IMLebanon

الترويكا السياسية وأزمة الاقتصاد اللبناني

lebanon-economy
غسان ديبة

حذر صندوق النقد الدولي في تقريره حول الاقتصاد اللبناني من وصول لبنان الى مرحلة نفاد مقدرة ما يمكن تسميته تحالف المصارف والدولة في الحفاظ على الاستقرارين المالي والنقدي. قصة هذه العلاقة بدأت عام 1993، التي اذا اضفنا اليها دور المصرف المركزي، انشأت ترويكا محلية اطبقت على الاقتصاد اللبناني واجهضت امكانية تحوله بعد الحرب الى اقتصاد منتج وحولته بعد سنوات من ارتفاع الدين العام والفوائد واكتتاب المصارف بسندات الدين الحكومية الى اقتصاد ريعي، يعتمد على تدفق رأس المال الخارجي، وتحويلات المغتربين والسياحة والمساعدات الخارجية. لماذا حصل كل هذا؟ على نحو سريع هذه هي القصة.

البداية كانت في الخيار الذي اتخذ بدءا من العام 1993 بتثبيت سعر صرف العملة اللبنانية. ولقد كان احد اهم مرتكزات تثبيت سعر الصرف الاستعداد الدائم للمصارف للاكتتاب في سندات الخزينة، اذ في غياب ذلك يصبح سعر الصرف مهددا في حال عدم توافر مصادر تمويل للعجوزات الحكومية، التي كانت تتزايد على نحو مطّرد بعد 1992، نتيجة زيادة الانفاق الحكومي وخفض الضرائب. ووصلت الاكتتابات من قبل المصارف في التسعينيات الى نحو 80% من الاكتتابات، اي كانت المصدر الوحيد فعليا لتمويل الدولة. وقد كان هذا الاكتتاب مربحا جدا، اذ مثّل منفذا ذا عائد عال للودائع المصرفية التي كانت تتزايد على نحو مطرد في فترة ما بعد الحرب. وقد حققت المصارف عوائد على الرأسمال بلغت 33% في عام 1996 و24% في 1998، وهي معدلات عالية جدا مقارنة بتلك المعدلات المحققة في المنطقة العربية والعالم. وقد سمح هذا التراكم للارباح بزيادة رأسمال المصارف 100 مرة بين 1993 و 2013. وقد كانت هذه العلاقة السبب الرئيسي في درء المخاطر على العملة بين 1997 و2002 على الرغم من المؤشرات التقنية السلبية من ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي والارتفاع الحقيقي لسعر الصرف.
لم يكن هذا الترابط كافيا، اذ بدا اضعف في عامي 2001 -2002 من تجنيب لبنان ازمة نقدية، فقررت الحكومة اللبنانية الاستعانة بالخارج، وفي هذا الإطار عقد مؤتمر باريس 2 الذي ضخ كمية من الأموال الى الحكومة اللبنانية بلغت 10.1مليارات دولار. وأدى تدفق تمويل كهذا إلى لبنان وإلى خزينة الدولة إلى استعادة النمو الاقتصادي، وإلى متغيرات ماكرو ـ اقتصادية لا مثيل لها في فترة ما بعد الحرب.
بعد حرب تموز 2006 ومؤتمر باريس-3 في 2007 شهد لبنان تدفقات مالية خارجية متزايدة، أدت إلى نمو اقتصادي مرتفع، ولكن بدأ لبنان الدخول في أزمة بنيوية ناتجة عن هذا التدفق المالي الخارجي، الذي قابله خلل في الأسعار بين السلع التي يمكن تصديرها والأخرى غير القابلة للتبادل، ما أدّى إلى هجرة للشباب وتحول الاقتصاد أكثر فأكثر إلى اقتصاد ريعي، أي الاعتماد على المداخيل الآتية من الخارج من خلال تحويلات العمال اللبنانيين في الخارج. فهجرة العمالة، على نحو رئيسي إلى دول الخليج العربي أصبحت إحدى خواص الاقتصاد اللبناني. ومولت التحويلات المالية الاستهلاك وشراء العقارات.
هذا الأمر أدى إلى تمركز الموارد في القطاعات غير الإنتاجية. وبدوره، قاد هذا، أيضاً، إلى خلق فرص عمل أقل من المرغوب بها طوال تلك الفترة. فوفقاً للبنك الدولي (MILES) في عام 2012 «عملياً لم يكن هناك شبكة لخلق الوظائف في لبنان خلال العقد الأخير، ويبدو أن العمل غير النظامي ارتفع على نحو ملحوظ. فالتقديرات الحالية للبنك الدولي تعتقد أنه في السنوات الـ10 المقبلة سيحتاج الاقتصاد اللبناني إلى خلق 5 أضعاف الوظائف التي يخلقها حالياً، كي يمتص الوافدين إلى سوق العمل». هذا النمو الضعيف للوظائف، اضافة الى تراجع الأجور الفعلية منذ 1996، جعلا الاقتصاد اللبناني يعتمد على نحو أساسي على الطلب الخارجي والممول خارجيا على انواعه، وأصبح هذا التغير يسبّب صدمات في الاقتصاد. فبسبب انخفاض هذا الطلب دخل الاقتصاد في أزمة في 2011 مستمرة حتى الآن.
إن «قانون» نورييل روبيني عن لبنان لا يزال الشبح الجاثم فوق هذه التشكيلة الاقتصادية-السياسية للترويكا المحلية مهددا دوما بانهيار نقدي في حال حصول خلل في احد مرتكزاتها، وخصوصا تدفق الاموال الى لبنان، وان اقحام المصارف في هذه التشكيلة التي تحصل للمرة الثانية في تاريخ لبنان، اذ أدت المصارف هذا الدور السياسي في الثمانينيات، يجعل الرهانات كبيرة جدا. لسنا بحاجة للصندوق كي يقول لنا هذا، اذ حذر الكثيرون من هذه اللعبة، التي وان انتهت الى نهايات سعيدة الا ان تاثيرها على الاقتصاد اللبناني قد حصل فعلا، بتحويله الى اقتصاد ركودي لا يلبي طموحات وحاجات الا حفنة قليلة من الرأسماليين الريعيين الكبار.