IMLebanon

موازنة الدولة.. الموجب والمسؤولية

MinistryFinance
امين صالح
لبنان بلا رئيس جمهورية منذ حوالي الستة اشهر، وبلا موازنة منذ العام 2006 ولغاية تاريخه، وبلا حسابات مالية صحيحة منذ العام 1990 ولغاية تاريخه، وأزمة المالية العامة مفتوحة منذ العام 1990 ولغاية تاريخه بدون اي امل في معالجتها. وذلك سببه انتهاك الحكومات المتعاقبة والسلطات السياسية لأحكام الدستور اللبناني والقوانين المرعية الإجراء بدون محاسبة او مساءلة.
ان السلطات السياسية المتحكمة بادارة الدولة في لبنان أعادت لبنان الى حالة شبيهة بحالة المجتمع القبلي، او الاقطاعي، او حالة القرون الوسطى، حيث لم يكن ثمة حاجة الى الموازنة، نظراً لأن الاقطاعيين كانوا ينفقون من موارد املاكهم وكان الملك يؤمن حاجته الى الانفاق من حاصلات املاك التاج يجنيها وينفقها كما يشاء ولا يلجأون الى الضرائب الا بصورة استثنائية، وقد نسيت او تناست الطبقة السياسية في لبنان، انه مع نشوء الدولة وقيام الحكومة، انتزع الشعب من الحاكم مبدأ «لا ضريبة بدون قانون» ولا إنفاق الا بموجب «إجازة من البرلمان». ومبدأ الرقابة الشعبية البرلمانية على كل ضريبة وكل قرض وكل امتياز وكل إنفاق. وتطبيقاً لهذه المبادئ وضعت دساتير الدول وقوانينها قواعد عامة لادارة المال العام، فألزمت الحكومات بتقديم موازنة الدولة وحساباتها المالية الى ممثلي الشعب والحصول على إذن منهم بجباية الضرائب وإنفاق المال العام.
ولم يشذ الدستور اللبناني عن الدساتير والقوانين المالية الدولية، فقد وضع قواعد خاصة للموازنة، اذ اوجبت المادة 83 منه على الحكومة، ان تقدم لمجلس النواب موازنة شاملة، نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة، للحصول على إجازة بجباية الضرائب والرسوم والانفاق الحكومي لمدة سنة فقط تبدأ في اول كانون الثاني، وتنتهي في 31 كانون الاول. وهذه الإجازة هي خاصة اساسية مميزة من خواص الموازنة العامة، اذ إن الموازنة لا يمكن ان تنفذ من قبل السلطة التنفيذية الا اذا أذنت بها السلطة التشريعية.
وتطبيقا للدستور فقد اوجب قانون المحاسبة العمومية الذي يحدد اصول إعداد موازنة الدولة وتنفيذها وقطع حسابها وادارة الاموال العمومية، على وزير المالية ان يقدم مشروع الموازنة الى مجلس الوزراء قبل اول ايلول، مشفوعا بتقرير يحلل فيه الاعتمادات المطلوبة. وعلى مجلس الوزراء ان يقر مشروع الموازنة في صيغته النهائية، ويودعه السلطة التشريعية ضمن المهلة المحددة في الدستور، اي في بدء عقد تشرين الاول من كل سنة.
ونظراً للأهمية الفائقة وخطورة الشأن المالي العام وأهمية الموازنة في تسيير الدولة، وحرصاً على المال العام فقد الزم الدستور اللبناني مجلس النواب:
– بأن يخصص جلساته في عقد اجتماعه الثاني الذي يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الاول، ويدوم الى آخر السنة للبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر. وقد قضىت (المادة 83 من الدستور) بالتصويت على الموازنة بنداً بنداً، حتى لا يتسرع البرلمان في إقرارها وكي لا يجنح النواب الى ارضاء ناخبيهم على حساب الخزينة.
– بأن يمتنع في خلال مناقشة الموازنة ان يزيد الاعتمادات المقترحة عليه في مشروع الموازنة سواء كان ذلك بصورة تعديل يدخله عليها او بطريقة الاقتراح. (المادة 84 منه).
– بأن يمتنع عن التأخر في دراسة وإقرار الموازنة بهدف عرقلة اعمال الحكومة، اذ أجاز الدستور للسلطة التنفيذية اصدار الموازنة بمرسوم، اذا انقضى العقد الاستثنائي ولم يبت مجلس النواب نهائياً في مشروع الموازنة، يجعل بموجبه مشروع الموازنة بالشكل الذي تقدم به الى المجلس مرعياً ومعمولا به، ولكن هذا الاصدار مشروط دستوريا بان يكون مشروع الموازنة قد طرح على مجلس النواب قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل (المادة 86).
وبما ان استمرار الدولة في أدائها هو من مبادئ النظام العام، لذلك وبهدف تجنب تجميد نشاط الدولة المالي، وفي حال لم يبت مجلس النواب نهائياً في شأن مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعين لدرسه، فقد اجاز الدستور (م.86 منه) لرئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة دعوة المجلس فوراً لعقد استثنائي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة… «كما اجاز الدستور (م.86 منه) خلال العقد الاستثنائي، للحكومة اعتماد الموازنة الإثني عشرية خلال شهر كانون الثاني فقط وجباية الضرائب والتكاليف والرسوم والعائدات الاخرى كما في السابق، وأخذ موازنة السنة السابقة اساساً ويضاف اليها ما فتح بها من الاعتمادات الاضافية الدائمة ويحذف منها ما اسقط من الاعتمادات الدائمة. وتأخذ الحكومة نفقات شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على قاعدة الإثني عشرية».
اما اذا تأخر إقرار الموازنة الى ما بعد ذلك، فيقتضي ان تتقدم الحكومة من البرلمان بمشروع قانون معجل يجيز لها الجباية والإنفاق على اساس الموازنة الإثني عشرية عن الشهر المحدد المرتقب. ومن خلال متابعة موازنات السنوات منذ 1993 ولغاية تاريخه فإن السلطات التشريعية اصدرت في 3/2/2006 القانون رقم 717 الذي اجاز جباية الواردات وصرف النفقات على اساس القاعدة الإثني عشرية من 1/2/2006 ولغاية صدور قانون موازنة 2006. ولم يصدر بعدها اي قانون يجيز تطبيق القاعدة الإثني عشرية بالرغم من عدم اقرار موازنة الدولة منذ العام 2006 ولغاية تاريخه، وبالتالي فإن جباية الواردات وصرف النفقات منذ بداية العام 2007 ولغاية تاريخه يكونان امراً مخالفاً للدستور والقانون.
اما لماذا لم تقر موازنات الدولة خلال التسع السنوات فلأن إقرار ونشر الموازنة مشروطان بأن تكون حسابات الادارة المالية النهائية لكل سنة (قطع حساب الموازنة وحسابات المهمة) قد عرضت على المجلس النيابي ليوافق عليها قبل التصديق على مشروع الموازنة وفقاً لأحكام المادة 87 من الدستور والمادة 118 من النظام الداخلي للمجلس، وبالتالي فإن رئيس الجمهورية لا يستطيع نشر قانون الموازنة ما لم تكن الحسابات المالية للدولة مصدقة من مجلس النواب.
وهنا تكمن المشكلة، ويظهر السبب الحقيقي لعدم اقرار موازنات الدولة منذ العام 2006 ولغاية تاريخه وهو عدم انجاز وزارة المالية حسابات الادارة المالية النهائية وعدم صحة ما انجز منها منذ العام 1993 ولغاية 2013 ضمناً، وبالتالي عدم إحالة هذه الحسابات من قبل الحكومة الى مجلس النواب وفقاً للاصول وضمن المهل الدستورية والقانونية بسبب العيوب والشوائب التي تعتري هذه الحسابات وعدم تنظيمها وفقاً للقواعد المحاسبية الصحيحة، ما جعل امر إقرار موازنات الدولة للسنوات السابقة وكذلك للسنوات اللاحقة أمراً متعذراً.
ويترتب على هذه المشكلة عدم حصول الحكومات من البرلمان على إذن يجيز الإنفاق وجباية الإيرادات العادية من ضرائب ورسوم، وبالتالي فإن جباية الواردات العادية والنفقات التي عقدتها الحكومات او صرفتها او دفعتها منذ عام 2007 والقروض على اختلاف انواعها التي عقدتها الحكومات منذ بداية العام 2006 ولغاية تاريخه، هي عمل حكومي مخالف لأحكام الدستور ولأحكام المادة 88 من الدستور التي نصت على انه لا يجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق من مال الخزانة الا بموجب قانون.
ان تحصيل الضرائب والرسوم وعقد النفقات ودفعها من دون الحصول على إجازة من السلطة التشريعية تعرض الوزير والموظف المالي لمسؤوليات مدنية وادارية وجزائية. فقد قضى قانون المحاسبة العمومية (م 40 منه) بأنه «لا يجوز تحصيل اي ضريبة او رسم ما لم تجز السلطة التشريعية ذلك بموجب قانون الموازنة او اي قانون آخر. ويفرض على المخالف عقوبة الحبس سنة على الأقل وغرامة أدناها ضعفا قيمة الضريبة (المادة 361 عقوبات).
اما الوزير فهو مسؤول شخصياً على امواله الخاصة عن كل نفقة يعقدها متجاوزاً الاعتمادات المفتوحة لوزارته مع علمه بهذا التجاوز، وكذلك عن كل تدبير يؤدي الى زيادة النفقات التي تصرف من الاعتمادات المذكورة اذا كان هذا التدبير غير ناتج من احكام تشريعية سابقة. ولا تحول هذه المسؤولية دون ملاحقة الموظفين الذين تدخلوا بعقد النفقة، وتصفيتها وصرفها، امام ديوان المحاسبة، ما لم يبرزوا أمراً خطياً من شأنه إعفاؤهم من المسؤولية. (المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية).
بعد سنوات تسع من انتهاك الدستور والقانون ألا يحق للشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، بل ألا يتوجب عليه، ممارسة سيادته وسحب الثقة من السياسيين الممسكين بالسلطة لعلة انتهاك الدستور والتصرف بالمال العام من دون إذنه ورضاه.