IMLebanon

الزراعة في المدن . . هل هي مفتاح الاكتفاء الذاتي؟

CitiesFarming

سعيد القرقاوي
“لقد عاش أجدادنا في البر والبحر، واستطاعوا الصمود في هذه البيئة على الرغم من جميع تحدياتها . وبالطبع، ما كانوا ليفعلوا ذلك لو لم يدركوا ضرورة المحافظة على البيئة بأن يأخذوا منها حاجتهم فقط من مقومات البقاء، ويحموها من أجل الأجيال القادمة” .
المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لا يخفى على أحد أن دول الخليج العربي من أكثر الدول اعتماداً على استيراد غذائها من الخارج مما يشكل تحديات كثيرة لدولنا وخاصة في أوقات الأزمات الزراعية العالمية المفاجئة، بالإضافة لما يشكله استيراد الغذاء من تكلفة مادية وبشرية باهظة وأضف على ذلك ما يسببه استيراد المحاصيل الغذائية من التقليل من القيمة الغذائية لهذه المحاصيل بسبب النقل وطول فترة التخزين، فما هو الحل لهذه التحديات وكيف يمكن لدولنا التقليل من الاعتماد على غيرها في غذائها؟
لعل أحد أهم الحلول المطروحة، والتي سأتحدث عنها في هذا المقال، هو الزراعة في المدن أو ما يسمى بالزراعة الحضرية وهو اتجاه بدأت تتبناه الكثير من المدن التي تفكر بالمستقبل حيث تتحول المدن بكل مبانيها ومرافقها لحقول لإنتاج المحاصيل الزراعية، وهو حل استراتيجي بعيد المدى لمدن المستقبل يضمن الاستدامة الغذائية ويقيها مخاطر التقلبات أثناء الأزمات الغذائية العالمية .
ما هي الزراعة في المدن أو الزراعة الحضرية؟
تعرّف منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الزراعة الحضرية وشبه الحضرية بأنها الأعمال التي توفر المنتجات الغذائية من زراعة المحاصيل كالحبوب والجذور والفاكهة، وكذلك من تربية الحيوانات الداجنة . وبالتالي فإن المتأمل في البيئة المحلية لدينا في الخليج سيرى أن هذا المفهوم ليس غريباً على ثقافتنا، فمن الطبيعي في بعض البيوت لدينا وجود الحيوانات الداجنة وأشجار النخيل المثمرة وغيرها من أعمال الزراعة المنزلية . ولكن الزراعة في المدن لا تقتصر على هذه الأنشطة الفردية البسيطة، بل تشمل استغلال كل مساحة ممكنة في المدينة لممارسة الزراعة وتربية الحيوان بما في ذلك أسطح المباني وناطحات السحاب، الأمر الذي لا نراه حالياً لدينا .
هل الزراعة في المدن مفيدة بالنسبة لنا اليوم؟
الزراعة الحضرية إذاً هي الطريقة التي ستمكن المدن من تنمية وحصاد المحاصيل الزراعية لتلبية احتياجات سكانها بنفسها، وبالتالي حصر الاستيراد على المحاصيل التي لا يمكن زراعتها سواء لعدم توفر المساحات الكافية أو لعدم النجاح في زراعتها حتى مع استخدام التكنولوجيات الزراعية المتقدمة . بالإضافة إلى ذلك، للزراعة الحضرية فائدة معرفية، لأن نجاحها يعتمد على المشاركة المجتمعية أي على مدى اهتمام المجتمع بالزراعة ومشاركتهم فيها وبالتالي تزداد خبرة السكان في الزراعة والمنتجات الزراعية التي تستهلكها المدينة، وتتطور بالتالي ثقافة زراعية، وثروة معرفية زراعية لم تكن موجودة من قبل .
ولكن الزراعة في المدن ليست خالية من التحديات، وأحد أهمها هو شح المياه الذي سيشكل أكبر تحدٍّ لدول الخليج عندما تعقد العزم على تطبيق الزراعة الحضرية . ولهذا علينا في دول الخليج عموماً ودولة الإمارات خصوصاً إن أردنا تفادي الآثار الكارثية لشح المياه أن نواجه واقع ارتفاع معدلات استهلاك المياه لدينا، وأن نبحث عن طرق جديدة ومبتكرة لترشيد استهلاك المياه .
وهنا أود أن أشير إلى موقع التوعية البيئية إيكومينا EcoMENA .org الذي استخلصت دراساته أن دولة الإمارات ضمن الدول العشر الأوائل عالمياً من حيث شح المياه، وأن لديها أعلى معدلات استهلاك الفرد للمياه بمعدل 550 لتراً للشخص الواحد يومياً، وهو ضعف المعدل العالمي للفرد البالغ 250 لتراً يومياً . ومن جهة أخرى تقول شبكة البصمة العالمية أنه إذا عاش كل البشر على وجه الأرض بأسلوب الحياة الذي نتبعه في دول الخليج فإنهم سيحتاجون إلى 5 .5 كرة أرضية، وهذا مؤشر مقلق لابد أن يدفعنا للتدخل السريع .
ولكن في نفس الوقت، نجد أن عدداً من المزارع والبيوت في دول الخليج قد بدأت تلجأ إلى طرق بديلة لتقليل استهلاك المياه وزيادة إنتاج وحصاد المحاصيل الزراعية، فلدينا اليوم الزراعة المائية (الهيدروبونيك) وهي زراعة النباتات من دون تربة وتوفير احتياجاتها من المغذيات والمعادن من خلال محاليل خاصة، ولدينا كذلك الري بالتنقيط الذي يتم فيه تمديد أنابيب تحت سطح التربة قريباً من جذور النباتات لتقوم بتنقيط المياه مباشرة على الجذور، مما يقلل المياه المهدورة أثناء الري التقليدي .

الفوائد المستقبلية للزراعة في المدن

دعونا الآن نلقي نظرة على المستقبل بعد نصف قرن من الآن . كيف ستكون الحياة في دول مجلس التعاون الخليجي إذا طبقنا سياسات الزراعة الحضرية وتشريعاتها وآلياتها بنجاح اليوم أولاً، بما أن الزراعة الحضرية تتطلب مشاركة مجتمعية، فمن المتوقع أن تنشأ وتزدهر لدينا ثقافة زراعية، وستنتشر لدينا أسواق الخضار التي تبدأ منذ الصباح الباكر أيام الجمعة وتستمر حتى صلاة الظهر . كما سنرى المزيد من موظفي شركات النقل والتوصيل داخل أبنيتنا السكنية، حيث سيكون من الضروري نقل الخضار والفاكهة والمحاصيل من أسطح الأبنية إلى الأسواق يومياً . وشيئاً فشيئاً ستبدأ دولنا بتحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية .
والأهم من ذلك أن دول الخليج سيكون بإمكانها أن تصبح مركزاً إقليمياً للزراعة الحضرية، وأن تجتذب العلماء والمؤسسات التي يمكن أن تدخل بدورها في شراكات مع الجهات المختصة لبناء صناعات خليجية تقوم على القطاع الزراعي وتكون مبنية على الأبحاث العلمية، أي أن دولنا ستمتلك كافة الإمكانات اللازمة لابتكار محاصيل قادرة على الصمود والازدهار ومقاومة الجفاف والتغلب على الظروف المناخية الصعبة .
وأخيراً، سيمكننا الاستثمار في الزراعة الحضرية من زيادة التنوع في اقتصاداتنا، وتجنب التأثر السريع بالأزمات الإقليمية والعالمية، لأنها ستعطينا ما يكفينا من الموارد الطبيعية من دون الاعتماد على الآخرين، وستمنحنا الأمل والثقة بالمضي إلى الأمام نحو مستقبل أفضل بخطى أكثر ثباتاً .