IMLebanon

الحلقة المفرغة لنمو الاقتصاد الصيني وفق النموذج الخاطىء

ChinaEcon

كه يو جين

نموذج خاطئ للنمو
يشعر معظم الخبراء بقلق مبرر إزاء اقتصاد الصين سواء كان ذلك بسبب انخفاض الاستهلاك والفوائض الخارجية الكبيرة، أو القدرة الصناعية الفائضة، أو التدهور البيئي، أو التدخلات الحكومية، مثل ضوابط رأس المال أو القمع المالي.
غير أن الحقيقة التي فشل كثيرون في إدراكها هي أن هذه مجرد أعراض لمشكلة واحدة أساسية، ألا وهي النموذج الخاطئ للنمو الذي تتبناه الصين. الواقع أن هذا النموذج مدفوع سياسيا, إلى حد ما، وهو نتاج انحياز عميق الجذور لمشاريع البناء والتصنيع باعتبارها محركات رئيسية للتنمية الاقتصادية.
ويرجع هذا الميل إلى القفزة الكبرى إلى الأمام في خمسينيات القرن العشرين، عندما كانت الخردة المعدنية تُصهَر لتلبية أهداف إنتاج الصلب, وبالتالي تعزيز حلم ماو تسي تونغ بالتحول السريع إلى التصنيع.

واليوم، يتجلى ميل الصين إلى الإنتاج الصناعي في مشاريع الصناعات التحويلية والبنية الأساسية الواسعة النطاق، بتشجيع من إعانات الدعم الحكومية المباشرة وغير المباشرة.
ومن خلال تعزيز الاستثمار وتوليد العائدات الضريبية للحكومات المحلية، يخلف هذا النهج تأثيرا إيجابيا أكثر مباشرة على الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بالجهود الرامية إلى تطوير قطاع الخدمات.

سياسات اقتصادية تشويهية
ولكن هذا النموذج ينطوي أيضا على تكاليف كبيرة، فقد أصبحت الصين الآن حبيسة دائرة اقتصادية مفرغة تدعمها سياسات تشويهية غير مترابطة ظاهريا، ولكنها في واقع الأمر شديدة الترابط، بل وحتى تكافلية.
وتتجلى إحدى السمات الصارخة لهذا النمط في التباين بين نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين، الذي بلغ في المتوسط ما يقرب من 10% سنويا، على مدى العقود القليلة الأخيرة، وبين نمو العمالة الذي تراوح بين 1% و2% سنويا فقط. ومن الواضح أن توسع التصنيع والصادرات من غير الممكن أن يستوعب وحده قوة العمل الهائلة في الصين.
والمشكلة هي أن نمو إنتاجية العمل السريعة في القطاع الصناعي -أكثر من 10% سنويا على مدى العقدين الماضيين- يحد من الحاجة إلى استئجار المزيد من العمال.
وعلى النقيض من هذا، شهد قطاع الخدمات نموا أبطأ كثيرا في إنتاجية العمل (نحو 5% سنويا على مدى نفس الفترة)، وهذا يعني أنه قد يكون أكثر فعالية في توليد نمو العمالة. ففي الولايات المتحدة، نحو 80% من إجمالي قوة العمل نشرت في قطاع الخدمات في العام 2012.
وكان من بين العواقب الأخرى المترتبة على نموذج النمو المنحرف في الصين انخفاض دخل الأسر كحصة من الناتج المحلي الإجمالي من 70% في العام 1990 إلى 60% في العام 2009، في حين ظلت النسبة مستقرة في الولايات المتحدة على سبيل المثال بنحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي. وبعبارة أخرى، لا تعود فوائد النمو الاقتصادي على الأسر الصينية.
وهذه الظاهرة أيضا من الممكن أن تعزى إلى حد كبير إلى السياسات التشويهية، ففي محاولة للحد من الارتفاع في تكاليف العمل، قمعت الحكومة الأجور، فلم يتجاوز نموها 5% سنويا على مدى الأعوام العشرين الماضية، حتى مع نمو الإنتاجية بمعدل سنوي بلغ 8.5%.
من ناحية أخرى، تسبب القمع المالي في خفض تكاليف رأس المال، ففي العقد الماضي كان متوسط العائد الحقيقي (المعدل تبعا للتضخم) على الودائع قريبا من الصفر. ومع إيداع نحو 80% من مدخرات الأسر الصينية في البنوك، فإن هذه الضريبة المستترة على المدخرات كان لها تأثير اقتصادي كبير، حيث عززت ميل الأسر الصينية إلى الادخار، وبالتالي قوضت نمو الاستهلاك وأدت إلى تفاقم اختلالات التوازن العالمية. وبهذه الطريقة، ساعدت السياسات التشويهية التي انتهجتها الصين في إدامة نموذج النمو المختل.
فقد عمل قمع الأجور، والقمع المالي، وسعر الصرف المقوم بأقل من قيمته على دعم الصادرات والإنتاج، ولكن على حساب الأسر التي أصبحت بالتالي مرغمة على الادخار، وهو ما أدى إلى إضعاف الطلب المحلي. ومن أجل تحقيق أهداف النمو، تضطر الحكومة بالتالي إلى الاعتماد على الصادرات والاستثمار، وهو النهج الذي يؤدي إلى تراكم احتياطيات هائلة تضطر البنك المركزي إلى خفض آثار دخول وخروج رأس المال لموازنة تأثيرها على المعروض النقدي (التعقيم النقدي).
“عمل قمع الأجور والقمع المالي وسعر الصرف المقوم بأقل من قيمته على دعم الصادرات والإنتاج، ولكن على حساب الأسر” وتساعد أسعار الفائدة المنخفضة في احتواء تكاليف التعقيم على المستوى الوطني وخفض التكاليف على مستوى الشركات، ومرة أخرى على حساب الأسر.

نموذج النمو الحالي عبء على البيئة
لن يكون كسر هذه الحلقة المفرغة سهلا، ولكن لا يوجد سبيل آخر لمعالجة العديد من المشاكل الأكثر إلحاحا التي تواجه الاقتصاد الصيني، والواقع أن نموذج النمو الحالي يشكل عبئا ثقيلا أيضا على البيئة، حيث يهدد التلوث صحة السكان، خاصة في المناطق الحضرية.
وعلاوة على ذلك، يؤدي هذا الانحياز للتصنيع والتصدير إلى سوء توزيع شديد لرأس المال، فقد تراكم لدى القطاعات الصناعية الأقل كفاءة فائض كبير في القدرة، وهو ما من شأنه أن يزعزع استقرار الاقتصاد بالكامل، في حين تفتقر قطاعات أكثر إنتاجية وكفاءة إلى القدرة على الوصول إلى الموارد التي تحتاج إليها.
الحق أن إعادة هيكلة الاقتصاد ربما تشكل التحدي الأكثر إلحاحا -والأشد صعوبة- الذي يواجه قادة الصين اليوم. ولأن التشوهات الحالية مترابطة ومتداخلة، فإنها قد تحتاج إلى العلاج بشكل متزامن. ولعل النهج التدريجي الذي تتبناه الصين لم يعد ناجحا.