IMLebanon

“تسوية فيينا”.. رسم للمشهد الجيوستراتيجي!

vienna-nucleaire

 

لن تكون الخريطة السياسية الدولية بعد اليوم كما كانت من قبل، ولن تكون خريطة المنطقة الممتدة من الشرق الاوسط الى الخليج بالتحديد كما عرفناها منذ الثورة الاسلامية في ايران عام 1979. وسيبدل الاتفاق النووي الايراني وجه المنطقة، وستذهب الأمور بالتأكيد نحو تغيير للأولويات، وللأهداف وربما أيضا للتحالفات، كما قالت صحيفة “النهار”.

أوساط ديبلوماسية أميركية تابعت كل المحطات التفاوضية أكدت لـ”النهار” أن الاتفاق يشكل مدخلاً حقيقياً لعلاقات جديدة بين ايران والولايات المتحدة وتالياً “ستكون لذلك تداعيات مباشرة على مقاربة ملفات المنطقة”.

وأوضحت هذه الاوساط في معرض تعليقها على علاقة الاتفاق النووي بملفات المنطقة، أن التفاهم بين إيران والولايات المتحدة، وهما دولتان منغمستان الى حد بعيد في تلك الملفات، لن يكون محصورا بالبرنامج النووي وحده “فهذا اتفاق سياسي في الدرجة الاولى عنوانه العريض نووي ولكن من الطبيعي أن يطاول التفاهم ملفات ذات اهتمام ومصالح مشتركة”.

في نيويورك، توقع ديبلوماسيون غربيون في مجلس الأمن أن تضطلع ايران بـ”دور مسؤول” في حلّ الأزمات التي يواجهها الشرق الأوسط، من سوريا الى اليمن ومن العراق الى لبنان.

وأشاد هؤلاء الديبلوماسيون بالاتفاق الذي أنجز في فيينا، متجنبين الخوض في تفاصيله. غير أن أحدهم توقع أن يصدر قرار عن مجلس الأمن “في غضون سبعة الى عشرة أيام” يتضمن الآلية التي أمكن التوصل اليها في فيينا لرفع العقوبات الدولية المفروضة على ايران، علماً أن الولايات المتحدة هي التي ستقدم مشروع القرار هذا الى بقية الدول الـ15 في المجلس. وقال إن “ايران لديها دور اقليمي مهم للغاية، ومع الاتفاق الجديد تأتي المسؤولية، ومنها جزء يتعلق بالمسؤولية حيال الأزمات الإقليمية”.

صحيفة “السفير” كتبت: “الإيرانيون بقوة المثابرة والصبر، ومن باب العمل الدؤوب طيلة أربعة عقود، تسارعت في الألفين بشكل خاص، دخلوا أخيراً نادي البلدان النووية رسمياً، وباعتراف الدول الكبرى، ورغماً بالأحرى، عن الفرنسيين والبريطانيين بشكل خاص والأميركيين.

ويبدو أن مهلة دخول الاتفاق النووي في فيينا مرحلة التطبيق، بعد 90 يوماً من التصديق عليه في مجلس الأمن الدولي، كما قالت مصادر غربية، تعكس حسابات باحتمال سقوطه في التجاذبات داخل الإدارة الأميركية، والحرب التي سيواجهها في الكونغرس لإسقاطه، علما أن مجلس الأمن سيجتمع خلال أسبوع أو عشرة أيام للتصديق على الاتفاق، يبدأ بعدها العد العكسي لنفاذه، من دون أن يكون الإعلان عنه ملزما للإدارة الأميركية، التي ستنتهز المهلة لاستكمال الإجراءات الدستورية للتصديق عليه، ومن دون ذلك سيبقى اتفاق فيينا حبراً على ورق، لأنه كان معرضاً للسقوط من دون تعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما باستخدام حقه الدستوري بنقض تصويت مجلس الشيوخ.

وجلي انه لم يكن كافياً أن يتوصل المتفاوضون في فيينا إلى الاتفاق، وان مصير الاتفاق الفعلي ينتظر جلاء المعركة التي تنتظره في أيلول المقبل في مجلس الشيوخ الأميركي، وأن ما جرى لم يكن سوى جولة أساسية للحل، ولكن خيارات تعطيل الاتفاق لا تزال قائمة.

والأرجح ألا يرى الاتفاق النور قبل مطلع الخريف المقبل، إذ يعود الكونغرس من عطلته مطلع أيلول، وعندما تنتهي مهلة الثلاثين يوماً التي سيستغرقها الكونغرس للتصويت ورفض الاتفاق حسب التوقعات، ستضاف إليها مهلة الأيام العشرة التي يحق لاوباما خلالها نقض التصويت المعارض.

وتتوقع مصادر غربية ديبلوماسية أن يعمل اللوبي الإسرائيلي والسعودي ما بوسعهما، وان يبذلا كل جهد ومال لمنع تمرير الاتفاق. وهناك احتمال أن يعمد المحافظون في إيران، كما تتحدث مصادر غربية، إلى محاولة إسقاط الاتفاق خلال التصويت عليه، لأنه يتعارض مع الأطر والقوانين التي صوت عليها مجلس الشورى قبل عشرة أيام، مع ترجيح أن يقف مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي على الحياد، والمراهنة ربما أن يتولى الأميركيون إسقاطه.

وأضافت الصحيفة: “الشرق الأوسط ما قبل الاتفاق النووي، لن يكون كما بعده. ارتقت هذه الحقيقة الى مستوى البديهيات في الأدبيات السياسية في المنطقة بعدما انتهت ليالي التفاوض النووية الطويلة.

ومع ذلك، فإن التوقعات بشأن التحولات التي يمكن للتسوية النووية أن تفرزها في المشهد الإقليمي تبقى موضع تباين في ظل الاصطفافات الثابتة والمتغيّرة التي يشهدها الشرق الأوسط منذ ما يقارب الأربعة عقود.

هنا تتفاوت القراءات الخاصة بمرحلة ما بعد الاتفاق النووي بين متفائل يرى أن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة جديدة ترفرف فيها حمامات «السلام النووي» في سماء الشرق الأوسط الملتهب بالصراعات الدامية، وبين متشائم يعتقد أن ما تحقق في فيينا ربما يمثل بداية لتموضعات جيوسياسية جديدة ستكون نتيجتها صب مزيد من الزيت على النزاعات القائمة، وفتح جبهات جديدة بعيداً عن نقاط الاشتباك المشتعلة حالياً.

وبين هذا وذاك، متشائل يرى أن البراعم السياسية للاتفاق النووي قد تفتحت ولكن ثماره لن تينع بين ليلة وضحاها، ومرد ذلك الى وجود محاذير، لا بد من الالتفات اليها، أولها الشكوك الموضوعية بشأن آلية الاتفاق النووي نفسه ـ في ظل تاريخ من عدم الثقة بين الجانبين الايراني والاميركي ـ وبقدرة التسوية النووية على توحيد الرؤى المتناقضة ازاء الملفات الاقليمية، ناهيك عن تشويش متزايد انطلق باكراً من تل ابيب والرياض.

وبعيداً عن النتائج المباشرة التي تمخضت عنها المفاوضات النووية، والتي يبقى نجاحها رهناً بحسن النوايا حين يتخطى الاتفاق عراقيل التفاصيل التنفيذية، فإن السؤال الذي يطرحه كثيرون – حتى قبل بزوغ فجر فيينا – يدور حول النتائج الجيوسياسية لتلك التسوية التاريخية.

وبالرغم من ان المفاوضين النوويين قد ركّزوا جهودهم على النواحي التقنية، ونحوا جانباً القضايا السياسية الشائكة – وهو عامل يرى كثيرون انه اسهم في نجاح المفاوضات وحافظ على قدر من التماسك بين دول مجموعة «5+1» ذات المصالح المتعارضة والمتقاطعة في آن ـ الا ان لا جدال في كون التسوية النووية ستمهد لتغييرات على المستوى الجيوسياسي، مع العلم ان تغييرات من هذا النوع لن تكون «تلقائية»، خصوصاً ان ما يفرّق اصحاب النفوذ الاقليميين والدوليين في الشرق الاوسط، اكبر بكثير مما يجمعهم.

ومع ذلك، فإن تسوية فيينا تمثل محطة محورية لإعادة رسم المشهد الجيوستراتيجي في الشرق الاوسط على المدى المنظور، إن على المستوى الداخلي في هذا البلد او ذاك، او على مستوى العلاقات العابرة لـ «حدود سايكس – بيكو» التي تزداد هشاشة يوماً بعد يوم.

وفي العموم فإن الرئيسين الاميركي باراك اوباما والايراني حسن روحاني كانا واضحين في تحديد الاطار السياسي الذي سيسير فيه الاتفاق النووي، إذ قال الاول إن «هذا الاتفاق يوفر فرصة علينا ان نغتنمها للمضي في اتجاه جديد»، في حين شدد الثاني على ان «الاتفاق يمثل نقطة انطلاق لبناء الثقة بين بلاده والغرب».

ومن الواضح ان «الاتجاه الجديد» الذي تحدّث عنه الرئيس الاميركي يتمثل في الانتقال من «سياسة الاحتواء»، التي انتهجها اسلافه منذ انتصار الثورة الاسلامية، الى «سياسة اليد الممدودة» التي لاحت بوادرها قبل الاتفاق النووي، حين نسّق الجانبان جهودهما ضد تنظيم «الدولة الاسلامية» في العراق، في حين ان «نقطة الانطلاق لبناء الثقة» التي اشار اليها الرئيس الايراني تنبع من براغماتية لم تعد مقتصرة على القيادة الايرانية الجديدة (روحاني وفريقه) بل صارت تشمل القيادة التاريخية المتمثلة بالمرشد الاعلى آية الله علي خامنئي، الذي اعطى قبل عامين الضوء الاخضر لمسار ديبلوماسي لا يفرّط «قيد انملة» بالمكتسبات التي حققتها «الأمة الايرانية».

هكذا يجزم كثيرون بأن الاتفاق النووي ستترتب عليه نتائج جيوسياسية اكثر اهمية بكثير من خطوات اخرى توازيه في الاهمية اتخذها باراك اوباما بعد بدء ولايته الرئاسية (الانسحاب من العراق) وفي وسطها (الانسحاب من افغانستان) ومع بدء العد العكسي لنهايتها (الاتفاق التاريخي مع كوبا)، وهو ما يوحي بإعادة ترتيب للسياسات الخارجية قبل ان يتسلم خلفه، ديموقراطياً كان ام جمهورياً، مفاتيح البيت الابيض بعد ما يقرب من العام ونصف العام.

واذا كان من المبكر الحديث عن مرحلة «تطبيع كامل» للعلاقات الاميركية – الايرانية، تُسقط فيه طهران شعار «الموت لأمريكا» وتتخلى فيه واشنطن عن خططها الدائمة لزعزعة استقرار الجمهورية الاسلامية، التي كانت حتى الامس القريب «دولة مارقة» عند المحافظين الجدد، فإن مرحلة التسوية النووية ربما تكون اشبه بمرحلة التقارب الذي شهدته العلاقات الاميركية – الصينية في مطلع السبعينيات، حين قام الرئيس ريتشارد نيكسون بزيارة تاريخية لبكين، اسهمت في تبريد التوتر الذي كان قائماً بين العدوين اللدودين وقتذاك، لا بل كرّست لتحالف ضمني، من دون ان تنهي الصراع الحاد، الذي ما زال قائماً حتى يومنا هذا، وإن انتقل من ميدان الايديولوجيا الى اسواق التجارة العالمية.

وكما ان المصافحة التاريخية بين ريتشارد نيكسون وماو تسي تونغ في الحادي والعشرين من شباط العام 1972 قد مهّدت لمرحلة تحولات محورية في خضم الحرب الباردة، فإنه من غير المستبعد ان تمهّد تسوية فيينا النووية الطريق لتحولات اقليمية، بدءاً بسوريا والعراق، مروراً بمنطقة الخليج العربي، وصولاً الى لبنان وفلسطين.

والواضح حتى الآن ان الاتفاق النووي يعني، من الناحية السياسية، اعترافاً مباشراً من قبل الولايات المتحدة بإيران كقوة اقليمية كبرى، ينبغي التنسيق معها في كل ما يتعلق بقضايا الشرق الاوسط، وهو ما يمنح، بطبيعة الحال، هامش مناورة سياساً واسعاً للجمهورية الاسلامية في مقاربة الكثير من الملفات الملتهبة.

وربما يكون الميدانان السوري والعراقي الاختبار التطبيقي الاول للتحوّلات السياسية المترتبة على الاتفاق النووي. وفي هذا الإطار، كان لافتاً ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من ان الاتفاق النووي يسهّل تشكيل «تحالف واسع» ضد «الدولة الاسلامية»، وما اشار اليه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، بعيد اعلان فيينا، من انه ينبغي حث ايران على المساعدة في ايجاد حل للازمة السورية.

وربما يفضي الاتفاق النووي، بما يحمله من فك للعزلة الدولية على ايران، وأولى ملامحها اعلان وزيري الخارجية الالماني فرانك فالتر شتاينماير والفرنسي لوران فابيوس عن رغبتهما في زيارة طهران قريباً ومحاولة تركيا تعويض غيابها عن الملف النووي عبر توقعات وزير خارجيتها مولود تشاوش اوغلو بأن الاتفاق النووي سيسهم في تحسين الاقتصاد الاقليمي الى اسقاط «الفيتو» الغربي على مشاركة الجمهورية الاسلامية في جهود الحل السياسي للازمة السورية، والذي ادى الى استبعادها عن مؤتمري «جنيف1» و»جنيف2».

ومع ذلك، فإن تعقيدات الوضع في الشرق الاوسط ربما تسهم في تخفيض سقف التوقعات الايجابية، فالحل النووي لن ينسحب بالضرورة على خلافات عميقة لا تزال قائمة بين ايران والولايات المتحدة، خصوصاً في ما يتعلق بصراع النفوذ في الشرق الاوسط، لا سيما في الميدانين العراقي والسوري.

وبالرغم من ان الاتفاق النووي قد يسهم في تخفيض بعض الحساسيات بين ايران والولايات المتحدة، الا انه لن يفضي الى تغيير كبير في الاستراتيجيات المتناقضة، سواء في سوريا، حيث تتمسك طهران ببقاء الرئيس بشار الاسد، في حين تسعى واشنطن الى اطاحته او تدمير الدولة السورية، أو في العراق حيث توفر الانقسامات بيئة مؤاتية للصراع على النفوذ، وفي لبنان وفلسطين المحتلة حيث لا يتوقع ان تتخلى الجمهورية الاسلامية عن دعمها الاستراتيجي لفصائل المقاومة.

ومع ذلك، فإن الطرفين الايراني والاميركي قد يلتقيان عند مصلحة مشتركة تتمثل في التصدي للخطر المتنامي الذي يمثله «داعش»، علماً بأن الطرفين اجريا تجارب ميدانية صغيرة في هذا الاطار خلال الاشهر الماضية على جبهات القتال ضد التنظيم التكفيري في العراق.

ومن جهة ثانية، فإن اسقاط العقوبات المفروضة على طهران، بموجب الاتفاق النووي، يعني من الناحية العملية تحرير عشرات مليارات الدولارات المجمّدة، وتخفيف العبء عن الاقتصاد الايراني، بما يمهّد لانطلاقة جديدة، سيكون ممكناً استثمارها في الأروقة السياسية والجبهات العسكرية، وربما هذا ما يدفع البعض الى التحذير من ان هذا الواقع الجديد سيسهم في تأجيج الصراع على النفوذ الاقليمي بين واشنطن وطهران، في حين يرى خبراء اقتصاديون ان المفاعيل الاقتصادية – وبالتالي السياسية والعسكرية – للاتفاق النووي، لن تكون سريعة، خصوصاً ان الاقتصاد الايراني المكبّل بالعقوبات الدولية قرابة عقد يحتاج الى اصلاحات كبيرة وخطة تحديث ضخمة قبل ان يستعيد عافيته بشكل تام، علاوة على ان اي تعثر في تطبيق الاتفاق النووي قد يقود الى اعادة فرض العقوبات كما افصح مسؤولون اميركيون.

وربما هذا ما تراهن عليه القوى المعارضة لـ «السلام النووي»، سواء اسرائيل، التي اعتبرت، على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، اتفاق فيينا «خطأ تاريخياً»، وبدأت تعد «اللوبي اليهودي» لتقويض الاتفاق النووي عبر الكونغرس، او السعودية، التي استخدمت مصادرها عبارة نتنياهو نفسها، في معرض وصفها للاتفاق الاميركي – الايراني، متوعدة بـ «ردّ قوي» من خلال «اتخاذ اجراءات على المدى المتوسط»!

وبصرف النظر عن مدى قدرة اسرائيل والسعودية على تقويض الاتفاق النووي، فإن الطرفين ربما يجدان نفسيهما مضطرين الى التعايش مع الامر الواقع الجديد، سواء عبر ابتزاز الولايات المتحدة لضمان تفوقهما «النوعي» في مواجهة ايران، خصوصاً في ظل اصرار اوباما على طمأنة حليفيه – وهو ما يفترض ان يكون قد دار في الاحاديث التي اجراها مع نتنياهو والملك سلمان – ما ينذر بسباق تسلح جديد في الشرق الاوسط، او عبر البحث عن اصطفافات جديدة ضد ايران، قد تصل الى حد التحالف الضمني (او حتى العلني) بين الدولة العبرية والمملكة السعودية لمواجهة الجمهورية الاسلامية… الخ.

كل ما تقدّم يدفع الى انتظار تحولات مرتقبة للاتفاق النووي على مستوى الملفات الاقليمية، وهو ما يفترض ان تتبلور ملامحه الأولية حين تبدأ المرحلة التطبيقية لـ”السلام النووي”.

من جهتها، نقلت صحيفة “الأخبار” عن أوساط سياسية أنه ليس من الضرورة أن يشكل الاتفاق بداية مرحلة استتباب المنطقة، علماً بأنه يحتاج الى وقت طويل لتثبيته ومروره بمراحل التطبيق العملاني.

وهذا الوقت قد تحتاج إليه الدول الشرق أوسطية لالتقاط أنفاسها والاستعداد لمواجهة ما أفرزته المفاوضات من جلاء في المواقف الأميركية والأوروبية والإيرانية، من دون أن ننسى ما سيتركه الاتفاق من تأثيرات مباشرة في الولايات المتحدة المقبلة على انتخابات رئاسية، وتحوّل هذا الاتفاق إلى بند رئيسيّ في برامج المرشحين من الجمهوريين والديموقراطيين، كما كانت مواضيع الإرهاب و»القاعدة» أساسية في الأعوام السابقة. ومن المتوقع أن نشهد تدريجاً، وبعيداً عن الصراع داخل الكونغرس وحوله، تحول الاتفاق إلى مادة كباش حقيقي حتى داخل معسكر الديموقراطيين، كما هي الحال مع المرشحة هيلاري كلينتون التي قد تسعى الى الإفادة من معارضته انتخابياً.

إذاً، وبعد أعوام طويلة من الانتظار، يمكن أن يشكل الاتفاق حافزاً أساسياً للدول المعنية بالخلاف الثنائي الذي تمثل إيران أحد محاوره، وبعض دول المنطقة محوره الآخر، لإعادة رسم استراتيجية جديدة وتثبيت المناطق التي يعتبرها كل محور مناطق نفوذه وتشكل «مفاتيح» أساسية في حضوره الإقليمي وتأثيراته الدولية، وفي وضع كل طرف خطوطاً حمراً أمام خصمه. والأخطر أن يحاول أي منهما استعجال الذهاب الى فرض «أجندة» جغرافية وهيكلية جديدة لتحسين وضعيته وتحصينها.

فدول المنطقة عاشت في الأعوام الأخيرة، على إيقاع انتظار ما سيؤول إليه الحوار الأميركي ـ الإيراني، ودخول الأطراف الأوروبيين على خطه، واستثمار مراحل الحوار في بلدان المنطقة الخاضعة لتأثيرات إيران ومعارضيها على السواء. ولا شك أن صعود أسهم الحوار وهبوطه في بعض المراحل الحساسة تركا تداعياته السياسية والعسكرية على سوريا والعراق، وعلى التجاذبات الداخلية في لبنان. إضافة الى تأثيرات مباشرة على علاقات دول المنطقة كالسعودية وإسرائيل بالولايات المتحدة، بعدما طبع الرئيس الأميركي باراك أوباما عهده بدعم واضح لعلاقة أميركية ـ إيرانية سوية، رغم معارضة داخلية شديدة.

واليوم، بعدما حسمت الدول المعنية موقفها لصالح اتفاق على هذا المستوى، يمكن أن يبدأ عصر جديد يأخذ في الاعتبار ما حققه الاتفاق النووي في صورة مباشرة ومن تأثيرات جانبية يمكن لإيران وخصومها الإفادة منها.

ومن الطبيعي أن تعمد هذه الدول الى بناء قاعدة سياسات مختلفة في ساحات النزاع الإقليمية المعروفة، من العراق الى سوريا، وصولاً الى لبنان (الذي لا تزال الدول الفاعلة تحيّده عن المواجهة المباشرة)، إضافة الى اليمن، وهي التي انفجرت بطريقة أو بأخرى، وارتسمت خطوط التماس السياسية والأمنية فيها، فيما كان يشتد الكباش الشيعي ـ السني في المنطقة.

تنطلق إيران من الواقع الذي فرض نفسه على الأرض، في الأعوام الأخيرة، إن لجهة وضع العراق جغرافياً وأمنياً وسياسياً، حيث يتمدد النفوذ الشيعي في مناطق معروفة، وإن في سوريا حيث فرزت في الأشهر الأخيرة مناطق نفوذ النظام السوري بدعم من إيران وحزب الله. ومن شأن الاتفاق أن يعطيها مدى أوسع في تثبيت احتياجاتها والمناطق المفاتيح التي تدخل ضمن استراتيجيتها الجديدة.

وعلى خط مواز، بدأت تتشكل في العراق مناطق الامتداد السني، كما هي الحال في سوريا. والأمر نفسه ينطبق على وضع اليمن، ما يساعد المحور السني على تأطير مناطق محددة ومدّها بالعون. لكن المعضلة التي ستتبلور صورتها تدريجاً، ولا تواجهها إيران، هي أن المحور السني «الرسمي» لا يتفرّد بسيطرته على الساحات السنية، في ظل الصعود المطّرد لتنظيم «داعش»، الذي تعتبره هذه الدول خطراً عليها وتسعى الى محاربته. وانفلاش هذا التنظيم وقوته يضعان الدول التي تخاصم إيران في مأزق حقيقي، لأنها تصبح تلقائياً بين خطرَي «داعش» من جهة، وإيران ما بعد النووي من جهة أخرى. ولا شك أن ما يعيشه اليوم الأردن وتركيا في عملهما للحد من صعود التنظيم في المناطق المتاخمة لهما، وإمكان تمددهما الى داخل سوريا لمحاربته في عقر داره، وإنشاء مناطق عازلة تبعد خطر الحرب عن أراضيهما، يمثل اليوم أبرز صورة عن واقع هذه الدول. وإذا كانت تركيا تحارب على جبهة الأكراد والتنظيم معاً، وتلاقي دعماً قطرياً، فإن السعودية، التي تدعم الأردن، تريد بدورها خلق حالة متماسكة بعد حرب اليمن، ما يجعلها بعد اتفاق فيينا في موقع حساس، تحاول من خلاله، مع تحييد نفسها عن تنظيم الدولة، الإمساك بمناطق نفوذ في دول المواجهة مع إيران. وهو ما لن يكون سهلاً في ظل تنامي قوة «داعش».

ولأن الاتفاق النووي وضع خطاً فاصلاً بين مرحلتين، فإن مشهدية جديدة في طريقها الى الظهور، ومعها خطوط حمر كثيرة، في خضم مرحلة تاريخية وانقسامات طائفية وتصاعد حدة الحرب وطابعها الأمني والعسكري في الشرق الأوسط. وجرت العادة ألا ترسم هذه الخطوط إلا بالدم، وليس من خلال مفاوضات وحوارات على الطاولة.