IMLebanon

«التكامل الاقتصادي العربي»: أي نموذج تريده الإسكوا؟

escwa
فراس أبو مصلح

رأت «الإسكوا» في تقرير بعنوان “مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية 2013-2014” أطلقته الأسبوع الماضي أن خفض نسبة البطالة إلى النصف في البلاد العربية مسألة حيوية للملمة الانفجار الاجتماعي-السياسي المُسمى “الربيع العربي»، فاحتسبت معدل النمو المطلوب لعدد من الدول العربية لتحقيق هذا الهدف، وأيضاً لزيادة التمويل المطلوب لتحقيق معدلات النمو المستهدفة لكل من الدول موضوع الدراسة، وهي الأردن وتونس والجمهورية العربية السورية والسودان ولبنان ومصر والمغرب واليمن، و«الخيارات المتاحة لواضعي السياسات من أجل سد النقص في تمويل التنمية».

«فجوة التمويل» ليست بسبب قلة الموارد، بل بسبب خروج كمية أموال من المنطقة في عام واحد تفوق حجم مجمل الفجوة، بحسب كبير الاقتصاديين في الإسكوا عبدالله الدردري، الذي يجزم بأنه لا يمكن إعادة توزيع الموارد العربية لخدمة التنمية بغير استحداث بنك عربي لإعادة الإعمار والتنمية، على غرار ما فعلت أوروبا وآسيا وأفريقيا وسائر أقاليم العالم، بل والعمل لتحقيق تكامل إقليمي يفرضه «ترابط مصير (كيانات المنطقة) في مجالات رئيسية مثل الأمن والاستقرار الاجتماعي».
القول إن رساميل الريع البترولي تذهب إلى الخارج ليس فيه أي جديد، وطرح استثمار جزء منها في المنطقة جيد من حيث المبدأ، لكن «القرار سياسي بامتياز، ولا يمكن تجاهل أن غالبية النخب العربية مستزلمة للغرب، وتخضع له بالكامل في خياراتها»، يقول الباحث الاقتصادي ألبير داغر، لافتاً إلى أن المسألة الفصل هي وجهة الاستثمارات المنتظرة: ففيما يسفه التقرير سياسة استبدال الواردات، مقترحاً «دعم الصادرات» بديلاً، يرى داغر أن «أفضل ما حصل في العالم الثالث هو سياسة استبدال الواردات، برغم نقص التجربة وعثراتها»، وأن التجربة «بنت دولاً وطنية»، بما يتعارض مع توجهات المؤسسات الدولية كالإسكوا، التي يحكمها «إجماع واشنطن». يشير داغر إلى أن الأخير يحاول بأدبياته أن «يحرف المسألة عن محورها الأساس»، وهو الوصول إلى القدرة على إنتاج الآلات بالمقدرة التكنولوجية الوطنية، عبر بناء وحماية صناعات محلية مستقلة تتطور «بالتجريب والتعلم»، وتتيح بناء تكنولوجيا عسكرية وطنية قادرة على صد العدوان، «على غرار النموذج الإيراني»؛ فالمنطقة العربية مستهدفة بالعدوان الغربي منذ القرن التاسع عشر، أي منذ أن بدأ الغرب بضرب محاولات التحديث والبناء المستقل، بدءاً بتجربة محمد علي ثم جمال عبد الناصر في مصر، وصولاً إلى التدمير الممنهج للعراق وسورية اليوم، يقول داغر.

كانت البلدان المشمولة بالدراسة تحتاج عام 2011 إلى 111,117 مليار دولار لـ«سد النقص في تمويل التنمية» اللازمة لخفض معدلات البطالة إلى النصف، لم تتلق منها سوى 56,248 مليار دولار، فسجلت نقصاً في التمويل قدره 54,926 مليار دولار، بحسب التقرير، وتُظهر أرقام الإسكوا أن «موارد المنطقة العربية (في السنة نفسها) كانت كافية لسد النقص في التمويل، وقد بلغ المجموع الإجمالي للتحويلات المالية والاستثمارات الأجنبية المباشرة والمساعدات الإنمائية الرسمية، التي خرجت من المنطقة 78,169 مليار دولار، أي 1.4 مرات حجم النقص؛ وكادت التحويلات المالية وحدها، والبالغة 53,528 مليار دولار، أن تكون كافية لتغطية النقص كاملاً»، فيما لم تتلق البلدان العربية سوى 29% منها! ويلاحظ التقرير أن التحويلات تلك «لا تُستخدم في الاستثمار بقدر ما تستخدم في الاستهلاك، فتبقى قدرتها على توليد فرص العمل محدودة». يشير التقرير إلى أن هذه «الظاهرة» هي «نقيض ما شهدته بعض بلدان جنوب آسيا، إذ تلقت مبالغ كبيرة من التحويلات المالية الواردة من بلدان الخليج؛ وقد بلغت حصة الهند وحدها حوالى 33 مليار دولار» من تلك التحويلات، متجاوزة التحويلات المالية البينية! سجلت التحويلات المالية المرسلة من المنطقة نمواً بوتيرة «تجاوزت التحويلات المالية البينية (العربية) بثلاث مرات»، بما «يتعارض مع النمط السائد في كتل اقتصادية إقليمية أخرى، حيث سجلت التحويلات البينية ضمن الكتلة الواحدة نسباً أعلى بكثير من مجموع التحويلات المرسلة منها»، بحسب التقرير الذي يسأل واضعوه ببراءة، «ما الذي يبرر انخفاض مستوى التحويلات المالية داخل المنطقة العربية»؟
ربما لا تستطيع الإسكوا الحديث عن التزام الولايات المتحدة أمن الأنظمة الخليجية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي على أقل تقدير، أو عن الهيمنة العسكرية الأطلسية المباشرة على شبه جزيرة العرب منذ «حرب الخليج الثانية» مطلع التسعينيات، وإلزام الغرب حكومات الخليج إعادة تدوير حصتهم من ريع النفط في الأسواق المالية الأميركية والأوروبية وشراء كميات ضخمة من السلاح بأثمان باهظة، بل يعزو التقرير انخفاض مستوى التحويلات المالية داخل المنطقة العربية مقارنة بمناطق أخرى إلى انخفاض مستوى الهجرة البينية أساساً (أو بالأحرى الحواجز التي ترفعها الدول العربية النفطية في وجه سائر المواطنين العرب).
«اتسعت الفوارق (في معدلات الدخل والنمو) بين مجموعة بلدان مجلس التعاون الخليجي والبلدان العربية الأخرى أكبر من الفوارق فيما بين بلدان مجلس التعاون نفسها»، يقول التقرير، مشيراً بخجل إلى أن الدول العربية «توقّع العديد من معاهدات الاستثمار الثنائية، لكنها لا توافق عليها فيما بعد»، على العكس مما يحدث عند توقيع المعاهدات مع قوى عالمية مهيمنة كالولايات المتحدة، حيث «تدخل (هذه المعاهدات) في الغالب حيز التنفيذ»! ترى الإسكوا في تقريرها «حاجة واضحة إلى وضع استراتيجية شاملة لخفض التفاوت المتزايد في الدخل بين بلدان المنطقة، باعتبار ذلك شرطاً أساسياً لتحقيق الإنصاف وإرساء الاستقرار الاجتماعي والسياسي»، وترى أنّ «من الضروري وضع إطار يرقى إلى مستوى تحقيق التكامل الإقليمي، ما يتطلب ترسيخ التزام التنسيق السياسي والحد من الاعتماد على المساعدة الإنمائية الرسمية كأداة لممارسة النفوذ السياسي» حصراً، إذ تركز المساعدات هذه على «التخفيف من حدة الفقر، لا على توليد الموارد، ما يبقي أثرها محدوداً على توليد فرص العمل». وفي سياق التفاوت بين دول مجلس التعاون الخليجي وسائر البلاد العربية، يشير التقرير إلى تراجع حصة البلدان غير الخليجية من الاستثمارات الأجنبية المباشرة مما يزيد على 80% عام 2001 إلى 13% عام 2009، فيما تحولت وجهة الاستثمارات المباشرة عربية المنشأ إلى دول مجلس التعاون الخليجي، الذي بات يتلقى في الأعوام الأخيرة نسبة تراوح بين 75% و85% منها، بعدما كانت البلدان العربية غير الخليجية تتلقى نحو 80% منها عام 2001.
على سبيل المقارنة، يورد التقرير أن الاتحاد الأوروبي «أدرك منذ وقت طويل أن نجاح التكامل الإقليمي يتوقف على تقارب المستويات الإنمائية بين البلدان الأعضاء»، فخصص ميزانيةً للتعاون الإقليمي بلغت 50 مليار يورو، 82% منها للتقارب الإقليمي، و16% لرفع القدرة التنافسية للبلدان الأعضاء، و2% للتعاون الإقليمي. في المقابل، يشير رئيس قسم النمذجة والتنبؤ في الإسكوا هادي بشير إلى أن البنك الأفريقي موّل في تونس ضعف ما مولته الصناديق العربية مجتمعة، وأنه مول بنحو نصف ما فعلت الصناديق العربية مجتمعة في مصر. من هنا ترى الإسكوا، نظراً لضخامة متطلبات التمويل في المنطقة العربية، حاجة لتجميع الصناديق السيادية للبلاد العربية في إطار بنك إقليمي للإعمار والتنمية، قادر على تمويل المشاريع الكبيرة بقروض ميسرة، لكن لن يحصل التكامل الاقتصادي العربي «إذا تُرك الأمر للأسواق، دون إرادة سياسية»، يقول خوسيه غارسيا، المسؤول في إدارة التنمية الاقتصادية والعولمة في الإسكوا. التكامل «عملية طويلة وتدريجية» تتطلب تقارب الدول الساعية للتكامل مالياً، يقول غارسياً، سائلاً عما يحول دون سير المنطقة العربية على هذا الدرب، «وخاصة مع وجود روابط جيواستراتيجية قوية فيما بين (كياناتها)»؟