IMLebanon

خط غاز ساوث ستريم والمتغيرات الجيوإستراتيجية

RussiaSouthStream
تامر بدوي

لماذا أضحى تنفيذ ساوث ستريم ضرورة؟
يكتسب خط غاز ساوث ستريم أو “السيل الجنوبي” -الذي تطمح روسيا لبنائه- دوره في تعزيز أمن الطاقة لدول جنوب شرق ووسط أوروبا في ظل الأزمة الأوكرانية الجارية والرغبة المشتركة بين موسكو وعدد من العواصم الأوروبية في إقصاء كييف كمعبر للغاز الطبيعي إلى قلب أوروبا.
من جهة أخرى يتيح الخط لموسكو استعادة مجال نفوذها في قطاع الطاقة مرة أخرى في أوروبا, وهو الأمر الذي يجعل المفوضية الأوروبية تقف في وجه تنفيذ المشروع وسط اشتداد وتيرة الصراع في أوكرانيا.
مع ذلك, لا تقف بروكسل على أرض صلبة في نزاعها مع موسكو حول مدى اتساق مشروع الخط مع ما يسمى بحزمة التشريعات الأوروبية الثالثة التي تستهدف في جزء منها الحيلولة دون دفع أسواق الغاز الأوروبية للاحتكار وتحقيق قدر أكبر من الشفافية.
ويكمن ضعف موقف المفوضية في أن العقد الذي تُصدر موسكو بموجبه الغاز لأوروبا عبر كييف (مع شركة نفطوغاز) ينتهى في عام 2019 في ظل استمرار عقود الغاز بين روسيا والدول الأعضاء في وسط شرق وجنوب شرق أوروبا (تعتمد مثلاً دول شرق وجنوب شرق أوروبا على الغاز الروسي بنسبة تتراوح بين 60% و100%).
على هذا الأساس, بداية من يناير/كانون الثاني عام 2020, لن تصبح موسكو ملتزمة بتصدير غازها لهذه الدول عبر أوكرانيا. في ذات الوقت ليس هناك خط بديل يمكن أن ينقل الغاز الروسي.
فبناء خط ساوث ستريم -إذا تمت معالجة مشكلة الوضع القانوني المذكور- سيحتاج إلى وقت طويل يجعل أمن الطاقة للدول المعتمدة بصورة شبه كلية على الغاز الروسي في موقع ضعيف ما لم تتوصل كل من موسكو وبروكسل إلى تسوية فيما يتعلق بشرق أوكرانيا المتنازع عليه بشكل رئيسي.

الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي
بحسب تقرير لشركة النفط البريطانية صدر في عام 2013 يتنبأ بوضع الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي حتى عام 2035, من المتوقع أن يزداد استيراد أوروبا للغاز الطبيعي لتغطية احتياجاتها عبر الخطوط من 37% في الوقت الحالي إلى 51% في عام 2035.
في نفس الوقت بدأت تتراجع أهمية أوكرانيا كمعبر لنقل الغاز الروسي لأوروبا تدريجياً. وبحسب تقديرات, يشهد حجم الغاز الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا لأوروبا انخفاضا تدريجيا بعد إنشاء خط غاز نورث ستريم أو “السيل الشمالي” الذي يربط بين روسيا وألمانيا.
وهذا يجعل أوروبا في موقف ضعيف أمام موسكو حيث يضعف تنسيق دول الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بقطاع الطاقة نظرا لتضارب مصالحها من جهة ومحاولة روسيا التعامل مع كل دولة على حدة وتشكيل مجموعات لوبي فيها، من جهة أخرى.
نتيجة لهذا التفكك أصبحت دول جنوب شرق أوروبا ووسطها في النهاية بحاجة لمشروع ساوث ستريم بعد تعثر خطط أوروبية كانت تستهدف توزيع وارداتها بعيدا عن الغاز الروسي بدأت في منتصف العقد الماضي.
أوروبا والغاز الأذري
وإن كان سير خطط استيراد الغاز الأذري عبر خطي العابر للأناضول والعابر للأدرياتيكي في المستقبل علامة نجاح, إلا أن الغاز القادم من باكو لن يكفي لتعويض الغاز الروسي.
في المقابل لم تنجح حتى الآن مشروعات عديدة دعمها الاتحاد الأوروبي كخط نوباكو (فضلاً عن نسخته الأخيرة: نوباكو الغربي) وخط العابر لقزوين. لكن لا يزال الغاز الإيراني (كذلك التركماني عبر مسار غير روسي) يصب في صالح أمن الطاقة الأوروبي إذا توصل الجانبان لتسوية فيما يخص الملف النووي.
لكن من جهة أخرى, على المستوى الداخلي, حققت دول الاتحاد نجاحاً معتبراً في السير في مشاريع تستهدف تشكيل خطوط غاز داخلية (Inter-connectors) لربط الدول ببعضها لتعويض بعضها في فترات العجز. كذلك بدأ عدد من دول شرق أوروبا في تشكيل خطوط تعكس مسار الغاز (Reverse-flow) من الدول المستهلكة إلى الدول الناقلة مرة أخرى, في مسعى يقوض من قدرة روسيا على الضغط على الدول الناقلة/الوسيطة.

عودة للجيوبوليتيكا الأوروبية القديمة
إذا كان خط ساوث ستريم -الذي من المخطط أن يعبر إلى بلغاريا, وصربيا, والمجر والنمسا (بالإضافة لليونان وايطاليا)- يشكل أهمية معتبرة بالنسبة لأمن الطاقة لهذه الدول, فالبحر الأسود -الذي يمر منه الخط إلى هذه الدول, كمسطح مائي إستراتيجي يفصل بين الشرق الأوسط, وروسيا, والقوقاز وشرق أوروبا- أصبح منطقة ساخنة تتجه نحو المزيد من العسكرة في ظل زيادة حدة الاستقطاب بين روسيا والغرب.
هناك من المحللين الإستراتيجيين الغربيين من يتحدث عن أهمية توجه الولايات المتحدة نحو البحر الأسود كنقطة ارتكاز جغرافي جديدة في ظل المتغيرات الإستراتيجية بالشرق الأوسط (تمدد تنظيم الدولة الإسلامية شرقاً) وشرق أوروبا (توسع النفوذ الروسي غرباً).
حسبما يرى جورج فريدمان, يشكل البحر الأسود أقرب مسطح مائي يتوسط المنطقتين يجب أن تعتمده واشنطن كنقطة انطلاق إستراتيجية ومسرح عمليات موحد لكبح جماح خصومها في المنطقتين بالإضافة لمراقبة الوضع في منطقة القوقاز التي تعتبرها موسكو “مجالها الحيوي”, فضلاً عن نشاط شبكات الحركات السلفية الجهادية في القوقاز أيضاً (يضاف إليها تحركات الإيرانيين). وتعتمد هذه الإستراتيجية بصورة رئيسية على تعزيز واشنطن علاقاتها بتركيا نظراً لموقعها الجيوإستراتيجي كمتحكم في مدخل البحر الأسود.
تتشابه إستراتيجية فريدمان التي تدعو للاتجاه نحو البحر الأسود كنقطة ارتكاز جغرافي في صورة من صورها مع الجيوبوليتيكا الأوروبية القديمة في القرن التاسع عشر التي كانت تستهدف الحيلولة دون سيطرة روسيا القيصرية على المضائق البحرية والبحر الأسود ككل.
على أساس هذه الإستراتيجية, تدخلت بريطانيا مع الحلفاء إلى جانب الإمبراطورية العثمانية لإخضاع روسيا القيصرية في حرب القرم (التي نشبت في عام 1854) كي لا تسيطر الأخيرة على البحر الأسود, وإن كان السبب المباشر للحرب يتعلق بنزاع فرنسي روسي حول الوصاية الدينية. بالنسبة لبريطانيا, كانت سيطرة القيصر الروسي على البحر الأسود والمضائق البحرية خطا أحمر لأسباب متعددة.
بذلك قد يصبح مشروع خط غاز ساوث ستريم -بصورة محتملة- مرتبطاً بالمتغيرات الإستراتيجية في كل من الشرق الأوسط, والقوقاز وشرق أوروبا. أي لا يتعلق مستقبل المشروع بالقرارات السياسية والنزاع المستمر بين موسكو والمفوضية الأوروبية فقط بل أيضاً بعوامل أمنية وعسكرية غير مباشرة تتعلق بحسابات عابرة للإقليم الذي يمر منه الخط.

صوفيا تبحث عن دور إقليمي
تقف بلغاريا كلاعب محوري في مشروع ساوث ستريم نظراً لموقعها الجغرافي الذي يجعلها مدخل الخط إلى بقية دول الجنوب الشرقي (كانت بلغاريا تتمتع بذات الموقع الإستراتيجي في مشروع نوباكو المتعثر). نظراً للدور البلغاري, كان خط ساوث ستريم محلاً لنزاع الائتلافات السياسية الحاكمة في صوفيا منذ شهور نظراً لكون الخلاف على الخط أمرا يخص سياسات الاتحاد الأوروبي للطاقة ويتعلق بصورة غير مباشرة بالصراع الدائر في أوكرانيا.
بعد وقف تنفيذ مشروع ساوث ستريم في بلغاريا بسبب الخلاف القانوني على الخط, بدأت بلغاريا تركز جهودها على مشروع غاز شرق المتوسط الذي تقوده إسرائيل وقبرص لتصدير غاز شرق الحوض إلى أوروبا. منذ وقف المشروع بدأت زيارات بلغارية إلى إسرائيل واليونان لمناقشة مشروعات للطاقة تُصدر بموجبها تل أبيب غازها (غاز مُسال) إلى أوروبا عبر اليونان وبلغاريا. بذلك قد يعزز تراجع مشروع ساوث ستريم من مشروعات التصدير الإسرائيلية القبرصية إلى أوروبا على حساب موسكو.
تستهدف صوفيا من هذه المشروعات تعزيز موقعها الإقليمي كمعبر للغاز الطبيعي إلى أوروبا, وإن ظلت معبرا من الدرجة الثانية مقارنة بتركيا. في هذا السياق تسعى بلغاريا إلى بناء شبكة من خطوط الغاز لربطها بتركيا واليونان لتعزيز أمن طلبها الداخلي على الغاز الطبيعي من جهة ولربط شبكات هذه الدول بدول جنوب شرق ووسط أوروبا المهددة في قطاع الطاقة بسبب الأزمة الأوكرانية التي قد تنعكس على أمن إمدادات الغاز الطبيعي, من جهة أخرى.