IMLebanon

في البدء كانت المالية البريطانية

BritishBudgetUK
عادل درويش
كان الأربعاء هذا الأسبوع أهم أيام الأجندة السياسية البريطانية. وزير المالية جورج أوزبورن يقدم للبرلمان مشروع الميزانية التي تحدد الإنفاق والسياسة الضرائبية للعام المالي (6 أبريل/ نيسان، حتى 5 أبريل من العام التالي) والسياسة المالية والاقتصادية وميزانية الخدمات والدفاع والأمن.
أهدي الموضوع للقراء المتابعين لنشاط وتعليقات الشباب الثوري، والإصلاحيين، ودعاة الديمقراطية، في جمهوريات «ثورات» 2011.
بريطانيا، مثل مصر وتونس وبلدان أفريقيا والشرق الأوسط، تحارب معركة شرسة ضد الإرهاب الذي يهددها ورعاياها داخليا وخارجيا.
خطبة الميزانية في مجلس العموم جاءت يوما واحدا بعد الذكرى العاشرة لأكبر عمل إرهابي في بريطانيا، تفجير قطارات الأنفاق وأحد الباصات في لندن وراح ضحيتها 52 شخصا من مختلف الأديان والمذاهب والأعراق لا يجمعهم سوى أنهم لندنيون.
وجاءت في أسبوع عودة جثث ضحايا إرهاب الدواعش (أو إحدى خلاياهم النائمة فلا يزال التحقيق جاريا) بطائرات سلاح الجو الملكي في ثاني أكبر حدث إرهابي يستهدف رعايا التاج البريطاني على شاطئ مصيف تونسي.
وزير المالية اسمه الكامل بالإنجليزيةFirst Secretary of the State، the chancellor of the exchequer أي السكرتير (الوزير) الأول للدولة ومستشار التبادلات المالية، وهو منصب كان يحتله رئيس الحكومة حتى 300 سنة فأنشئ منصب رئيس الوزراء عقب توسع التجارة وبدأت السياسات الضرائبية التي احتاجت وزارة مستقلة لموازنة بين الدخول والإنفاق العام، بغرض الفصل بين السياسة والمالية مع بقاء التنسيق الدائم بينهما. لا تزال اللافتة النحاسية على باب مقر رئيس الحكومة – 10 دواننغ ستريت، تقرأ «رئيس الوزراء والشيخ الأول للخزانة»Prime Minister and First Lord of the Treasury. وزير المالية مقره رقم 11 داوننغ ستريت المجاور وتتداخل الغرف والمكاتب بين الدارين (باستثناء الدورين العلويين لشقق السكن، من الأدوار الخمسة).
وزير المالية ثاني أقوى وأهم منصب. ونادرا ما يتغير في التعديلات الوزارية (مثلا كان هناك خلاف عميق وتبادل الشتائم في الاجتماعات بين الزعيم العمالي توني بلير ووزير ماليته غوردن براون، وكان أصدقاء ومستشارو الرجلين يسربان للصحافيين معلومات سلبية عن الخصم، ولم يجرؤ بلير على تغيير براون أبدا في خمسة تعديلات وزارية أثناء فترة حكمه لأن ذلك كان سيرسل إشارات يصعب تفسيرها للمستثمرين وأسواق المال والبورصات، مما يهدد اقتصاد البلاد).
يترأس وزير المالية فريقا من خمسة وزراء يترأس كل منهم بدوره وزارات تحتية تابعة للمالية.
الطريف أن كثيرا من الصحف العربية غالبا ما تضلل القراء بترجمة المالية إلى وزارة الخزانة ووزير المالية إلى وزير الخزانة. فالمالية هي قسم أو مكتب office كما هو حال وزارة الخارجية فهي ليست ministry بل قسم كامل Foreign Office ووزير الخارجية اسمه الرسمي بالكامل سكرتير الدولة لشؤون الكومنولث والعالم الخارجي secretary of state for the foreign and commonwealth office والأميركيون بعد استقلالهم تعلموا من البريطانيين، فالخارجية الأميركية اسمها القسم الخارجي للدولة State Department ووزير الخارجية هو سكرتير الدولة Secretary of State.
للأسف لا يلتفت كثير من الزملاء في الصحافة العربية لهذه التفاصيل البالغة الأهمية والتي أحيانا ما تسبب إحراجا عندما يقابل وزير بريطاني نظيره في بلد عربي (مثلا الذي سافر مع وزيرة الداخلية تريزا ماي إلى تونس عقب العدوان الإرهابي في سوسة لم يكن سكرتير الدولة للشؤون الخارجية فيليب هاموند، بل صديقنا توبايز ايلوود، وزير وزارة تحتية لشؤون شمال أفريقيا والشرق الأوسط). ولا تزال كثير من الصحف العربية تصف وزير المالية أوزبورن بوزير الخزانة. لكن الخزانة وزارة تحتية ولها وزير خاص بها هو غريج هانز (لقبه بالكامل رئيس سكرتارية الخزانة) وله وزير مساعد.
وأوزبورن كوزير دولة للمالية يترأس فريق وزراء تحتيين، وزير الخزانة غريج كما ذكرنا، وديفيد جوك وزير مالية شؤون الخزانة، وهاريت بولوين وزيرة اقتصادات الخزانة، وداميان هايندز وزير التبادلات المالية، واللورد أونيل وزير التبادل التجاري. وأسوق التفاصيل لأصحح كثيرا مما قد يسبب خطأ في فهم كثير من القراء للفرق بين تعبيري «وزير المالية» و«وزير الخزانة».
قبيل ذهاب وزير المالية أوزبورن وفريقه المكون من خمسة وزراء إلى مجلس العموم (الحادية عشرة والنصف قبيل المساءلة الأسبوعية البرلمانية لرئيس الوزراء في منتصف نهار كل أربعاء) بدأت التقاليد نفسها منذ اخترع التلفزيون، كاميرات «بي بي سي» في ردهة 11 داوننغ ستريت، فلاشات المصورين حيث اصطف الوزراء الستة ونقل البث الحي لأهم ما ينتظر الأمة.. «إنه المال والاقتصاد يا غبي..». حسب التعبير الشهير الذي ابتكره الأميركيون.. أوزبورن يقود فريقه إلى الشارع، ومئات الكاميرات تصوره للصحافة والبث الحي في التلفزيون وطائرة هليكوبتر «بي بي سي» بكاميراتها تصور من الجو. وزير المالية يرفع الحقيبة الصندوقية الحمراء وعليها شعار الدولة والمالية أمام المصورين والكاميرات. أول من استخدم الحقيبة كان غلادستون وزير المالية قبل 150 عاما (رئيس وزراء فيما بعد)، ولم تجدد الحقيبة إلا عندما لم تعد صالحة للإغلاق. جددت ثلاث مرات فقط في الثلاثينات، وعام 1965 عندما كان الراحل جيمس كالاهان وزيرا للمالية في حكومة هارولد ويلسون العمالية، وعام 1997 عندما أعاد براون تصميم الحقيبة وهي نفسها التي حملها أوزبورن للمرة السابعة في خمسة أعوام وشهرين (كان وزيرا لمالية حكومة الائتلاف في 2010 وقدم للعموم ست ميزانيات آخرها مارس/ آذار هذه العام).
واجه أوزبورن وفريقه من الوزراء الخمسة ضغوط الرأي العام والقلق من أخطار الإرهاب، وانتقادات التيارات المحافظة (أغلبية الرأي العام مثلما عكست نتائج الانتخابات قبل شهرين) لسياسة الحكومة في تخفيض ميزانية الجيش وقطاعات الدفاع والأمن، وأيضا مواجهة الديون التي تركتها ثلاث حكومات عمالية بالغت في الاقتراض للإنفاق العام، والمعضلة كيف تدفع الديون بلا تقليل الإنفاق على الخدمات؟
زادت ميزانية أوزبورن من الإنفاق على الدفاع والأمن لطمأنة المواطنين، فالتحدث بلغة الأرقام والاقتصاد يتقبله المواطن البريطاني أكثر من تقبله لسياسات يعتبرها تدخلا من الدولة وأجهزة الأمن في شؤونه. فزيادة ميزانية الدفاع والطوارئ وأجهزة مكافحة الإرهاب والاستخبارات ووكالات الأمن تطمئن المواطن الذي يرفض قبول مقترحات قوانين جديدة تمنح أجهزة الأمن التنصت على المكالمات ومراقبة رسائل البريد الإلكتروني ونشاط الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي والتي لا تستطيع أجهزة الأمن القيام به بلا أمر قضائي مسبق بعد إقناع القاضي بقانونية الطلب لإنقاذ أرواح، وهو حق ضمنته الماغنا كارتا منذ 800 عام.