IMLebanon

ألمانيا .. القوة المهيمنة الوحيدة والمترددة في أوروبا

GermanyEurope
مارتن وولف

في عام 2014 احتفلنا بالذكرى السنوية المئوية لبداية الحرب العالمية الأولى والذكرى الـ 25 لسقوط جدار برلين. الأولى أدت إلى كارثة الحرب العالمية الثانية التي كانت أكبر من الحرب العالمية الأولى، تبعها تقسيم أوروبا بين الغرب والكتلة الشيوعية. أما الأخيرة فقد شهدت نهاية الانقسام وظهور أوروبا كاملة وحرة. اليوم، يمكننا أن نرى مفارقة كبيرة في التاريخ: ألمانيا فازت من خلال وسائل سلمية بالوضع الذي سعت إليه بقوة السلاح. سواء أعجبك هذا أم لا، ألمانيا الاتحادية هي القوة المركزية في أوروبا.

بعضهم يولد عظيماً، وبعض يبلغ العظمة، وبعض تُفرض عليه العظمة. وألمانيا الآن تشهد الحالة الأخيرة إلى أقصى درجة. فما مستواها من النجاح في ظل هذا التميّز؟ جيد، لكن ليس جيداً بما فيه الكفاية. تفوّق ألمانيا لا يتعلق فقط بحجمها وموقعها الجغرافي، ولا هو فقط ثمرة براعتها في التصنيع. الأمر المدهش أنه من بين بلدان أوروبا الكبيرة يمكن القول إن ألمانيا لديها أكثر الديمقراطيات نضجا واستقراراً. وهي خالية من الشعبوية المُعادية للأجانب التي تشوّه البلدان الأخرى. ومن خلال أنجيلا ميركل، لديها زعيم ناضج ومسؤول بشكل استثنائي.

وعلى الرغم من هذه النجاحات، ليس كل شيء على ما يرام. اقتصاد منطقة اليورو غارق في الركود والتضخم المنخفض للغاية. ومع ذلك كثير من صنّاع السياسة في ألمانيا يقاومون الجهود لتغيير هذا نحو الأفضل. نتيجة لذلك كثيرون يرون أن المشروع الأوروبي الذي يتم التباهي به لا يمثل الأمل في حياة أفضل، بل نقيضه.

في الوقت نفسه، إلى الشرق أقدمت روسيا الانتقامية على زعزعة استقرار أوكرانيا البائسة وهددت بزعزعة استقرار كثير من بلدان إمبراطوريتها السابقة. مرة أخرى، كما هو الحال بالنسبة للاقتصاد، هذا يتحدّى غرائز ألمانيا ما بعد الحرب. فهي ترغب في تجنّب موقف أكثر حزماً، لكنها لم تعُد قادرة على ذلك.

الصعوبة التي تجدها ألمانيا في لعب أدوارها الجديدة مفهومة. فهي لم تكن تسعى إلى اليورو، على العكس كان ذلك الثمن الذي طلب الآخرون منها، بحماقة، أن تدفعه مقابل إعادة التوحيد. فهِم صنّاع السياسة الألمان الآثار السياسية والاقتصادية لاتحاد العملة. أما صناع السياسة في معظم البلدان التي ستكون أعضاء في الاتحاد فلم يفهموا. ما وراء ذلك، لا تزال ألمانيا تعاني صعوبة أكبر: المذاهب الاقتصادية التي يتركز عليها نجاحها ما بعد الحرب لا يمكن نقلها بدون تغيير إلى اقتصاد منطقة اليورو الأكبر والأكثر تنوعاً. عليها الوصول إلى حلول وسط مع بلدان يعتقد كثير من الألمان أنها فاشلة.

العقيدة الاقتصادية الرئيسية التي تقوم عليها الحكمة التقليدية الألمانية هي تلك التي تتعلق باقتصاد صغير مفتوح. الشيء نفسه ينطبق على موقفها الجيوسياسي. هنا مسؤولية تأمين النظام العالمي تقع على عاتق الآخرين: الولايات المتحدة قبل كل شيء، وداخل أوروبا، على فرنسا والمملكة المتحدة.

في كلتا الحالتين، وجهات نظر هذه “البلدان الصغيرة” كانت استجابة طبيعية، بل في الواقع قسرية، للكوارث التي تبعت جهود ألمانيا السابقة “لتحقيق العظمة”. لكن مثل ردود الفعل هذه لم تعُد ملائمة. لقد تركت فراغاً لا تستطيع سوى ألمانيا أن تملأه. فيما يتعلق بمنطقة اليورو يجب أن تكون نقطة البداية هي أن يُنظَر إلى اقتصاد منطقة اليورو على أنه وحدة واحدة متكاملة. ماذا نرى هناك؟ التضخم الأساسي على أساس سنوي يبلغ 0.7 في المائة فقط. وفي الربع الثاني من عام 2014 الطلب المحلي الاسمي كان أعلى من ذروته ما قبل الأزمة بنسبة 1.7 في المائة، والطلب الحقيقي أدنى بنسبة 5 في المائة. ومعدل البطالة 11.5 في المائة من القوة العاملة. ماذا يعني هذا؟ بكل بساطة: البنك المركزي الأوروبي يفشل في تحقيق المهمة التي كُلِّف بها.

في كلمة ألقاها أخيرا يينز فايدمان، رئيس البنك المركزي الألماني، أعطى ردا على هذا الواقع، بالقول “من الخيال الاعتقاد أن أدوات السياسة النقدية بإمكانها رفع إمكانيات النمو بشكل مستدام لأي اقتصاد”. وهو على حق في ذلك، لكن السياسة النقدية يجب أن تسعى لضمان أن يتم استخدام الإمكانيات. من الواضح أن ذلك صعب للغاية في منطقة ذات عملة موحدة، مع اختلافات كبيرة في القدرات التنافسية الداخلية. لكن هذا بالكاد يؤكد نقطة أخرى: النضال من أجل القدرة التنافسية داخل منطقة اليورو عن طريق خفض الأجور لا يعتبر طريقاً لازدهار مشترك على نطاق واسع، بل لعبة يربح فيها طرف ويخسر فيها آخر.

إذا كانت ألمانيا ستكون بلدا مُهيمنا ناجحا، فعليها توسيع آفاقها. سيكون عليها الاعتراف بأن الطلب المحلي مهم. هناك وجهة نظر ألمانية مقبولة على نطاق واسع، وهي أنه بدون سوط الأزمة، لن يكون هناك أي إصلاح.

يوجد بعض الحقيقة في ذلك. لكن هناك وجهة نظر أخرى هي أن البلدان الواقعة في محنة ربما تنتخب حكومات ترفض السياسة العقلانية بشكل صريح. هذا يمكن أن يكون كارثة أكبر لمستقبل أوروبا. “تعديل مسار الريح للخروف المحروم” يبقى الشعار المعقول عند التعامل مع الأزمات. ماذا يعني ذلك الآن؟ يعني أنه تماماً مثلما كانت ألمانيا محقة في دعم ماريو دراجي في جهوده للقضاء على خطر الانفصال في عام 2012، كذلك عليها دعم رئيس البنك المركزي الأوروبي في جهوده لتعزيز الطلب وتجنّب الانكماش اليوم. ويعني أيضاً، أن ألمانيا باعتبارها بلدا دائنا، يجب أن تقبل مسؤولية ما تقوم بتمويله وكيفية ذلك.

لا بد الآن أن تناقَش مسألة إعادة هيكلة الديون، ابتداء من اليونان. بالمثل يجب أن تُعتَق إيرلندا من العبء المرهق المتمثل في إنقاذ الدائنين الأجانب الحمقى لبنوكها. وهذا يعني بصورة خاصة أن ألمانيا لا بد أن تشارك في المسؤولية في التعديل الاقتصادي الكلي لمرحلة ما بعد الأزمة. ويصبح السؤال بالنسبة لدولة مهيمنة حكيمة هو ما يلي: كيف سيعمل سلوكي على تحديد استقرار ونجاح النظام الذي أستفيد منه أنا أيضا والذي أنا مسؤولة عنه إلى حد كبير؟

ينشأ هذا السؤال في الجانب الجيوسياسي بقدر ما ينشأ في الاقتصاد. ويقع على عاتق ألمانيا، وإن كان ذلك بمشاركة الحلفاء، تصميم رد على روسيا فلاديمير بوتن على نحو يجمع بين جزرة المنفعة المتبادلة وعصا الردع. وهذا يقتضي أن تتخذ ألمانيا موقفا قويا في الدفاع عن القيم الغربية.

ألمانيا دولة مهيمنة على كُرْه منها. ومن السهل تماما أن نفهم موقفها هذا، لكن ألمانيا تبلغ من القوة والأهمية حدا يجعل من غير الممكن بالنسبة إليها أن تتجنب قدرها الجديد. فعلى عاتقها يقع مستقبل أوروبا المفككة سياسيا واقتصاديا. لقد انتهى زمن التفكير الذي يميز البلد الصغير. ألمانيا الآن بلد كبير ولديها مسؤوليات كبيرة. وسيُحكَم عليها من خلال القدْر الذي ترتقي به إلى مستوى هذه المسؤوليات.