تُظهر تفاؤلاً أقل. شركة باسف، مجموعة المواد الكيميائية، أعلنت هذا العام عن خطط لإقامة مصنع بلاستيك مقترح في الولايات المتحدة بسبب تكاليف الطاقة المنخفضة.

في رابطة عمال المعادن، يقول فيتماير: “نحن لا نستطيع قياس هذا الاهتمام في الاستثمار خارج ألمانيا، لكن في الوقت الذي ستصبح فيه هذه الاستثمارات واضحة في الإحصاءات خلال 10 – 15 أعوام مقبلة، سيكون قد فات الأوان لفعل أي شيء حيالها”.

حيث إن ألمانيا لديها أعلى متوسط للأعمار في الاتحاد الأوروبي، فإنها أيضا تواجه انخفاضاً متسارعاً في عدد سكانها الذين في سن العمل في وقت مبكر، أكثر من شركائها في الاتحاد الأوروبي.

في العقد الماضي، طُمِست هذه الآثار بفعل الزيادات الحادة في نسبة النساء العاملات، والرجال الذي تزيد أعمارهم على 55 سنة. مع تقاعد جيل مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن عدد السكان الذين هم في سن العمل سيهبط بنحو ستة ملايين شخص، من 42 مليون شخص بحلول 2030، وفقاً للتوقعات.

يعاني أصحاب العمل في سبيل سد حالات النقص، خصوصاً بين العمال في الحرف التي تتطلب مهارة. على سبيل المثال، في المنطقة الصناعية حول هوف، في منطقة بافاريا في الشمال، يعقد أصحاب المشاريع أياماً للفتيات، لتشجيع الإناث على التفكير في وظائف كانت فيما مضى حكراً على الذكور، وينظمون برامج امتياز لطلاب المدارس، وزيارة المدارس الابتدائية لترويج أعمال المصانع.

يقول ماكسيميليان فالدنفيلز، الرئيس التنفيذي لشركة شيردل، وهي شركة عائلية مختصة بصناعة قطع غيار السيارات: “الشركات الأصغر من شركتنا تعاني منذ الآن صعوبات. علينا أن نبرهن للشباب أن الوظائف في المصانع جذابة.”

كذلك تشتكي الشركات من الروتين الحكومي، خصوصاً في الخدمات. على سبيل المثال، لا تزال معظم المحلات تغلق أبوابها أيام الأحد، وهي سياسة تحمي أصحاب المحلات الصغيرة في وجه محال السوبر ماركت.

ولا يستطيع المدرسون الانتقال بحرية لأن كل منطقة من المناطق الفيدرالية الـ 16 لديها متطلباتها الخاصة من المؤهلات. وفي الإنشاء، تتم عرقلة البرامج الكبيرة أحياناً لعدة عقود بسبب النزاعات السياسية.

وعلى الرغم من مشاعر القلق لدى الشركات المحلية، تظل ألمانيا رابع بلد في العالم من حيث جاذبية وجهات الاستثمار، وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي، مجموعة المؤتمرات. وهي تحتل مكانة عالية بسبب عمالها المهرة، وسجلها في الابتكار، والشبكات ذات الكفاءة الفائقة بين الشركات. وحيث أن الإنفاق على الأبحاث والتطور يشكل 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه يعتبر الأعلى من بين بلدان الاتحاد الأوروبي.

على أن ألمانيا تواجه منافسة دولية هائلة. وفي حين أن الصين تعتبر سوقاً رئيسية، إلا أنها في الوقت نفسه مصدر منافسة متزايدة. من جانب آخر، تشكل الولايات المتحدة تحدياً من خلال شركة جوجل وشركات الإنترنت الأخرى، التي تسعى إلى الاستفادة من هيمنتها على حركة البيانات العالمية.

تباطؤ النمو يجعل من الصعب التركيز على هذه التحديات، حتى في الوقت الذي تصبح فيه أكثر إلحاحاً من قبل.

قبل عقد من الزمن أدخلت ألمانيا في إصلاحات اقتصادية مؤلمة، من أجل إنعاش النمو. وهي لا تريد أن تعيش هذه التجربة مرة أخرى.