IMLebanon

مفارقات: أجور موظفي مناطق «داعش» تأتي من دمشق وبغداد

da3esh-police

إريكا سولومون

الموصل ثاني مدن العراق، تبدو للوهلة الأولى كما لو أنها أنموذج لنجاح حكامها الجدد المنتمين إلى “داعش”، أكثر المجموعات الجهادية المثيرة للرعب في العالم. فالشوارع المنظفة جيداً تعج بالسيارات، والكهرباء نشطة، والمقاهي مزدحمة بروادها.

لكن عند النظر إلى أزقتها الخلفية تجد الشوارع مليئة بالقمامة. والأضواء لا تنقطع، لأن السكان المحليين استعانوا بمولداتهم الكهربائية الخاصة بهم. وتحت هدير أجهزة التلفزيون الموجودة في المقاهي، يبدي الرجال المسنون تذمرهم من الحياة تحت حكم الخلافة الذي أعلنته “داعش”.

يقول أبو أحمد، الرجل الهادئ الذي خط الشيب شاربه الطويل البالغ من العمر 40 عاماً، معلقا على الوضع في مدينته “عندما كنت في السابعة من عمري بدأت الحرب ضد إيران، وتحملنا منذ ذلك الحين العقوبات الدولية والفقر والظلم، لكن لم تكن الأحوال سيئة أبدا مثلما هي الآن”.

وأبو أحمد، هو اسم مثل غيره من أسماء الأشخاص الذين جرت مقابلتهم لغرض كتابة هذا التحقيق، جرى تغييره للحفاظ على سلامته.

يقول أبو أحمد “إنه رحب في البداية بسيطرة “داعش”، المجموعة التي استولت على أكثر من رُبع مساحة العراق وسورية في صيف العام الماضي”. وهو ليس وحده في ذلك، فقد شعر المسلمون السنة في كلا البلدين منذ فترة طويلة بالتمييز ضدهم من الأنظمة التي تسيطر عليها طوائف منافسة، سواء في بغداد، حيث توجد أغلبية حاكمة شيعية، أو في دمشق حيث توجد أقلية حاكمة من الطائفة العلوية، التي تعتبر فرعاً من فروع الشيعة.

تحمل مؤيدو “داعش” صنوفا من كل شيء، من الرجم العلني بالحجارة إلى قطع الرؤوس ومن الضربات الجوية اليومية التي تشنها قوات الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة. لكن دون وجود اقتصاد يقدم للناس فرصة لكسب عيشهم، فإن كثيرا من الناس يقولون إنه ليس لـ “داعش” ما تقدمه أكثر من السلطات التي حلت محلها.

يقول محمد الذي يعمل تاجراً في الموصل “يعتبر التعامل مع “داعش” أكثر سهولة مقارنة بالتعامل مع حكام سابقين. كل المطلوب منك هو عدم إزعاجهم وعندها تُترَك لشأنك. ولو استطاع هؤلاء فقط الحفاظ على الخدمات، فسيبقى الناس يدعمونهم حتى النهاية”.

استنادا إلى هذا المقياس المهم للغاية، يقول السكان المحليون “إن “داعش” بدأت تفقد بريقها”. مثلاً لعبور أرض “الخلافة”، الموحدة في ظاهرها، يحتاج المرء للتعامل مع ثلاث عملات مختلفة، ومع مجموعات إغاثة توفر الأدوية لجزء كبير من المنطقة، بينما الرواتب في أغلب الأحيان تدفعها في الواقع حكومتا العراق وسورية، وهما في حالة حرب مع “داعش”.

وبدلاً من أن تتولى “داعش” زمام الدولة في البلاد، أصبحت مساهمة في فشل هذه الدولة، من خلال مزاولة أعمال الابتزاز.

يقول كيرك سويل، رئيس مؤسسة يوتينسيز ريسك سيرفيسيز “في مدينتي الرقة ودير الزور السوريتين ربما تراهم يديرون شيئا شبيها بالدولة، لكنهم لا يقومون بعمل أي شيء يشبه الدولة في العراق، بل يمارسون أشياء شبيهة بأعمال تقع بين عصابة مافيا وحركة تمرد ومجموعة إرهابية. ربما ظنوا قبل ستة أشهر أنهم سيمارسون عمل الدولة، لكنهم لا يملكون الموظفين أو اليد العاملة التي تنفذ مثل هذا الدور”.

القمع والقيود التي تفرضها “داعش” على وسائل الإعلام تجعل من الصعب تصور نظام إدارة هذه المجموعة بصورة تامة. لكن من خلال سلسلة من المقابلات التي أجريت مع مقيمين في أراضيها، زاد عددها على 12 مقابلة، ومن خلال زيارات قام بها صحافي محلي لمناطق تحكمها “داعش”، اكتشفت “فاينانشيال تايمز” أن محاولاتها لبناء دولة فشلت حتى الآن في كسب ود السكان المحليين.

يقول سكان محليون “في بعض الحالات تنسب “داعش” لنفسها الفضل في أنظمة كانت في الأصل موجودة قبل أن تستولي على السلطة. وفي مناطق أخرى تسرق موارد المنطقة التي تسعى إلى حكمها”.

في حزيران (يونيو) الماضي دمر مقاتلو “داعش” مراكز الحدود السورية العراقية بالجرافات وأعلنوا “نهاية سايكس بيكو”، الاتفاقية التي قسمت الشرق الأوسط بين الحكمين الفرنسي والبريطاني. ووضعت المجموعة مقاطع فيديو على الإنترنت تُظهر متطوعين يناولون أكياس قمح مختومة بختمهم الأسود والأبيض، وحتى أعلنوا عن خطط لإصدار عملة خاصة بهم، ووضعوا إعلانات تُبين تصميم عملة دينار ذهبي جديد في شوارع الموصل وتُظهرهم وهم يسلمون كتيبات للناس في مدينة الرقة السورية.

مثل هذه المشاريع تبدو من الخارج مثيرة للإعجاب، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في حالة من الفوضى شمالي سورية، حيث أصبحت مجموعات متناحرة من الثوار تحاول قلب حكومة الرئيس بشار الأسد غير قادرة على فرض النظام.

لكن لا يبدو حدوث أي تغيير على الحدود بالنسبة للمسافرين على الطرق القذرة وكثيرة الحفر، الواصلة بين الموصل والرقة، حتى على الرغم من تحويل نقاط العبور هذه من قبل “داعش” إلى ركام. وعلى هؤلاء المسافرين أن يحتفظوا ببعض الدنانير العراقية لاستخدامها في العراق، ودولارات أمريكية للطريق، وليرات سورية في حال وصولهم إلى الرقة.

ولو كانت خلافة “داعش” دولة، فستكون دولة للفقراء. فأغلب السوريين في هذه الأراضي يعانون من أجل تدبير أمورهم بنحو 115 دولاراً في الشهر، لكن مقاتلي “داعش” من الأجانب يكسبون نحو خمسة أضعاف هذا المبلغ. وفي سورية تضاعف سعر الخبز تقريباً ليصل إلى نحو دولار للكيلو الواحد – وهو يقارب ثُلث الدخل اليومي للمدنيين السوريين. وحتى على الرغم من فصل الموصل عن شبكة الكهرباء العراقية، بعدما استولت “داعش” على السلطة في هذه المدينة في صيف السنة الماضية، إلا أن الكهرباء بقيت تصل إلى الناس. لكن الفضل في كل ذلك يعود للجهود التي بذلها السكان المحليون الذي اشتروا مولدات كهربائية لإبقاء الطاقة مستمرة في مناطقهم.

أما في المناطق السورية التي تسيطر عليها “داعش”، فلا تزال الكهرباء تعمل لبضع ساعات فقط في اليوم، وذلك كنوع من المجاملة يبديها نظام الأسد. مثلاً، لا يزال المهندس محمود وزملاؤه يعملون في محطة الطاقة نفسها التي عملوا فيها لسنوات طويلة قبل سيطرة “داعش” عليها. لكن على الرغم من أنهم تحت إشراف سلطة النفط والغاز التابعة لمجموعة “داعش”، إلا أن حكومة دمشق لا تزال تدفع أجورهم. وهناك آلاف من الموظفين المدنيين ممن لديهم ترتيبات مماثلة في المناطق التي تسيطر عليها “داعش” في سورية والعراق، حيث يخاطر السكان المحليون بالسفر لمسافات طويلة للحصول على رواتبهم من بغداد.

واستولت “داعش” على ثلاثة سدود ومعملي غاز على الأقل في سورية، كانا يستخدمان لتوليد كهرباء الدولة. وبدلا من المخاطرة بتفجير مجموعات كبيرة من شبكة الكهرباء، يبدو أن دمشق توصلت إلى اتفاق.

يقول محمود “داعش تحرس معاملها وتترك موظفي الدولة يأتون للعمل. وهي تأخذ كل الغاز الذي تنتجه لأغراض الطبخ والبنزين لبيعه. والنظام يحصل على الغاز اللازم لتشغيل نظام الكهرباء، وهو يرسل أيضاً بعض الكهرباء إلى مناطق داعش”.

وتدفع حكومة الأسد رواتب موظفي معامل الغاز. ليس هذا فحسب، ولكن يقول العاملون “إنها ترسل بعض قطع الغيار من الخارج وترسل المختصين من عندها إلى المنطقة لتنفيذ أعمال الإصلاح”. ويقول محمود “أنا ضد “داعش” من كل قلبي، لكن لا يسعني إلا الإعجاب بذكائهم”.

سجاد جياد، وهو باحث مستقل في العراق، يقول “إن داعش تعاني من أجل تحقيق التوازن في دفاترها، لكن الخدمات تستمر في العمل بسبب المال الذي لا تزال بغداد تدفعه لموظفي الخدمة المدنية السابقين في الموصل. وتفرض “داعش” ضرائب على هؤلاء الموظفين تصل إلى 50 في المائة من رواتبهم”.

ويضيف “تعتمد “داعش” على قدرتها على الاستيلاء على الأراضي والموارد لمواصلة تمويل المناطق الخاضعة لها. وتعمل عملية التوسع لديها في بعض الأحيان من خلال المنتسبين لها، الذين يستخدمون العلامة التجارية لـ “داعش”، لكنهم في الواقع مرتزقة محليون. يبدو الأمر كما لو أن “داعش” تمول نفسها جزئيا من خلال نظام هرمي، وقد بدأ هذا النظام في التعثر”.

الخدمات الأساسية تعمل بشكل سيئ، لكن الخوف يمنع أي شخص من التحدث علنا. يقول جياد “إمدادات الكهرباء والوقود والأدوية والمياه في انخفاض، لكن الناس لا يزالون على قيد الحياة”.

وعلى الرغم من أن كثيرا من الناس يشككون الآن في الإدارة الاقتصادية لـ “داعش”، إلا أن براعتها العسكرية ومهاراتها التنظيمية تبدو واضحة. فعلى الرغم من ضربات التحالف، التي عرقلت تقدم المجموعة، تسيطر داعش على مساحات شاسعة من الأراضي تشمل ما يصل إلى ثلث العراق وربع أراضي سورية.

وينظر إلى بعض سياسات المجموعة باعتبارها أفضل من الأنظمة السابقة. فهي تسمح لـ “داعش” بسهولة الحركة من خلال أراضيها لتسهيل التجارة. ويتم فرض ضرائب على الشاحنات العابرة تعادل نحو 10 في المائة من قيمة حمولتها. وبعض رجال الأعمال في إقليم كردستان، شمالي العراق، الذين يقودون شاحنات عبر أراضي الجماعة، يرون في مخططها “الوجه الحسن للأعمال من داعش”.

كذلك من السهل نسبيا تأسيس شركة – لا توجد رسوم على الشركات الناشئة بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في فتح متجر، على الرغم من أنهم يضطرون لدفع ضريبة بنسبة 2.5 في المائة على إيراداتهم سنويا.

لكن بالنسبة للسكان المحليين، هذه السياسات لا تنتج فائدة تذكر. هناك فرص أعمال قليلة في منطقة الصراع حيث يمكن للناس العيش بصعوبة، وعادة بمساعدة من الأقارب الذين فروا إلى الخارج.

في محافظة دير الزور، شرقي سورية، حيث موطن معظم آبار النفط السورية، يشتكي السكان المحليون من استيلاء “داعش” على مواردهم. ويقول مهندس الغاز محمود مازحا “إذا لم يستولوا على تلك الموارد، فإنهم يفرضون عليك ضريبة مقابلها”. “داعش”، التي يقدر بأنها تسيطر على نحو 40 ألف برميل يوميا من إنتاج النفط شرقي سورية، يعتقد أنها أغنى جماعة متشددة في التاريخ، لأنها ربما تكسب مليون دولار في اليوم من النفط وعمليات الابتزاز والسلب.

كان الائتلاف الدولي يحاول تفجير مصافي النفط المؤقتة، من أجل إيذاء مالية “داعش”، لكن السكان المحليين يقولون إن ذلك لن يكون له تأثير يذكر، لأن “داعش” تحصل الجزء الأكبر من أموالها من بيع النفط الخام إلى وسطاء أتراك وسوريين وعراقيين. والشركاء المحليون هم من يكررون النفط ويبيعونه.

لكن بخلاف هؤلاء التجار، يقول معظم السكان “إنهم لا يرون شيئا يذكر من تلك الثروة النفطية”.

باسم، وهو عامل في مستشفى في دير الزور، يقول “إنه عند بداية انتقال الحرب الأهلية إلى شرقي سورية قبل عامين، انتقلت المنطقة من ركود وفقر إلى حالة من الازدهار حين تولى الثوار والقبائل السيطرة على الثروة النفطية بدلا من النظام”. يقول، متحدثا لـ “فاينانشيال تايمز” عبر سكايب “رأيت سيارات فاخرة، ومخازن جديدة. كانت أحوال الناس جيدة حقا”.

لكن في ظل “داعش” ساءت الظروف الاقتصادية بشكل مطرد. ويقول “لا توجد إدارة اقتصادية لدى “داعش” – لا يوجد سوى الناس الذين يأخذون النفط ويقسمونه بين الأمراء ويرسلونه إلى الخارج. إلى أين؟ نحن لا نعرف. سوى أن جزءا صغيرا جدا منه يعود إلى الناس”.

وحاولت “داعش” تقديم نفسها بوصفها حاكما عادلا، عن طريق تحديد الأسعار على كل شيء، من الخبز إلى عمليات الولادة القيصرية، التي أصبح سعرها نحو 84 دولارا. لكن السكان المحليين يتجاهلون بشكل روتيني الحد الأعلى للأسعار، كما يقول باسم، “لأنه من المستحيل المحافظة على مثل هذه الأسعار، نظرا للتكاليف شديدة الارتفاع في الوقود والنقل. “داعش” لا تدرس السوق، ولا تحسب التكاليف (…) هذه الحدود القصوى للأسعار تعتبر مجرد أرقام هزلية”.

وباعتباره من المسلمين السلفيين، قال “إنه كان متعاطفا مع أيديولوجية “داعش” عندما تولت زمام الأمور في البداية، لكن خاب أمله بسرعة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية”. وأضاف مازحا “صحيح أنني سلفي، لكنني لست أحمق”.

وللالتفاف على الحدود القصوى للأسعار، يفرض المستشفى رسوما على المرضى في كل شيء، ابتداء من الكهرباء إلى العقاقير. ويقول باسم “عندما لا تكون “داعش” موجودة هناك، نفرض أعلى سعر”. ويتابع “السكان المحليون يفهمون الوضع. الأسعار ليست دائما ما تقوله “داعش”، لأنها لا يمكن أن تكون كذلك”.

منظمات الإغاثة الدولية غالبا ما ترسل الأدوية والمستلزمات، التي تتسامح معها “داعش” بدافع الضرورة. العراقيون يرون هذه الممارسة في مستشفيات الموصل أيضا.

وفي حين من المستحيل معرفة مدى عمق الإحباط الناتج عن سياسات “داعش” – لا شك أن بعضهم يستفيد منها – كل الذين تمت مقابلتهم يقولون “إن علامات السخط في ارتفاع”.

عندما جاء أعضاء “داعش” أخيرا لجمع الضرائب على الكهرباء في الرقة، انتاب أحد ميكانيكيي السيارات الغضب لدرجة أنه صرخ عندما اقتربوا من كراجه قائلا “كيف يمكن أن تطالبوا برسوم على خدمات لا تتوافر لنا سوى بضع ساعات في اليوم؟”.

بالاتجاه أكثر نحو الشرق، في مسجد في مدينة ميادين السورية، يوجد ناشط سابق كان ينظم احتجاجات ضد الأسد. يقول “إنه رأى مشهدا مألوفا بشكل يثير القشعريرة. بعد صلاة الجمعة، اتبع الإمام ممارسة كانت شائعة في عصر سيطرة الأسد، عندما كان يدعو في الخطبة للرئيس. لكن في هذه المرة قيل لهم أن يدعوا لزعيم “داعش”، أبو بكر البغدادي”.

من الجزء الخلفي من المسجد جاءت همهمات خافتة، لكن مسموعة “عليه اللعنة”.