IMLebanon

الصين تُزاحم الولايات المتحدة على الصدارة من باب الاقتصاد

AlMustakbal
حيدر الحسيني
اخترقت الصين بمنتجاتها الرخيصة أسواق العالم على نطاق واسع منذ تسعينات القرن الماضي، رافعةً رايتها «الحمراء» التي لطالما شكّلت عنواناً للعداوة بين معسكري الشرق والغرب، خصوصاً في المرحلة التي سبقت تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991.

في مفارقة تكيّفية فريدة، مزجت بكين اقتصادها بين اشتراكية ورأسمالية، فاستحدثت خليطاً «هجيناً» يضمن لها خصوصية شيوعية في الداخل وانفتاحاً «مدروساً» على العالم الغربي، الذي كان قبل أزمة 2008 آخذاً -بلا هوادة- بتحرير تجارته وخدماته، متخلياً عن دور الحكومات أكثر فأكثر لصالح القطاع الخاص، قبل أن يعود مع تفجّر الأزمة إيّاها إلى سياسة شبه تأميمية تعيد للدولة دوراً رعائياً رئيسياً، إن لم نقل إدارياً وتوجيهياً، عندما تدخلت سلطات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإنقاذ مصارف وشركات عملاقة، لا بل دولاً، كانت على وشك الانهيار والإفلاس، ثم ما لبثت أن وضعت قواعد ومعايير تقيّد إلى حد كبير «سياسة التحرير» التي سوّق لها الغرب على مدى عقود أعقبت وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها.

إضافة إلى إنجازاته الخاصة، لم يذر «المارد» الصيني «الذكي» سلعةً أجنبية «دارجة» إلا وقلّدها وشحنها وسوّقها، و/أو صنّعها، باتفاقات «شرعية» لحساب الشركات العالمية، التي اضطرت إلى الإذعان لـ«الغزو» الصيني «الناعم» والتعاون معه كي تخفّض هوامش تكاليف الإنتاج وترفع مستويات أرباحها، مستفيدةً من تدنّي الأجور والضرائب والرسوم ورخص فاتورة التصنيع في ضيافة «التنين».

اليوم، يمكن القول بكل ثقة إن «الزحف» الصيني اكتمل. «صُنع في الصين» أو «Made in China» أو «Fabriqué en Chine»، عبارة قلّما لا يجدها المستهلكون مطبوعةً على البضائع المكدّسة على رفوف المتاجر حول العالم، من مراكز التسوّق الكبرى (Malls) إلى أصغر «الدكاكين» و«البسطات».

خطوط الإنتاج الصينية الشاملة ذات البضائع الأرخص سعراً «طوّعت» تقريباً كُلّ السلع؛ ألبسة وأقمشة، إلكترونيات، ألعاب، أدوية، أغذية، أثاث، أجهزة ووسائل الاتصالات والمعلوماتية، سيارات، وحتى الشاحنات والمعدات والآلات الثقيلة.. إلخ، وصولاً إلى الصناعات الحربية (برية وبحرية وجوية) والأقمار الاصطناعية ومركبات الفضاء.

منافس شرس خارج «فخ» الانكماش

زاحمت الصين المنتجين المحليين في غالبية القطاعات داخل الدول الشريكة لها تجارياً، فتصدّى لها المتضررون بشكاوى «إغراق» أمام المحافل الدولية تارة، وفرضت الحكومات رسوماً باهظة على صادراتها طوراً. وتعرّضت، كغيرها من الدول، لضغوط هائلة من الخضّات الاقتصادية الكبرى التي أصابت الأسواق المالية وضربت مسار النمو الصاعد.

مع ذلك، فإن الصين التي عانت صادراتها من الركود العالمي (الذي يعني تالياً إحجاماً عن التوسّع في استهلاك السلع التي تصنعها)، لم تدخل مُطلقاً في ركود أو انكماش اقتصادي كالذي أصاب دولاً صناعية كُبرى لم تدّخر تدبيراً تحفيزياً إلا واتخذته منذ عام 2008، ومع ذلك لم تؤتِ هذه الإجراءات ثمارها إلا قليلاً، قبل أن ينهي مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي الأسبوع الماضي برنامج التيسير الكمّي لشراء السندات، ولكن على حذر، عبّر عنه بإبقاء نسب الفائدة قريبةً من الصفر، كما هي عليه منذ 6 أعوام، ليتبعه بعد يومين نظيره الياباني لكن بقرار مناقض تماماً قضى بتوسيع برنامجه عبر زيادة مشترياته من السندات الحكومية إلى 723,4 مليار دولار سنوياً.

الصين التي سبق لها قبل بضع سنوات أن أزاحت اليابان من المرتبة الثانية على لائحة القوى الاقتصادية الكبرى، تزاحم اليوم الولايات المتحدة على مركزها الأول، وهي تقدمّت عليها فعلاً في بعض المؤشرات الاقتصادية الفرعية، ومن ذلك إعلان صندوق النقد الدولي أن القدرة الشرائية الصينية تتفوق على الولايات المتحدة هذا العام، على أساس ما يسمى بتعادل القدرة الشرائية (PPP)، حيث من المتوقع ان يصل الناتج المحلي المجمل الصيني الى 17,632 تريليون دولار هذه السنة، مقارنة مع 17,416 تريليون دولار في الولايات المتحدة.

كما تحرز الصين نمواً مرتفعاً، بينما يكابد منافسوها من ضعف النمو بعد مراحل متقلبة من الركود والانكماش. فقد سجل الاقتصاد الأميركي أسوأ أداء له في 5 أعوام، خلال الربع الأول من العام الجاري، ما أدى إلى تراجع الناتج المحلي المجمل، حيث أظهرت بيانات وزارة التجارة انكماش الاقتصاد بمعدل 2,9 في المئة، قبل أن يعزز تراجع العجز التجاري وارتفاع الإنفاق العسكري النمو في الربع الثالث إلى 3,5 في المئة، رغم تأكيد بعض التقارير انحسار القوة الدافعة للنشاط الاقتصادي.

في اليابان، حيث نصف القوة تكمن في التصدير المتراجع بسبب الركود العالمي، مُني الاقتصاد بانكماش سنوي بلغ 7,1 في المئة في الربع الأول من العام المالي الجاري (حتى آخر حزيران الفائت)، بعد زيادة ضريبة الاستهلاك في نيسان من 5 في المئة إلى 8، بسبب تراجع قدرة المواطنين الشرائية التي تشكل نصف القوة الآخر.

أما المسار الصيني، فكان مختلفاً تماماً. البنك الدولي يتوقع أن يواصل النمو اعتداله، بما يعكس ثمار سياسات إعادة التوازن من خلال إصلاحات تدعم نمواً أكثر استدامة، متوقعاً أن يحقق البلد متوسط نمو لعامي 2015 و2016 إلى ما يزيد قليلاً عن 7 في المئة، بينما يتوقع «بنك الشعب» (المركزي) نمواً نسبته 7,4 في المئة خلال العام الجاري.

صندوق النقد الدولي يتوقع للاقتصاد الأميركي (المُصنّف في تقاريره بين الاقتصادات المتقدمة طبعاً) أن ينمو بنسبة 2,2 في المئة هذه السنة، و3,1 في المئة العام المقبل، بعدما سجل 2,2 في المئة العام الماضي، مقابل انكماش بلغ -0,3 في المئة سنة 2008 و-2,8 في المئة عام 2009. كما يتوقع لاقتصاد اليابان (المُصنّف متقدماً أيضاً) نمواً نسبته 0,9 في المئة هذه السنة و0,8 في المئة العام المقبل، بعد بلغ 1,5 في المئة السنة الماضية، قياساً بانكماش بلغ -1,0 في المئة سنة 2008 و-5,5 في المئة عام 2009 و-0,5 في المئة سنة 2011. أما الصين، التي يدرجها الصندوق ضمن خانة «الأسواق الناشئة والدول النامية»، فيتوقع لها نمواً نسبته 7,4 في المئة للعام الجاري و7,1 في المئة للعام المقبل، بتراجع طفيف عن 7,7 في المئة المحققة العام الماضي.

الواضح أن الصين تحافظ على معدلات نمو مرتفعة جداً قياساً بالاقتصادين الأول والثالث، اللذين تتوسطهما، رغم أن المستويات الحالية تقل على نحو لافت عن 12,7 في المئة المحققة عام 2006، و14,2 في المئة عام 2007، و10,4 في المئة عام 2010، بعد متوسط نمو بلغ 9,2 في المئة بين عامي 1996 و2005.

«تلميع» السمعة الدولية بالتواصل ومكافحة الفساد

بالرغم من التقدم الكبير الذي حققته الصين في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والإعلامية، إلا أن الانتقادات الموجهة إليها لم تقف عند حدود سياساتها الإغراقية و«تلاعب» مزعوم بأرقام الناتج المحلي والموازنات العامة واتهامها بخرق القواعد الدولية لحقوق الملكية الفكرية عبر «نهب» أفكار الغير، بل تعدت ذلك إلى التهجم عليها بذريعة انتشار الفساد فيها وعدم احترامها لحقوق الإنسان، وفقاً للمعايير الغربية.

لم يصل الغرب إلى حد فرض عقوبات على الصين، مثلما فعل مع قوى عالمية وإقليمية اُخرى حليفة لها، وفي طليعتها روسيا وإيران، لكن أمام هذه الاتهامات (بغض النظر عن مدى صحتها) فإن الصين المنفتحة على العالم تجارياً، لم تجد بُدّاً من العمل على «تلميع» صورتها والتواصل مع العالم عبر وسائط الإعلام المختلفة وإطلاق حملة واسعة النطاق باسم «اصطياد الثعالب 2014» لمكافحة الفساد في شتى القطاعات الاقتصادية اعتباراً من تموز الماضي، علماً أن بكين تشن منذ أواخر 2012 حملة مشددة لمحاربة استغلال النفوذ بين المسؤولين على كافة المستويات.

من ذلك، مثلاً، أن هذه الحملة شملت حتى الآن اعتقال 180 مشتبهاً، لاتهامهم بالتورط في جرائم اقتصادية، ومنهم 104 لأفراد من الشرطة، و76 شخصاً عادوا إلى البلاد لتسليم أنفسهم، وبينهم من تورط في جرائم تقدر بأكثر من 10 ملايين يوان لكل قضية. وفي السياق عينه، انطلقت الشهر المنصرم محاكمة رئيس مصرف الإدخار البريدي، تاو لي منغ، مع اثنين من مساعديه، بتهم الارتشاء والاحتيال واختلاس أموال عامة.

وبموازاة هذه الجهود، تنبّهت السلطات إلى أهمية تعزيز الاقتصاد الداخلي وليس الاعتماد فقط على التصدير، فكان قرارها بضرورة مواكبة المسار الاقتصادي العالمي القائم على دعم المبادرات الفردية، رغم إيمانها بدور الدولة الراعي الأساسي لمصالح الشعب، إذ أقرت تخفيضاً للضرائب المقررة على الشركات الصغيرة بمقدار 37,1 مليار يوان (6 مليارات دولار تقريباً) فقط في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري.

كما قررت الشهر الماضي عزمها اتخاذ خطوات لتعزيز الاستهلاك المحلي، سعيا إلى زيادة جودة الاقتصاد وكفاءته، باعتبار أن الاستهلاك محرك مهم للنمو الاقتصادي والإنتاج الصناعي وصولاً إلى التنمية الشاملة.

هذه الأمور، وغيرها من التدابير، نجحت في ترك «بصمة» إيجابية إلى حد ما، لكن في عالم تلعب فيه التوجهات السياسية دوراً حاسماً في نفوذ هذه الدولة أو تلك، استطاعت الصين التعامل مع العديد من الملفات الخلافية على الساحة السياسية من دون إحداث ضجة كبيرة كالتي حصلت مع إيران على خلفية برنامجها النووي، أو مع روسيا حول تعاطيها مع الأزمة الأوكرانية. حتى أن الولايات المتحدة التي توزع استنكارها يميناً ويساراً، وجدت نفسها مضطرة إلى إشادة وصفت بأنها «نادرة» ببكين، عندما رحبت وزارة خارجية واشنطن بـ«دور الصين المتزايد في مساعي إشاعة الاستقرار في أفغانستان».

بعبارة موجزة، يمكن القول إن الاقتصاد الصيني لا يزال واحداً من أكثر الاقتصادات حيوية، استناداً إلى قوّته الانتاجية الذاتية بالدرجة الاُولى، وهي قوة بدت أكثر من كافية لشعبه، وأصبحت من الاحتياجات الأساسية للمستهلكين حول العالم، إلى درجة يصحّ معها وصف الصين بأنها «مصنع العالم»، الذي ارتفعت صادراته في آب الماضي إلى مستوى دفع الفائض التجاري إلى مستوى قياسي شهري بلغ 49,8 مليار دولار.

ومع ذلك، فإن نقطة الضعف الأساسية التي تكابدها الصين، هي عدم كفاية مصادر الطاقة لديها، خصوصاً النفط والغاز، التي تشكل عنصراً أساسياً على فاتورة الواردات. لكن الاكتشافات الكبرى التي تمّت في هذا البلد في الآونة الأخيرة تنبئ بأن مستقبلاً أفضل ينتظره، إذا ما استطاع الاستغناء عن هذه الفاتورة أو جزء منها، ما يعني بالتالي ترجيحاً هائلاً لكفته في الميزان التجاري الخارجي. ففي عصر الويلات المالية والاقتصادية على الشعوب والحكومات في أكثر من بقعة على وجه الأرض، لن يكون الويل لأمّة «تلبس مما تنسج»!