IMLebanon

مئات مليارات الدولارات مخفية عن الغرب المأزوم مالياً…العالم يكافح التهرّب الضريبي بتكثيف الرقابة المصرفية

AlMustakbal
حيدر الحسيني
تحيّنت الولايات المتحدة ودول الغرب عموماً، الضائقة المالية المستمرة بوتيرة متفاوتة منذ عام 2008، وتبعتها في ذلك العديد من أمم العالم، من أجل تفعيل الجباية الضريبية ومكافحة التهرّب من دفع المستحقات للخزائن العامة، التي أصبحت مواردها شحيحة بفعل التباطؤ الاقتصادي وتردّي معدلات النمو.

ليس غريباً أن تتصدّر الولايات المتحدة هذه الجبهة، باعتبار أن الأزمة العالمية انفجرت عندها أولاً قبل أن تمتد إلى ضفة الأطلسي المقابلة في أوروبا، ومنها إلى العديد من الأسواق المالية العالمية. ومن أهم التوجهات التي برزت على هذا الصعيد ثلاثية، تتمثل من جهة اولى باللجوء إلى محاسبة المصارف الخارجية التي تغطي حسابات زبائن متهربين من الضرائب، مستفيدين بذلك من بعض الدول التي تمنح ميزة السرية المصرفية، كما هي الحال في سويسرا ولبنان مثلاً، ومن جهة ثانية بسنّ قوانين وتشريعات تلزم أصحاب الحسابات الخارجية الأميركية في كل دول العالم بالتصريح عن مداخيلهم والخضوع لضرائب وزارة الخزانة، وذلك أساساً عبر قانون الامتثال المعروف باسم «فاتكا» والذي أصبح ساري المفعول اعتباراً من تموز الماضي، ومن جهة ثالثة بملاحقة الشركات التي تلتف على القوانين الضريبية الداخلية بالهروب إلى الخارج.

أحدث تدابير واشنطن على هذا الصعيد كان ما كشفته مطلع الأسبوع الماضي إدارة الرئيس الاميركي باراك اوباما، من سلسلة اجراءات تحد من امكانية التهرب الضريبي للشركات الاميركية المتعددة الجنسيات التي تحاول التمركز بشكل وهمي في الخارج للافلات من دفع الضرائب في الولايات المتحدة. وفي محاولة للالتفاف على المعارضة الجمهورية في الكونغرس، تحركت الحكومة ضد العمليات المعروفة باسم «نقل مقار الشركات» (كوربوريت اينفرجن)، حسب ما اعلنت وزارة الخزانة في بيان رسمي. وهي تستند الى مبدأ سهل شرعي يتيح لأي شركة تشتري منافساً لها في الخارج أن تقيم في الخارج مقرها المالي مع الاحتفاظ بنشاطاتها وهيئاتها الادارية داخل الولايات المتحدة. فعلاً، بدأت شركات كبيرة في الصناعة الصيدلانية (ميدرتونيك وميلان وغيرها) والصناعة الغذائية (شيكيتا براندز وبرغر كينغ..) بالانتقال الى بلدان اُخرى، من بينها خصوصاً هولندا، تفرض ضرائب أقل على الشركات (35 في المئة).

حجة وزارة الخزانة في مكافحة الظاهرة أن هذه الصفقات تقلص العائدات الضريبة وتثقل كاهل المكلفين الآخرين بضرائب أكبر، ومن بينهم الشركات الصغيرة والعمال. وتمنع الإجراءات الجديدة الشركات الاميركية من استخدام اموال تبلغ قيمتها ألفي مليار دولار جمعتها في الخارج بعيداً عن مصلحة الضرائب الاميركية، لتمويل عمليات الشراء والدمج.

والتهرب الضريبي لا يقتصر على الولايات المتحدة وحدها ولا على كونه ظاهرة تختص بالشركات، بل للأشخاص ومنهم مشاهير، باع طويل في هذا المجال ايضاً، ما ينعكس خسائر بالنسبة للمالية العامة التي يُفترض أن يخضع لها المكلف، في مختلف دول العالم، ومنها الدول العربية.

مثلاً، تشدد الحكومة البريطانية قوانين التهرب حتى تتمكن من التخلص من سياستها التقشفية في أقرب وقت، فالتهرب يحرمها سنوياً من 9 مليارات دولار. وكشفت بيانات رسمية قبل نحو عامين أن فرع موقع التواصل الاجتماعي الشهير «فايسبوك» في بريطانيا لا يدفع حجم الضرائب التي يتعين عليه دفعها بل إن بعض موظفي الفرع يتقاضون رواتب أكثر من الضرائب التي دفعها العام الماضي.

كما يخسر الاقتصاد اليمني 4 مليارات و700 مليون دولار سنوياً بسبب التهرب الضريبي، حيث أفادت دراسة أعدتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية بأن نسبة المسجلين من دافعي الضرائب المكلفين لا تتخطى 3 في المئة.

كرة القدم لها نصيب أيضاً في هذا المجال، حيث برزت صفقة انضمام اللاعب نيمار لبرشلونة، مع تأكيد الضرائب بتهرب برشلونة من سداد 9 ملايين يورو. كما عوقب رئيس نادي بايرن ميونيخ السابق أولي هونيس بالسجن بسبب التهرب من الضرائب لمدة 3 سنوات ونصف السنة.

وليس عالم الفن بعيداً من «الجو». فقد وجه الادعاء العام في إسبانيا الاتهام بالتهرب الضريبي إلى مونتسيرات كابالي، إحدى أشهر نجوم الأوبرا المعروفين عالمياً، لإخفائها 500 ألف يورو (نحو 691 ألف دولار أميركي) من دخلها.

وأصدر قاض أميركي حكماً بسجن لورين هيل، مغنية الهيب هوب الحائزة على جائزة «غرامي»، 3 أشهر وقضاء 3 أشهر اُخرى رهن الإقامة الجبرية في منزلها وغرامة قدرها 60 ألف دولار بسبب تهربها من سداد ضرائب اتحادية.

كما رجال الأعمال، للسياسيين والحكام وأبنائهم حصة. ففي أول حادثة من نوعها منذ عودة الملكية إلى إسبانيا عام 1975، مثلت الأميرة كريستينا الإبنة الصغرى للملك خوان كارلوس أمام المحكمة لاستجوابها في قضية فساد، وواجهت اتهامات مبدئية بالتهرب الضريبي وغسل الأموال، فيما يتعلق باستخدامها لأموال من شركة كانت تشترك في ملكيتها مع زوجها إيناكي أوردانغارين المتهم أيضا في جرائم من بينها اختلاس 6 ملايين يورو من المال العام.

وفي باكستان، كشف تحقيق لمعهد أبحاث غيرِ رسمي أن أغلبية الوزراء والنواب لم يدفعوا ضرائبهم على مدى عام كامل.

ضغوط عالمية

تفاقم الظاهرة أدى إلى تحرك الدول أيضاً بصورة جماعية للضغط باتجاه مكافحة التهرب الضريبي. فقد تعهد زعماء مجموعة العشرين الجمعة بمعاونة الدول الناشئة في مكافحة التهرب الضريبي من خلال مساعدتها في اقتفاء أثر الأموال التي يخفيها مواطنوها في ملاذات ضريبية.

وشددت المجموعة التي تضم الدول الصناعية والدول الناشئة الرئيسية عقب قمة بطرسبرغ، على أنها تريد أن تنضم الدول الناشئة إلى ميثاق دولي بشأن تبادل المعلومات بخصوص دافعي الضرائب رغم اعترافها بأن مشاركة تلك الدول تشكل تحديات لوجستية بالنسبة للدول الأشد فقراً. وبموجب الميثاق تنقل الدول تلقائيا معلومات بشأن الأنشطة المالية للمواطنين الأفراد إلى سلطات الضرائب في بلادهم.

كما أطلقت حكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا مبادرة مشتركة لاتخاذ إجراءات صارمة بحق تهرب الشركات متعددة الجنسيات من الضرائب على أن تقدم خلال اجتماع لوزراء مالية دول «مجموعة العشرين». وكشف وزراء مالية الدول الثلاث عن الخطة عقب تقرير أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يفيد بأن الكثير من الشركات الكبرى تتنقل بين الدول لدفع ضرائب أقل.

وفي أوروبا، قال العديد من كبار النواب في البرلمان الأوروبي إنه يتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي تجاوز مرحلة الوعود عندما يتصدون لقضية التهرب الضريبي، وذلك بعد اتهام شركة «أبل» الأميركية العملاقة بالتهرب من سداد ضرائب الدخل.

وبدا أن جميع قادة الاتحاد الأوروبي متفقون على أهمية محاربة التهرب الضريبي الذي تشير التقديرات إلى أنه يكلف الخزائن العامة لدول الاتحاد نحو تريليون يورو (1.3 تريليون دولار) سنوياً. ولكن الخلاف يتعلق بطريقة المحاربة حيث تعارض النمسا ولوكسمبورغ التخلي عن قواعد سرية الحسابات المصرفية في مصارفها بدعوى أن ذلك سيقلل جاذبية البنوك فيهما.

وفي سياق مكافحة التهرّب، أكدت وزارة المالية السويسرية أن بلادها تقترب من تسوية نزاع طويل مع السلطات الأميركية بشأن مصارف سويسرية متهمة بمساعدة أميركيين أثرياء على التهرب من سداد ضرائب بمليارات الدولارات.

وفي اليونان، أغلق القضاء اليوناني قضية أثارت جدلاً حول التهرب الضريبي في البلد الرازح تحت تدابير تقشفية صارمة بسبب أزمة الديون، بعد تبرئة الصحافي كوستاس فاكسيفانيس من تهمة انتهاك معلومات شخصية، إثر نشره لائحة بأسماء 2059 اسماً يُعتقد أنهم يملكون حسابات مصرفية في سويسرا، بناء على معلومات مصدرها مصرف «أتش.أس.بي.سي».

وشكلت مقاربة الصحافي لموضوع نشر المعلومات مفارقة بدت مقنع للقضاء، حين غمز من قناة القضاة بقوله تلك العبارة الشهيرة «بدلاً من مكافحة المتهربين من سداد الضرائب، يقومون بخفض رواتب القضاة والمتقاعدين».

وحظي الصحفي بدعم عدد من المنظمات الدولية غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان ومنظمة مراسلون بلا حدود ومنظمة العفو الدولية أو لجنة حماية الصحافيين. ومع أن مجرد فتح حساب في سويسرا ليس مخالفاً للقانون، دافع الصحافي عن حق نشر الوثائق بهدف فضح المتهربين المحتملين من الضرائب، في حين تواجه الحكومة الائتلافية غضب الشارع بسبب تدابير التقشف الصارمة التي يدفع ثمنها الفقراء بسبب أزمة الديون.

لا شك أن تشدد الحكومات والمجموعات الدولية الضاغطة في اتجاه مكافحة التهرب الضريبي من شأنه أن يحد من هذه الظاهرة التي تُفقد خزائن الدول تريليونات الدولارات، إلا أن تحقيق نتائج حاسمة على هذا الصعيد يبقى رهناً بالمتابعة الدائمة لسد الثغرات القانونية والتشريعية من جهة، وبتكثيف إجراءات الرقابة، لا سيما عبر القنوات المالية والمصرفية التي تسلكها حسابات المتهرّبين المتحايلين، من جهة اُخرى.