IMLebanon

اقتصاديات التقشف: ما هي التوقعات؟

AusterityPolicyEuro
محمد إبراهيم السقا
التقشف Austerity هو أشهر مصطلح يتم تداوله بين الاقتصاديين هذه الأيام بعد تنامي الحركات المناهضة لسياسات التقشف حيث ذاق عموم الناس ويلاتها في اليونان وإسبانيا وإيطاليا، وغيرها من الدول التي اضطرت تحت ضغط ديونها السيادية إلى أن تتبع سياسات تقشفية أحدثت آثارا سلبية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناس إلى الحد الذي دفع بهم للخروج إلى الشوارع في وقفات مناهضة لسياسات التقشف، بل وصل الأمر إلى تفضيل الأوروبيين اختيار الأحزاب اليسارية مثل حزب سيريزا اليوناني أملا في أن يخلصهم من هذه السياسات، وقد لا نبالغ إذا قلنا إن الوقت الحالي هو العصر الذهبي للأحزاب اليسارية التي تستعد لكي تدخل الانتخابات مستفيدة من الزخم الذي وفرته الانتخابات اليونانية لمثل هذه التيارات، وها هي أحزاب اليسار في إسبانيا تدخل المعركة، وكذلك إيطاليا. فما هو التقشف؟ وما هي أهدافه؟ وهل تصلح بالفعل سياسات التقشف في معالجة أوضاع مثل أوضاع الكساد التي من المفترض خلالها أن يزيد الإنفاق في الاقتصاد، لا أن يتم التقتير عليه؟
التقشف هو السياسات التي تستهدف تخفيض حجم الإنفاق الحكومي أو رفع الضرائب بهدف خفض عجز الميزانيات العامة للحكومات وتجنب تصاعد الديون الحكومية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وغالبا ما تلجأ الحكومات إلى السياسات التقشفية أثناء الكساد أو التراجع الحاد لمستويات النشاط الاقتصادي، أملا في أن تؤدي تلك السياسات إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية، أو، من وجهة نظر أنصار سياسات التقشف الاقتصادي، إلى توسع مستوى النشاط وارتفاع معدلات النمو، في الوقت الذي يرى فيه مناهضو سياسات التقشف أنها، على العكس من ذلك، دائما ما يصاحبها ارتفاع في معدلات البطالة وانخفاض في معدلات النمو الاقتصادي.
نحن إذن أمام مدرستين مختلفتين في الرؤى في هذا المجال. فوجهة النظر غير المؤيدة لسياسات التقشف الاقتصادي تستند إلى أفكار كينز حول حتمية اتباع سياسات مالية توسعية أثناء فترات الكساد نتيجة فشل معدلات الفائدة المنخفضة، أو الصفرية، في تحفيز مستويات الطلب الكلي نتيجة تفضيل السيولة، وارتفاع درجة عدم اليقين بين المستهلكين والمستثمرين، فضلا عن توقعاتهم التشاؤمية حول مستقبل النشاط الاقتصادي في ظل ظروف الكساد. ووفقا للنظرية الكينزية، عندما ينكمش الاقتصاد فإن التحفيز المالي يعد أنسب السياسات لرفع معدلات النمو وذلك استنادا إلى التأثير المضاعف، الذي تتمثل فكرته الأساسية في أن كل دولار يتم إنفاقه يولد دورات من الدخول والإنفاق تؤدي إلى أثر مضاعف على الدخل والنشاط.
على الجانب الآخر يرى أنصار سياسات التقشف المالي أن هذه السياسات تستهدف أساسا القضاء على عجز الميزانية أو تخفيضه، وهو ما يؤدي إلى آثار توسعية في الاقتصادي تساعد على استعادة النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات النمو. فكيف تؤدي السياسات التقشفية إلى رفع معدلات النمو؟ واقع الأمر أن هذا المدخل يستند إلى فرضية التقشف التوسعي Expansionary Austerity التي تلعب توقعات المستهلكين والمستثمرين دورا مركزيا فيها، والتي تبدأ بالتساؤل حول المدى الذي يمكن أن تقترض فيه الحكومة وترفع من دينها العام دون أن يؤثر ذلك سلبا في الاقتصاد، فوفقا لهذا المدخل لا تستطيع الحكومة أن تقترض إلى ما لا نهاية، فبعد مستوى معين من نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستبدأ معدلات العائد المطلوب على السندات الحكومية في التزايد مع تزايد مستويات الدين العام.
بالطبع يؤدي ارتفاع معدلات العائد على السندات إلى ارتفاع معدلات الفائدة في الاقتصاد بشكل عام، وهو ما يؤثر بشكل سلبي في النمو. من هذا المنطلق، إذا كانت مستويات العجز المرتفعة “السياسات المالية التوسعية” التي تؤدي إلى زيادة الديون ترفع معدلات الفائدة وتخفض معدلات النمو، فإن العكس يمكن أن يساعد على النمو، أي أن تخفيض العجز الذي يخفض الاقتراض ويقلل من معدلات الفائدة يحدث أثرا توسعيا نتيجة لذلك. ففي كتابهما بعنوان This Time Is Different: Eight Centuries of Financial Folly أشار الكاتبان Reinhart و Rogoff إلى أن معدلات النمو الاقتصادي تأخذ في التراجع بشدة عندما يصل الدين العام إلى نسبة 90 في المائة من الناتج، بمعنى آخر يفترض أن تبدأ بعده سياسات الانضباط المالي، إما من خلال خفض الإنفاق، مثل تخفيض التحويلات والدعم والإعانات الاجتماعية وخفض الأجور، أو من زيادة الضرائب، بصفة خاصة على القطاع العائلي ومساهمات العمال في التأمين الاجتماعي.. إلخ، أي التقشف، بعد هذا المعدل الحرج لنسبة الدين إلى الناتج، وذلك لمساعدة الاقتصاد على استعادة النمو.
وبغض النظر عن مدى قبول فكرة أن هناك مستوى محددا لنسبة الدين إلى الناتج الذي تأخذ بعده معدلات النمو في التراجع، فإن السؤال الأساسي هو كيف تؤدي سياسات التقشف المالي إلى مزيد من التوسع والنمو؟
يرى أنصار التقشف أن التحفيز المالي الذي تقوم به الحكومات ما هو إلا تحويل للأموال من يد القطاع الخاص إلى يد الحكومة، أو ما يعرف في الاقتصاد بأثر المزاحمة، حيث تزاحم الحكومة القطاع الخاص في سوق الائتمان عندما تضطر إلى الاقتراض بصورة أكبر نتيجة العجز في الميزانية الناتج عن ارتفاع الإنفاق، هذه المزاحمة من الحكومة تؤدي إلى خفض استثمارات القطاع الخاص نظير زيادة الإنفاق الحكومي.
أما الأثر التوسعي للتقشف فيأتي إما من خلال السيطرة على الإنفاق أو من خلال زيادة الضرائب، حيث ينظر إلى خفض مستويات الإنفاق الحكومي على أنه من الناحية العملية خفض لمستويات الضرائب المستقبلية ومن ثم يقع عبئها على المستهلكين في المستقبل، ولأن المستهلكين لهم نظرة طويلة الأجل، أي لا ينظرون إلى دخلهم الحالي فقط، وإنما يأخذون في الاعتبار أي دخل متاح في المستقبل، فإن تخفيض الإنفاق الحكومي في هذه الحالة يدفع بالمستهلكين نحو المزيد من الإنفاق الاستهلاكي، وارتفاع مستوى الطلب الكلي ومن ثم توسع النشاط الاقتصادي. من ناحية أخرى، فإن قيام الحكومة برفع الضرائب الآن سيحمل أثرا توسعيا في الاستهلاك، ذلك أن زيادة الضرائب اليوم سينظر إليها على أنها تغذي التوقعات بعدم زيادة، أو ربما بانخفاض، مستويات الضرائب في المستقبل، وهو ما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي ومن ثم النمو.
كذلك يرى أنصار التقشف التوسعي أن الخفض الكبير في الإنفاق المالي للحكومات يمكن أن يكون توسعيا لأنه يعد إشارة إلى حدوث تغير هيكلي في موقف السياسة المالية، وبالتالي زيادة قدرة الحكومة على تحقيق الاستقرار الاقتصادي المطلوب، وذلك مقارنة بالحالة التي تقوم فيها الحكومة بخفض محدود في الإنفاق الذي من الممكن أن يحمل أثرا انكماشيا في الاقتصاد لأنه قد ينظر إليه على أنه يعكس فشل صانع السياسة المالية في تحقيق الاستقرار المالي المطلوب.
أكثر من ذلك فإن خفض الإنفاق أو زيادة الضرائب من خلال سياسة التقشف ينظر إليه على أنه وسيلة لخفض تكلفة رأس المال، حيث ستقترض الدولة في هذه الحالة بصورة أقل وهو ما يؤدي إلى انخفاض معدلات الفائدة، الأمر الذي يعزز ثقة رجال الأعمال، وهو ما يدفع النمو، وبالتالي ينخفض العجز بصورة أكبر “نتيجة زيادة الإيرادات مع زيادة النمو”، وهو ما يساعد على الانتعاش الاقتصادي.
ولكن إذا كان التقشف الاقتصادي كفكرة يسبب التوسع واستعادة النشاط، فلماذا يرفضه الأوروبيون اليوم؟ هذا هو ما سأتناوله في مقال الأسبوع القادم، إن أحيانا الله ــ سبحانه وتعالى.