IMLebanon

اقتصاد لبنان: الخارج يفقد ثقته بالداخل

LiraLebanese
غسان العياش
المشهد اللبناني الراهن فاقع في تناقضاته. الحياة السياسية متناقضة مع نفسها، وتسير، من جهة أخرى، باتجاه لا يتناسب مع متطلبات واقعنا الاقتصادي.
المشكل السياسي الأخير الذي انفجر في وجه الحكومة يتفرّع من المفهوم اللبناني الخاطئ للفدرالية. بموجب الفدرالية اللبنانية، وهي أسوأ أنواع النظم الفدرالية في العالم، يجري تقاسم المواقع والنفوذ على مستوى الدولة المركزية وليس في نطاق الأقاليم. وبمجرد «تسجيل» موقع معيّن على اسم طائفة من الطوائف يصبح من حقها أن تختار من تشاء وتفرضه على الآخرين، بصرف النظر عن جدارته الأخلاقية والمهنية.
ليس صحيحا أن هذا المبدأ الشاذ قد طبّق دائما على اختيار رئيس المجلس النيابي ورئيس مجلس الوزراء، وهذا أمر يستحق النقاش في غير هذا السياق، ولكنه طبّق بتعسّف في المواقع السياسية والإدارية، بطريقة أضرّت، أحيانا كثيرة، بالدولة وإدارتها. هذه السوابق سمحت بالمغالاة وتجاوز المعقول إلى حدّ القول «نحن من يختار رئيس جمهوريتنا ويعيّن قائد جيشنا».
غلط. إذا سلم اللبنانيون بأن نظامهم فدرالي فعليهم أن يرسموا الحدود بين ما هو للكيانات دون الوطنية – أي للطوائف – وما هو للوطن ككل، ويخرج، بالتالي، من القطاع المحجوز للطوائف.
المقلب الآخر للمشهد يبرز التناقض بين أداء السياسة وواقع الاقتصاد.
مع توالي الأرقام التي تثبت التراجع المستمر في الأداء الاقتصادي والإنذارات الاستثنائية الموجّهة إلى لبنان من أهمّ المؤسّسات الدولية، اختارت قيادات سياسية سلوكا قاتلا للاقتصاد، سلوك التصعيد وقلب الطاولة وتعطيل مجلس الوزراء، والتهويل باللجوء القريب إلى الشارع.
حذّر صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن لبنان من مغبّة الاعتماد على الثقة التقليدية بمناعة الاقتصاد اللبناني، لأن لبنان يواجه الآن تحدّيات استثنائية، مع تزامن الأزمات الإقليمية والأزمة السياسية الداخلية التي تعصف به وتعطّل مؤسّساته.
وعدّد التقرير بالتفصيل التحدّيات الاستثنائية وغير المسبوقة، وأبرزها تواصل معدّلات النموّ الضعيفة والمحبطة ونتائج المالية العامّة المخيّبة، رغم تراجع أسعار النفط والتحويلات الاستثنائية وغير المتكرّرة من وزارة الاتصالات. وأشار إلى ظواهر لا يخفى خطرها على من يملك الحدّ الأدنى من المعرفة بالاقتصاد، وهي تعكس ضعف الثقة الخارجية بالاقتصاد اللبناني بالتزامن مع تراجع أداء القطاعات الاقتصادية المحلية. فنبّه إلى أن عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات بلغ 25% من الناتج المحلي القائم، وهذا رقم مقلق وكفيل بإطلاق جرس الإنذار.
وفي المنحى نفسه، أشار إلى ضعف التحويلات المالية إلى لبنان، ما انعكس سلبا على نموّ الودائع المصرفية، الأمر الذي يتطلب معالجة ملحّة عبر أداء سياسي مختلف كل الاختلاف عن الأداء الراهن في الحياة السياسية وفي إدارة المؤسّسات.
إن لبنان بحاجة ماسّة إلى استمرار التدفقات المالية الخاصّة من الخارج، ليس لسدّ الثغرات الداخلية ومساعدته على النموّ فحسب، بل لتمكين الجهاز المصرفي من تدوير سندات الدين العام بالعملات الأجنبية وتمويل العجز الإضافي كل عام.
هذه المسألة، لحساسيتها، جديرة بالتوقف عندها والتركيز عليها. فقد سلطت مؤسّسات جديرة بالثقة الضوء على تراجع تدفق الرساميل الخاصّة إلى لبنان، فاتفقت على ذلك نشرة «ميد» الالكترونية الذائعة الصيت ومؤسّسة التمويل الدولية. ويبدو أن هذه التدفقات ستتراجع بما يقارب 7% سنة 2015. والجدير بالانتباه، وهذا مهمّ، أن التراجع مردّه إلى انكماش ودائع اللبنانيين غير المقيمين بنسبة 25% تقريبا، وبدرجة أقلّ تقلصت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في لبنان.
ما دامت الأنظار مشدودة إلى ساحات أخرى من المنطقة، حيث تشتدّ الصراعات الدولية والإقليمية، فروح المسؤولية تجاه البلد وأهله تتطلب استغلال المرحلة الراهنة لتبريد الأجواء الداخلية، والابتعاد قدر الإمكان عن حمم البركان الإقليمي المتفجّر. ولكن ما نشاهده يسير تماما في الاتجاه المعاكس، حيث يجري استنباط الأزمات واستنهاض الحساسيات الراقدة، واعتبار الوقت فرصة لتعويض ما يعتبر مكاسب طائفية وفئوية، وهذا غير صحيح على الإطلاق.
فالوقت هو لحسن إدارة الدولة والاقتصاد وحلّ المشكلات الملحة، وتخفيف التوترات السياسية. أما إذا كان على اللبنانيين أن ينتظروا خمود نار الصراع المذهبي – الإقليمي حتى يبدأوا بمعالجة مشاكلهم الاقتصادية الملحة، فقد لا ينفعهم وقتها الترياق الآتي من سوريا والعراق. فمن الواضح أن المنطقة تتجه إلى المزيد من التباعد، بل المزيد من الحروب، لأن الحلول مستبعدة والحسم ليس بمتناول أي من الفرقاء.