IMLebanon

تقييم سياسات إعادة إعمار غزة

WashingtonInstitute
نيري زيلبر
بينما لا يزال اتفاق وقف إطلاق النار الذي أُقِر في 26 آب/ أغسطس بين إسرائيل و«حماس» قائماً حتى الآن، تتحول الأنظار نحو إعادة الإعمار والتنمية في غزة. لقد كانت الأوضاع الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في القطاع صعبة للغاية حتى قبل اندلاع أعمال القتال الأخيرة، وقد ناشدت السلطة الفلسطينية المجتمع الدولي للحصول على المساعدة للأراضي التي قُصفت في العمليات الحربية. وفي هذا الإطار، سيجتمع المسؤولون من الدول المانحة مرتين خلال الأسابيع المقبلة لمناقشة الموضوع وذلك، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 22 أيلول/سبتمبر، وفي مؤتمر خاص للمانحين في القاهرة في 12 تشرين الأول/أكتوبر.

ولا بد لهذه الاجتماعات أن تغطي ليس فقط مبلغاً محدداً من المساعدات المطلوبة، بل أيضاً الآليات التي سيتم من خلالها توزيع تلك المساعدات واستخدامها. وكما كان عليه الحال بعد الأزمات السابقة في غزة، فإن سيطرة «حماس» على أراضي القطاع تشكل أكبر عقبة أمام الحصول على مساعدة دولية واسعة النطاق. أما حول ما إذا كانت الحركة جادة في تخليها في الوقت الحالي عن السيطرة الفاعلة على القطاع، فذلك سؤال مفتوح. وبغض النظر عن جوابه، من الضروري أن يستمر المجتمع الدولي، إلى جانب مسؤولين من مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، في التأكيد على المبدأ بأن حكومة السلطة الفلسطينية هي الجهة الشرعية الوحيدة الوسيطة بالنسبة للمساعدات الهائلة المطروحة للبحث حالياً.

جولات من القتال وجمع التبرعات

كانت الحرب الأخيرة هي الجولة الثالثة من القتال المتصاعد بين إسرائيل و «حماس» في السنوات الست الماضية. وفيما يتعلق بإعادة الإعمار فيمكن للجولة الأخيرة أن تسير على الخطى التي تلت عملية الرصاص المصبوب (2008-2009). ففي آذار/مارس 2009، عقدت الجهات الدولية المانحة مؤتمراً كبيراً خاصاً بفترة ما بعد الحرب برعاية مصرية ونرويجية، وذلك في المنتجع المصري شرم الشيخ. وشاركت في المؤتمر تسعون دولة فضلاً عن منظمات غير حكومية، وتعهدت بتقديم حوالي 4.7 مليار دولار منها 1.6 مليار دولار لقطاع غزة (وكانت البقية للتنمية الاقتصادية الفلسطينية بشكل عام ودعم السلطة الفلسطينية). وجاءت أكبر التعهدات من المملكة العربية السعودية (1 مليار دولار) والولايات المتحدة (900 مليون دولار) والدنمارك (220 مليون دولار من إجمالي 1.25 مليار دولار تعهدت بها أوروبا).

والملاحظ أن نتائج مؤتمر شرم الشيخ فاقت التوقعات المفصلة في تقرير ما بعد الحرب الذي أصدرته السلطة الفلسطينية بعنوان «الخطة الوطنية الفلسطينية للإنعاش المبكر وإعادة إعمار غزة» [«الخطة»]، والذي حدد مبلغ 2.7 مليار دولار هدفاً يجدر بلوغه، ويوجه نصفه إلى غزة. وعلى غرار تقارير لاحقة، وضعت «الخطة» هدفاً شاملاً مقسماً إلى قطاعات هي: البنية التحتية (بما في ذلك السكن والطاقة والنقل)؛ والزراعة والصناعة الخاصة؛ والحماية الاجتماعية (وتشمل التعليم والصحة)؛ والحوكمة؛ والموارد الطبيعية. وقد قدم منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي في ذلك الحين خافيير سولانا، دعمه “الصادق” لـ «الخطة الوطنية الفلسطينية للإنعاش المبكر وإعادة إعمار غزة» قائلاً أنه يجب على المجتمع الدولي “التآزر لهذه الخطة وتمكين [السلطة الفلسطينية] من قيادة جهود إعادة الإعمار”.

لكن على الرغم من النوايا الحسنة للمانحين وحاجة غزة الواضحة لبرنامج المساعدة، لم تتحقق معظم تلك التعهدات لأسباب سياسية وأمنية – تنبع معظمها من حكم «حماس» المستمر على القطاع، المعمول به منذ الانقلاب الذي قامت به الحركة ضد السلطة الفلسطينية عام 2007. وكما صرّح الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في 2 آذار/مارس، فإن “هدفنا الأول والضروري … هو فتح المعابر. ومع ذلك، وبنفس المعيار، فمن الضروري ضمان عدم دخول أسلحة غير مشروعة إلى غزة”.

وعلى الرغم من بروز عقبات سياسية وأمنية مماثلة في هذه الأيام، يمكن القول أن الفرق الكبير بين الماضي والحاضر يكمن في الوضع [الذي كانت تمثله] شبكة أنفاق التهريب الواسعة تحت الأرض التي كانت تربط قطاع غزة مع شبه جزيرة سيناء. وكما ورد في تقرير صادر عن “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” في عام 2010، بعنوان “بعد عام” من الحرب، فقد كان الانتعاش الاقتصادي المتواضع في غزة في ذلك الحين يعود في جزء كبير منه إلى “تجارة الأنفاق المتنامية بين مصر وقطاع غزة واستيراد المواد اللازمة”. بيد، فرض الجيش المصري خلال العام الماضي إجراءات صارمة على الأنفاق لدرجة أن “شريان الحياة لقطاع غزة” (كما تم وصف الشبكة تحت الأرضية في التقرير الذي صدر عام 2010) بات غير فاعل إلى حد كبير.

حجم المهمة القادمة

إنه لأمر طبيعي أن تكون الموارد المطلوبة لإعادة إعمار غزة في الوقت الحاضر أكبر بكثير من تلك التي كانت مطلوبة في السنوات الماضية. فالضرر الذي لحق بالبنية التحتية من جراء جولة القتال الأخيرة وحدها، كبير. ووفقاً للتقديرات الأولية للأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية، تتضمن حصيلة العمليات القتالية التي سببتها الحرب تدمير ما يصل إلى20,000 وحدة سكنية وإلحاق الضرر بـ40,000 وحدة أخرى. كما تم إلحاق الضرر بـ 15 مستشفى من مستشفيات غزة البالغ عددها 32 من بينها 9 مستشفيات لا تزال مغلقة. كما لحقت أضراراً كبيرة بإحدى توربينات محطة الكهرباء الوحيدة في القطاع وبخزانات الوقود فيها. كما لحق الضرر بـ 360 مصنعاً من بينها 126 دُمرت تدميراً كاملاً. وقد دُمرت أيضاً 22 مدرسة وتضررت 188 مدرسة أخرى تقريباً. كما تضرر35,000 دونماً من الأراضي الزراعية. أما من الناحية الإنسانية، فلا يزال 100 ألف من سكان غزة البالغ عددهم مليون و 800 ألف شخص نازحين داخلياً، فيما يفتقر 40 بالمائة منهم إلى المياه الجارية، فضلاً عن أن متوسط انقطاع التيار الكهربائي يبلغ ثماني عشرة ساعة في اليوم الواحد. وقد فاقمت هذه المشاكل الظروف الصعبة التي واجهتها المنطقة قبل الحرب – فوفقاً لعمال الإغاثة الأجانب وكبار ضباط الجيش الإسرائيلي كانت البنية التحتية للطاقة والمياه والصرف الصحي في غزة تواجه بالفعل الانهيار، بينما انحدرت البطالة إلى نحو 50 في المائة، كما كان ثلثي السكان يتلقون شكلاً من أشكال المساعدات الإنسانية.

وفي هذا الإطار نشر مؤخراً «المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار» («بكدار»)، وهو هيئة تابعة للسلطة الفلسطينية مقرها في رام الله، تقريراً يحتوي على 200 صفحة أُعدّت بعد الحرب خلص فيه إلى أن إعادة الإعمار ستكلف 7.8 مليار دولار. ويتضمن هذا المبلغ ما يقدر بـ 450 مليون دولار للإغاثة الإنسانية الفورية (مثل الغذاء والأدوية والمولدات والبيوت المتنقلة)، فضلاً عن 3 مليارات دولار من المساعدة الإنمائية الطويلة الأجل للمشاريع التي من غير المحتمل أن تتحقق في المستقبل المنظور (مثل بناء مطار مدني وميناء). وتم تخصيص بقية الـ4.4 مليار دولار لإعادة الإعمار، ويميز هذا المبلغ بين الضرر “المباشر” الذي سببته الحرب (على سبيل المثال، ما يصل إلى 1.7 مليار دولار في تكاليف إعادة بناء الوحدات السكنية والبنية التحتية) وتكلفة مالية غير منظورة لـ “الضرر غير المباشر” التي تقدر بـ 2 مليار دولار.

وكما هو الحال غالباً في الطلبات المقدمة إلى الجهات المانحة – وبالتأكيد ليس فقط في السياق الفلسطيني – من المرجح أن تكون هذه المبالغ مبالغاً فيها أو أنها ببساطة خلط ما بين تكاليف إعادة الإعمار ومشاريع التنمية على المدى الطويل. كما وأنه من غير الواضح ما إذا كانت هذه المبالغ تأخذ بعين الاعتبار التكاليف المرتفعة لبرنامج تفتيش شامل للسلع ذات الاستخدام المزدوج المحتمل التي تدخل غزة. على سبيل المثال، أشار حساب صحفي إلى أن تقرير «المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار» دعم إعادة بناء قطاع الطاقة في غزة بـ 250 مليون دولار، في حين قدّر معهد أبحاث فلسطيني مستقل هذه التكلفة بحوالي 45 مليون دولار. ووفقاً لما أوردته التقارير فقد تم تحضير تقرير «بكدار» من خلال عمل ثلاثة فرق منفصلة تركز على المساعدات الإنسانية العاجلة، وتكاليف إعادة البناء، واحتياجات التنمية المستقبلية، على التوالي. ومثل هذه المقاربة مفيدة لأن المنظمات المانحة عادة ما تستفيد من الأموال المختلفة لكل من هذه الأهداف.

وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن يشكل دور القطاع الخاص نقطة رئيسية في النقاش حول أي إطار عمل لفترة ما بعد الحرب. ووفقاً لما قاله منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط روبرت سيري الشهر الماضي، فإن جعل قطاع غزة قادراً على تأمين استقلاليته الاقتصادية على المدى الطويل سيتطلب “برنامج إعادة إعمار يطبقه القطاع الخاص بقيادة السلطة الفلسطينية” وبمساعدة من الأمم المتحدة.

«حماس» مقابل عودة «فتح»

إذا كانت الجهود قائمة على المساعدة على تجاوز المرحلة الأولية من الإغاثة الإنسانية، وإذا كان سكان غزة سيكسرون الحلقة المأساوية من الحروب وإعادة الإعمار، فيتوجب على السلطة الفلسطينية والمانحين الدوليين معالجة العقبة الشاملة الكامنة في استمرار سيطرة «حماس» على قطاع غزة. فإعادة فتح المعابر الحدودية في غزة شرط لا غنى عنه لأي برنامج مستدام لإعادة الإعمار، وذلك لتسهيل استيراد السلع ومواد البناء على نطاق واسع. إلا أن المخاوف الأمنية التي أثارها الأمين العام للأمم المتحدة في عام 2009 حول تهريب الأسلحة لا تزال قائمة، بالإضافة إلى تهديدات «حماس» بتحويل المواد ذات الاستخدام المزدوج لبناء الأنفاق، وتصنيع الصواريخ، وأغراض عسكرية أخرى. وقبل أن يمكن فتح المعابر، لا بد من اتباع منهجية تفتيش صارمة على الحدود وداخل قطاع غزة تحت رعاية مشتركة للسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، وبنصائح من إسرائيل ومصر.

أضف إلى ذلك أنه يجب تحويل مختلف الوزارات، والسلطات على المؤسسات الحكومية، وقوات الأمن العام في غزة من حكومة «حماس» التي تم حلها إسمياً إلى السلطة الفلسطينية. وكان اتفاق المصالحة بين «حماس» و «فتح» الذي وُقِّع في نيسان/أبريل قد دعا لمثل هذه الخطوة، لكن لم يتم تطبيقها بعد. ولا يمكن لمعظم الجهات المانحة الدولية العمل بشكل قانوني مع جماعة مصنفة كإرهابية مثل حركة «حماس»، لذا تبرز حاجة عملية لأن تعمل السلطة الفلسطينية كوسيط في عملية إعادة الإعمار. ويُذكر هنا أن السياق السياسي الفلسطيني الداخلي هو بنفس القدر من الأهمية تقريباً. فلا يجب أن ينظر الفلسطينيون إلى «حماس» على أنها المزود لهذه المساعدات، إذ لا يجب مكافأة الرفض والحرب بمساعدات دولية بمليارات الدولارات. وقد شهد الأسبوع الماضي تبادل الاتهامات بين قادة «فتح» (الذين يديرون السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية) ومسؤولي «حماس» بشأن السيطرة على قطاع غزة. وكان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد اتهم «حماس» بإدارة “حكومة ظل” في القطاع، وأشار إلى أن السلطة الفلسطينية “يجب أن تكون موحدة وتعمل في إطار نظام واحد، حتى في قطاع غزة.”

وبناءً على هذه الخلفية، فإن اجتماع “لجنة الاتصال الخاصة” (هيئة دائمة للتنسيق بين الجهات المانحة للسلطة الفلسطينية) في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومؤتمر المانحين في القاهرة سيعطي السلطة الفلسطينية وشركائها فرصة لوضع آليات لمساعدة قطاع غزة. وعلى وجه الخصوص، ستحتاج السلطة الفلسطينية إلى توضيح خططها لإعادة تأكيد سيطرتها على البيروقراطيات الحكومية في غزة والمعابر الحدودية. وكما ذُكر أعلاه، فبالإضافة إلى تنسيق المساعدات الأمنية والمالية وتلك المتعلقة بالتنمية، يتوجب على المانحين الدوليين أن يتمسكوا علناً بالمبدأ القائل بأن السلطة الفلسطينية هي الوسيط الشرعي الوحيد لهذه المساعدة. ومن الناحية العملية، يجب أن يعني ذلك أيضاً اتفاق جميع الأطراف المعنية على الخطوات التي سيتم اتخاذها إذا حاولت «حماس» مخادعة نظام التفتيش أو تقويض نظام إعادة الإعمار الذي أُقيم بعد الحرب بطرق أخرى. وباختصار، فإن المعركة الحقيقية بين «حماس» و «فتح» حول مستقبل غزة ما زالت مستمرة.