IMLebanon

لبنان أمام الأمر الواقع: منظومة أمنية إقليمية لحماية ثروة الغاز

Akhbar
فراس أبو مصلح
يقع لبنان في قلب «حوض المشرق»، حيث تشير المسوحات الزلزالية إلى إمكان وجود موارد ضخمة من النفط والغاز، أكدت جزءاً مهماً منها اكتشافات متلاحقة في العقدين الماضيين، من مصر إلى ساحل بلاد الشام، شاملةً المياه قبالة جزيرة قبرص. يجري العمل على نار حامية في شرقي المتوسط حيث تُنفذ المشاريع وتُعقد الاتفاقيات النفطية، وتعمل تركيا وقبرص و«إسرائيل»، على بناء منظومة أمنية لحماية تلك المشاريع.

سيضطر لبنان في المستقبل القريب إلى التعامل معها كأمر واقع، فيما هو يتخلف عن فرض نفسه لاعباً إقليمياً في هذا المجال. قد تكون تلك الخلاصة الأبرز لمؤتمر «الموارد النفطية في شرق المتوسط: الاهتمامات الاقتصادية والسياسية والأمنية»، الذي نظمه مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني على مدى اليومين الماضيين، بالتعاون مع هيئة إدارة قطاع البترول وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

أمر واقع

«الكميات المتوقعة (من الغاز والنفط) قليلة نسبياً، مقارنة مع تلك المكتشفة في الخليج العربي وروسيا وبحر قزوين، لكنها كافية لإحداث وقع كبير على أمن الطاقة لدول المتوسط، والإسهام بنسبة أقل في أمن الطاقة في أوروبا»، قال مدير مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية العميد خالد حمادة، مشيراً إلى أن «إسرائيل» باشرت بالإنتاج التجاري للغاز، وبدأت قبرص بالتنقيب في أكثر من موقع، وأعدّت الدولتان للمشاريع والاتفاقيات ذات الصلة، وبنتا مع تركيا «منظومة أمنية» (ضمن المنظومة الأطلسية الأوسع) لحماية منشآت وأنابيب الغاز. تتطلب هذه المنظومة بناء منشآت بحرية حربية ونشر قطع بحرية حربية. يحصل ذلك فيما يستمر تأجيل مزايدة منح عقود استكشاف وإنتاج النفط والغاز في لبنان للمرة الخامسة، ولم يقم لبنان بترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة قبالة ساحله وفق الإجراءات القانونية الدولية، قال حمادة.
يؤكد حمادة في دردشة مع «الأخبار» أن مشاركة لبنان في هذه المشاريع الإقليمية، كمشروع إنشاء معمل لتسييل الغاز في قبرص، أو مشروع إنشاء أنابيب غاز تربط «إسرائيل» بتركيا عبر قبرص، «غير واردة على الإطلاق»؛ وبالتالي، يحذّر حمادة من أن تأخّر لبنان في مشاريع الغاز سيجعله مضطراً إلى التعامل مع المشاريع المذكورة ومنظومتها الأمنية كأمر واقع، مشيراً إلى أن «أنقرة تريد تغيير قواعد اللعبة، وبناء قوى مقاتلة تُنشر بعيداً عن أراضيها»، بما يتلاقى مع قول ربيع ياغي، المستشار لدى المجلس النيابي لشؤون الغاز والنفط، إن تركيا «تحاول التمدد في حوض المشرق عبر شمال قبرص»، سعياً إلى خفض اعتمادها على استيراد النفط من إيران والغاز من روسيا، وأنها تطمح إلى بناء شبكة أنابيب غاز برية وبحرية، كي تؤدي دور المركز أو صلة الوصل الطاقوية بين الشرق والغرب.

رغم أن لا «احتكاك مباشراً» للبنانيين مع الصهاينة في مشاريع النفط، يشير حمادة إلى أن شركات النفط العاملة في المناطق الاقتصادية الخالصة قبالة السواحل اللبنانية والقبرصية هي نفسها، وبالتالي يمكن أن تُصدّر الشركات الغاز اللبناني عبر قبرص (عبر أنابيب الغاز أو معمل تسييل). يحذّر حمادة من أن الشركات تلك قد يُفرض عليها سياسياً أن تضع «قيوداً» أو شروطاً من قبيل فرض «المركز» hub القبرصي حصوله على كميات محددة من الغاز، أو فرض رسوم أو حصص معينة منه، أو حتى رفض الغاز اللبناني كلياً. يشير حمادة في هذا السياق إلى تجربة مصر مع الشركات، حيث سحبت الأخيرة كميات من الغاز فوق المسموح بها أو المتفق عليها، تحت طائلة تدفيع الدولة المصرية غرامات مالية باهظة في حال عدم تسليمها كميات معينة من الغاز، ما أدى إلى استنفاد هذه الآبار، و«تدمير بعضها من الداخل»! من هذا المنطلق، يحذّر حمادة من «ربط الاقتصاد بالمنشآت النفطية»، كي لا تضطر الدولة إلى «شراء الغاز»، تجنباً لدفع الغرامات المنصوص عليها في العقود.
يتفق كلام حمادة أعلاه مع تنبيه المدير العام للعمليات في شركة «بتروليب»، ناجي أبي عاد، إلى ضرورة التمييز بين مصطلحَي «موارد غير مستكشفة» و«احتياطات أكيدة»، شارحاً أن الأول هو «تقدير غير دقيق»، أو «رقم تجريدي»، كالذي وضعته مؤسسة U.S. Geological Survey كتقدير للموارد غير المستكشفة في حوض المشرق، وهو 122 TCF، أي 122 تريليون (ألف مليار) قدم مكعب من الغاز (وهي كمية تغطي استهلاك منطقة شرق المتوسط لفترة تُقدر بـ50 عاماً، بحسب ياغي)، تراوح تقديرات الكميات غير المستكشفة الموجودة منها في المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية بين 15 و35 TCF! يلفت أبي عاد إلى أن الفروقات الكبيرة بين تقديرات مختلف الشركات للموارد غير المكتشفة، نتيجة المسوحات الزلزالية، أمر طبيعي، ليجزم بأنه «لا يمكن هذه الأرقام أن تكون أساساً للخطط الوطنية البترولية، التي يُفترض أن تنتظر تأكيد الاحتياطات عبر الحفر». يعطي أبي عاد تجربة مصر «الكارثية» كمثال على ما يقول؛ فالأخيرة كانت تصدّر النفط عبر خط الغاز العربي، لتعاني الآن من عجز في إمداد الغاز، ولتدفع غرامات للشركات المشغلة لمعامل التسييل، بسبب توقف هذه الأخيرة نتيجة عدم توافر الغاز الكافي لتشغيلها. يعزو أبي عاد سبب «الكارثة» المصرية إلى وضع مخططات الطاقة بناءً على وجود كميات غاز «محتملة»، وليست مؤكدة.
بحسب وسام شباط، رئيس وحدة الجيولوجيا والجيوفيزياء في هيئة إدارة قطاع البترول، فإن حاجة لبنان من الغاز في حال اعتماده لتشغيل معامل الكهرباء وعدد من المعامل الكبيرة على الشريط الساحلي، تبلغ 0.2 TCF في السنة فقط! وبالمقارنة، تُقدر كمية الغاز في البلوك البحري رقم 1 بـ14.9 TCF، و13.7 و15.2 TCF في البلوكين 4 و9 على التوالي.
في المقابل، ينطلق ياغي من كون «الغاز الوقود الأقل كلفة لأغراض لتصنيع، والأوفر والأنظف للاستهلاك»، ليحدد أولوية سياسات الطاقة بـ«تحضير السوق المحلي لخلق اكتفاء ذاتي بالطاقة، بديلاً من استيراد المحروقات»، وتخصيص الفائض فقط من الحاجة المحلية للغاز للتصدير، «أسوة بإسرائيل» التي تتبع السياسة هذه. يرى ياغي أنه في حال اعتماد الغاز لتغذية محطات الكهرباء الحالية وبناء معامل جديدة فيها لسدّ العجز في توفير التيار، وفي حال التحول إلى استعمال الغاز في كافة المصانع، وبناء نظام نقل عام يعمل على الكهرباء، فإن «كامل احتياجات لبنان في عام 2020 وصعوداً ستكون بين 0.8 و1 TCF في السنة». من المنطلق نفسه، أي من مبدأ تعظيم الاستفادة من الغاز محلياً، يرى ياغي أن الأجدى اقتصادياً التدرج في تلزيم عقود الاستكشاف والإنتاج في البلوكات البحرية، أي تلزيم بلوكين في الجولة الأولى كحد أقصى، فضلاً عن أن التلزيم المتدرج يقوي الموقع التفاوضي للدولة في الجولات اللاحقة، إذ تتحول المزيد من كميات الغاز المقدرة أو المحتملة إلى كميات مكتشفة ومؤكدة.

التحرك الآن

بإمكان لبنان أن يصبح «منتجاً إقليمياً» للغاز، «في حال استخدامه بالشكل الأمثل، وبالتوقيت الصحيح»، يقول أبي عاد، لافتاً إلى أنه لا يمكن تخزين الغاز المنتَج، وبالتالي إن التصدير ضرورة وليس خياراً، فيما يجب الانتباه إلى كلفة إنتاج الغاز، مقارنة بسعره في السوق. يضع أبي عاد بناء معامل كهرباء تعمل على الغاز، ونظام نقل عام يعمل على الكهرباء، وبناء صناعات بتروكيميائية وصناعات ألومنيوم، كثيفة الاستخدام للكهرباء، في طليعة خيارات الاستخدام المحلي للغاز. أما خيارات التصدير، فاعتبر أبي عاد أن «الخيار الأمثل» هو تغذية معامل التسييل المصرية، أو تغذية خط الغاز العربي (الذي ينطلق من مصر إلى الأردن فسورية وتركيا، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي)، يليه خيار بناء خطوط غاز أو معامل تسييل جديدة.
ينبه أبي عاد من أن أسواق الغاز الإقليمية «صغيرة نسبياً» ومشبعة بالعرض، علماً أن مدة عقود الغاز تراوح بين 20 و25 عاماً. أما الأسواق العالمية، فستشهد «فائضاً في العرض» خلال السنوات القادمة، مع «ثورة الغاز الصخري» أو «ثورة الغاز من المصادر غير التقليدية»، يقول أبي عاد، موضحاً أن فائض العرض سيؤدي إلى انخفاض الأسعار، متوقعاً أن «يزيد العرض بأكثر من الضعف» خلال السنوات القادمة! قيمة الغاز الآن أعلى منها في المستقبل إذاً، بحسب أبي عاد الذي يحض على «التحرك الآن» لإنتاج الغاز وتسويقه.

«أمن الصناعة النفطية»

وكان «أمن الصناعة النفطية» محور حديث رئيس هيئة إدارة قطاع البترول ناصر حطيط، الذي رأى أن تعاون الهيئة والجيش شرط لأعمال التنقيب والاستخراج والنقل في القطاع، محملاً الجيش مسؤوليات أساسية، بدءاً بحماية المنشآت البترولية البحرية فوق سطح الماء وتحته، مروراً بالجانب اللوجستي، إذ يتحمل الجيش مسؤولية مراقبة وحماية انتقال العمال والمعدات بين الشاطئ والمنشآت البحرية، وصولاً إلى مسؤولية تأمين السلامة العامة وحماية البيئة. دعا حطيط إلى تأليف «خلية إدارة أزمة» يكون للجيش ممثل فيها، بهدف تعاون الأخير مع شركات النفط في التعامل مع حوادث أو كوارث التسرب النفطي أو الحريق أو انفجار إحدى الآبار، على الرغم من أن نموذج عقود الاستكشاف والإنتاج تلزم الشركات بالتعامل مع الحالات المذكورة. دعا حطيط وزارة الصناعة إلى تحديد أمكنة قواعد الخدمات للمنشآت البحرية والمصافي ومعامل الغاز، وأشار إلى ضرورة اضطلاع وزارة الاتصالات بدور أساسي في «نقل وتخزين المعلومات الهائلة من مكامن الغاز والنفط إلى غرف المعطيات في هيئة إدارة قطاع البترول»، والاستفادة القصوى منها. تجدر الإشارة إلى أن مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية سيشترك مع الهيئة بإعداد توصيات ستُرفع إلى وزارة الطاقة والمياه ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية و«الهيئات السياسية».