IMLebanon

الصين .. صراع الريف والمدينة

Hefei-China
لوسي هورنبي

النسبة إلى الناس، كان الأمر يبدو كأنه غزو. على مدى ثلاث سنوات كان مزارعو قرية فويو يقاتلون شركة تطوير “مدعومة من الحكومة” حولت أراضيهم إلى موقع بناء ضخم. كان قاطعو الطرق يتجمعون بعد غروب الشمس، مهددين السكان، وأحيانا يضربونهم. أما القرويون، المسلحون بالمعازق والمناجل، فكانوا يتناوبون على حراسة مداخل شوارعهم الضيقة.

الآن، تمر على الطريق السريع شاحنة تلو أخرى محملة برجال يرتدون قبعات صلبة كتب عليها “الشرطة”، حاملين عصيا طويلة ومناخز كهربائية ودروع مكافحة الشغب. يقول أقارب يعملون في بلدة مجاورة “إنهم اتصلوا مسبقا ليحذروا من قدومهم”. عندها تسلح القرويون بقضبان معدنية من موقع البناء وانتظروا.

اشتبكت القوتان على الطرق الواسعة بين المباني غير المكتملة، تحت شمس جنوبية ساطعة في مقاطعة يونان – التي تبعد أكثر من 2000 كيلو متر عن بكين. عمل الحشد على قلب ثلاث سيارات شيفروليه فضية، ودارت معارك صغيرة خلفت وراءها جرحى مضرجين في الدم على الأرض.

قبض القرويون على ثمانية من أفراد “الشرطة”، وكبلوهم بأشرطة لاصقة وجدائل بلاستيكية، وأبقوهم في قاعة القرية. أثناء التدقيق عن كثب، كان هناك تشابه بين أوجه الغرباء وأوجه القرويين المتعبة. وقد تحول زيهم ذو اللون الأزرق الداكن ليصبح كملابس حراس الأمن غير المناسبة، الملبوسة فوق ملابس عادية. واحدة من النساء اتصلت بالشرطة الحقيقية مرارا وتكرارا.

في وقت متأخر من فترة بعد الظهر ومع ارتفاع حدة التوترات، سحب القرويون أربعة من الرهائن إلى الخارج، وربطوهم مع بعضهم بعضا بشريط من القماش الأحمر، ورشقوهم بالبنزين، مطالبين بانسحاب الطرف الآخر. لكن بدلا من ذلك، اندفع الطرف الآخر إلى الأمام.

وعندما انقشع الدخان في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2014، كانت جثث الرهائن المتفحمة الدامية جاثمة وهي لا تزال مكبلة على الرصيف. وعثر على ما لا يقل عن اثنين من القرويين واثنين من الغرباء ميتين في حقول مجاورة.

يقول أحد القرويين -الذي طلب عدم الكشف عن اسمه- خوفا من التعرض إلى انتقام “لم يكن لدينا أي خيار سوى الدفاع عن أنفسنا. لو لم نقتلهم، لقتلوا مزيدا منا”.

كانت معركة فويو لافتة للنظر بسبب وحشيتها، لكن ليس بسبب حقيقة أنها وقعت أصلا. إن مسألة الاستيلاء على الأراضي هي المسبب الأول للاضطرابات في الريف الصيني وفي القرى مترامية الأطراف التي تحولت إلى أحياء فقيرة تحيط بكل مدينة.

الحضر مقابل الريف

السبب الرئيسي للتوسع الحضري السريع في الصين هو موجة ارتفاع الأجور في المدينة، وفرصة الهرب من حياة العمل في المزارع المتعبة جدا. على مدى ثلاثة عقود كانت اليد العاملة الرخيصة من الريف هي المحرك وراء “معجزة الصين الاقتصادية”، كما اعترف وأقر بها رئيس الوزراء، لي كيكيانج، في خطاب له ألقاه في آذار (مارس).

وانخفض عدد السكان في المناطق الريفية من 80 في المائة من المجموع عام 1980 إلى أقل من النصف الآن. وتقلصت مساهمتهم في الاقتصاد بوتيرة أسرع حتى من قبل، لتصل إلى 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، من أصل 30 في المائة في عام 1980 – ما يجعل المدن حتى أكثر جاذبية.

لكن هناك عاملا أكثر قبحا هو أن خُمس مهاجري الصين لم يكن لديهم أي خيار سوى الخروج إلى الشارع، لأن أراضيهم أُخذت منهم.

أعداد هؤلاء مذهلة. فقد وجد تقرير أصدرته عام 2011 الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، أن ما بين 40 و50 مليونا من المهاجرين الصينيين، من أصل 250 مليونا، أصبحوا بلا أراض بسبب المصادرة. وهناك ثلاثة ملايين آخرون يخسرون أراضيهم سنويا، بحسب تقديرات الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية.

رسميا، ترحب بكين بعملية التحضر. لكن أعدادا متزايدة من الناس تفتقر إلى حقوقها وإمكانية الوصول إلى الخدمات المقدمة للمواطنين في المناطق الحضرية بسبب تصنيفهم “مناطق ريفية” من قبل نظام التسجيل الصيني التقييدي “الهوكو”، وفي الوقت نفسه يفتقرون إلى أي أراض زراعية للاستناد إليها. هذا قد يكون وصفة لحالة من عدم الاستقرار، خاصة أن النمو الاقتصادي في حالة تباطؤ.

والحسابات المستقلة أعلى حتى من ذلك. إذ قفز عدد السكان الذين لا يملكون أراضي بشكل حاد ليصل 120 مليون نسمة، مقارنة بـ 40 مليونا قبل عشر سنوات فقط، بحسب تقديرات هو جيندو، الذي يبحث في قضايا المهاجرين في معهد بكين للتكنولوجيا.

وبالنسبة إلى بعض الصينيين، يعتبر التعويض عن الأراضي المفقودة كافيا لتمويل حياة جديدة حضرية، أو البدء في أعمال صغيرة عندما تتأتى لهم المدينة. لكن بالنسبة إلى الملايين، لا يعتبر الأمر كذلك – إذ تمثل إعدادا للمسرح من أجل خوض معارك يائسة مثل تلك التي اعتصرت قرية فويو.

ووفقا لاستطلاع أجرته عام 2011 منظمة لاندسي الدولية غير الحكومية التي تعنى بحقوق الأراضي، خسرت نصف القرى الصينية تقريبا بعض، أو كل أراضيها منذ أواخر التسعينيات. وفي نحو ربع تلك القضايا، لم يتم تعويض القرويين، بحسب ما وجدت الدراسة الاستقصائية. ويشير البحث الذي أجرته الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية إلى احتمال وقوع “الحوادث الجماعية” – المسمى الرسمي الألطف للاحتجاجات أو أعمال الشغب – بشكل أكبر إذا اعتقد السكان المحليون أنهم لا يحصلون على تعويض عادل عن أراضيهم.

وهذه هي الحال بالنسبة إلى عشرات القرى و20 ألف شخص من الذين يعملون مزارعين في الأراضي المسطحة الغنية في بلدة جينتشينج على شواطئ بحيرة ديانتشي، جنوب كومينج، عاصمة مقاطعة يونان. فقد تم قطع الأشجار من على آلاف الهكتارات من الأراضي لإفساح الطريق أمام خطة للحكومة المحلية تهدف إلى تحويل المنطقة إلى مقصد سياحي، باعتبارها مدينة قديمة، بتكلفة 3.6 مليار دولار تتضمن بناء فلل على ضفاف البحيرة، وشقق في بنايات شاهقة، مع قطعة ليست بذلك الجمال، لتضم سوقا لبيع قطع السيارات بالجملة.

وتعتبر مسألة الاستيلاء العنيف على الأراضي أمرا شائعا في جميع أنحاء الصين، لكن نطاق الاستيلاء قرب كونمينج أمر غير عادي.

في عام 2013، شهدت جينتشينج أربع مواجهات عنيفة. بالضبط تقريبا قبل عام من معركة فويو الدامية في عام 2014، قاوم المزارعون في قرية جوانجي القريبة أفراد الشرطة الذين كانوا قد وصلوا ومعهم الغاز المسيل للدموع لاعتقال قادة حركة الأرض. واحتجز المزارعون 15 من أفراد الشرطة والمسؤولين المحليين رهائن، حتى وافقت السلطات على التراجع. وأصيب أثناء ذلك 40 قرويا و27 من رجال الشرطة.

ارتفاع أعمال العنف

عبر الصين، ارتفع عدد الاشتباكات العنيفة بشكل حاد بعد عام 2009، بسبب بدء الحكومات المحلية المثقلة بالديون بيع أراض كانت قد تعهدت بها كضمانات إضافية لمطوري العقارات. هذا أدى إلى وضع السلطات المحلية، والثقل الكامل للقوات الأمنية، مباشرة إلى جانب المطورين.

في عام 2010، نتج عما لا يقل عن 16 حالة استيلاء على الأراضي، أو هدم قسري عبر الصين، وفاة شخص واحد على الأقل، وفقا “لخريطة بيت الدم” التي تم تجميعها من قبل وسائل الإعلام الرسمية، مقارنة بعدد قليل من الحالات فقط في باقي العقد. وفي العام الماضي، تم إحراق قروي كان يحرس حقله، حيا في مقاطعة شاندونج عندما أشعلت أطقم الهدم النار في خيمته.

وتعود الأراضي الزراعية في الصين إلى الدولة أو القرية الجماعية، في حين تمتلك العائلات التي ظلت تزرعها لقرون قانونيا فقط صك ملكية لمدة 30 عاما. ولا يستطيع القرويون قول أي شيء عندما تبيع الحكومة الأرض للمطورين، لكن الذين بإمكانهم تحمل القتال الأعنف يستطيعون غالبا التصارع للحصول على حصة أكبر من الإيرادات. وحين تكون الحكومات المحلية في حاجة ماسة يمكن أن تصبح المواجهة سيئة.

إن الحاجة إلى البيع غالبا ما تعني أن الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها من أجل “التنمية” تفوق النمو الطبيعي للمدينة، ما يسهم في كم المدن الفارغة والموحشة التي تحيط بعديد من المدن الصينية.

هذا يبدو أنها الحال على طول الشواطئ جنوب شرق بحيرة دينتشي، حيث تقع الأراضي الزراعية الرئيسية التي باتت في حالة خراب. وتظهر التربة الطينية السوداء والأرض المخملية العميقة لحقول الخضراوات هنا وهناك وسط قفار من الأنقاض والتربة المهدمة. أما لافتات الإنشاءات فهي تطنطن بـ “حلم الصين”.

والمقاومة حول بحيرة دينتشي شرسة جدا، جزئيا لأن المزارعين هناك يحققون مكاسب جيدة بشكل غير عادي من زراعة الخضراوات الطازجة التي تتم تعبئتها في مخازن محلية وشحنها عبر الصين. وتم منح القرويين في فويو 90 ألف رنمينبي (14516 دولارا) لكل مو (15 مو تعادل هكتارا واحدا). وهذا يمثل نحو أربعة أضعاف المتوسط القومي للتعويض، لكنه أقل مما تتلقاه القرى الأخرى المجاورة، وأقل بكثير من المعادلة الوطنية المستندة إلى مضاعفات الدخل السنوي للمحاصيل.

ويقول قرويو فويو “يبدو المبلغ كبيرا، لكن هنا يعادل فقط نحو دخل عامين. بعض الناس ليس لديهم أي شيء آخر للعيش، إذ عليهم المغادرة للعثور على عمل. أما هنا، فالناس لا تحب الهجرة. نحن نحب البقاء هنا في بيوتنا”.

هذا الأمر تؤكده الإحصائيات. فقد شهدت المقاطعات الريفية الفقيرة في الصين تزايدا في عدد سكانها المسجلين كأشخاص في سن العمل الذين يغادرون للعثور على عمل. لكن عدد سكان بلدة جينتشينج بقي ثابتا. ويجد الشباب فرص عمل في قطاع الخدمات في البلدات المجاورة، بينما يواصل آباؤهم العمل في الزراعة في مناطق قريبة.

وعمل الاستيلاء على الأراضي على تعطيل التحول إلى حياة حضرية وذلك بدفع الناس بعيدا بشكل أسرع وأبعد مما كان مقررا. ويجب على المهاجرين البالغين الشباب دعم آبائهم الذين خسروا، أو فقدوا دخلهم الزراعي. وإذا تم تدمير بيوت القرى، يمكن أن تختفي أموال التعويضات في تكاليف بناء بيوت جديدة.

هذه الحسابات لا تزال تشكل عبئا على قرية أنجيانج التي تبعد فقط بضعة أميال عن فويو. فقد أصيب نحو 50 من قرويي أنجيانج في معركة ضارية مع أطقم الهدم ورجال الشرطة في نيسان (أبريل) من عام 2013.

وبعد مرور عامين، لا تزال القرية محاطة بالأنقاض على الرغم من أنه لم يتم بناء أي شيء جديد. ومع عدم وجود أي مكان لممارسة الزراعة، انضم كثير من سكانها البالغ عددهم ثلاثة آلآف شخص إلى مجموعة “السكان الهائمين” من العمال الزراعيين المتجولين، مخلفين وراءهم أصدقاءهم القدامى وأطفالهم.

يقول صاحب أحد المتاجر في أنجيانج “لقد كنا فقراء من قبل، لكن العائلة كانت متضافرة معا. الآن تجد الناس منتشرين في الاتجاهات الأربعة”.

حملة القمع الأمني

بعد المعركة تولت الفرق شبه العسكرية تأمين فويو لمدة شهرين. تم احتجاز القرويين بالتناوب حتى تم التعرف على أولئك المسؤولين عن جرائم القتل. وبعد مرور تسعة أشهر، لم يكن لدى بعض العائلات أي فكرة عن مكان ذويهم.

حتى اليوم عند نقطة تفتيش على مدخل القرية، يراقب الحراس كل شخص يدخل ويخرج. كما أن الهواتف المحمولة تخضع للمراقبة.

تقول إحدى نساء البلدة في جينتشينج كانت قد شهدت عمليات القتل في فويو “نحن نعيش في مثل هذا المكان الصغير والبعيد، لا أستطيع أن أصدق أن شيئا مثل هذا يحدث هنا. كنت أعتقد أن هذا المجتمع كان جيدا، لكن الآن في كل مرة أسمع فيها كلمة الدولة أشعر بالخوف”.

بعد مرور عشرة أشهر، أصبح يغطي حقول فويو الغنية مجمع عملاق باسم “مجمع التجارة والتداول لقطع السيارات لعموم آسيا”، وهو مجمع لآلاف المستودعات التي سيتم افتتاحها في أيلول (سبتمبر). ويعد جزءا من خطة حكومة كونمينج لنقل 14 من أسواق الجملة بعيدا عن المدينة، رغم معارضة التجار الانتقال مسافة ساعتين عن أي مركز سكاني رئيسي.

ويعد المشروع واحدا من أكبر 100 مشروع لمقاطعة يونان، وفقا لموقع خدمات الاتصالات “زي ستون”. وعملت احتجاجات القرويين في فويو بشأن التعويضات على تأخير تنفيذ مشروع بتكلفة ثمانية مليارات رنمينبي (1.3 مليار دولار) لعدة سنوات، بحسب ما يقول مدير مبيعات لدى زي ستون. “لكن الآن تم حل هذه المشكلة”.