IMLebanon

جواد بولس: الجهود المبذولة لنقل المجتمعات من حضارة الى أخرى لن تنجح أبداً

jawad-boulos

 

اعتبر النائب جواد بولس أنه تكوّنَتْ نظرةُ عند رجل الدولة والمؤرخ جواد بولس إلى الأمةِ اللبنانية عبرَ تَتَبُّعِه التجربةَ التاريخيةَ وإِخْضاعِها في الوقتِ نفسِه للتحليلِ العقلانيِّ الدقيق، وقال: “من هنا ثَبُتَ لديه أن لبنان من أقدمِ بلدانِ العالمِ، شكَّلَ تاريخيا وِحْدةً جغرافيةً واقتصادية وحضارية متميزةً عن محيطِه جعلَتْه ذا كينونةٍ ثابتةٍ على مدى التاريخ”.

بولس، وفي كلمة خلال أطلاق مؤسسة سيمون بولس “جذور” الموقع الالكتروني الخاص برجل الدولة والمؤرخ الاهدني الاستاذ جواد بولس، خلال حفل عشاء اقيم في منتجع “كاونتري كلوب في اهدن، أضاف: “رفض مقولةَ أنَّ لبنانَ بلدٌ مُصْطَنَعٌ ومِن انتاجِ اتفاقيةِ سايكس بيكو التي لم يُنكِرْ أنها رسمَتْ حدودَ لبنان الكبير، لكنه لم يَرَ في ذلك عيبا معتبراً أنها أعادَتْ البلدَ اللبنانيَّ إلى حدودِه الطبيعية، فَهَلْ مِنْ بلدٍ عريقٍ في العالم لم يَشْهَدْ تغيُّراتٍ في حدودِه – أيطاليا والنمسا وسويسرا وفرنسا نفسها مثلا؟، ولذلك كان يهزَأُ منَ الذين يشيرون إلى الخريطةِ ليؤكدوا أنَّ لبنانَ سُلِخَ من سوريا، وأنَّ وضْعَه هو وضعٌ استثنائيّ. وأمامَنا أمثلة على ذلك. فليستِ البرتغالُ جِزْءا من اسبانيا وإنْ كانَتِ الجغرافيا جعَلَتْهُما شريكتَيْن في شبه الجزيرة الإيبيرية، وكذلك ليست الشيلي جزءاً من الارجتنين”.

وتابع: “في مُوازاةِ هذا الاساسِ التاريخيِّ، رأى جواد بولس أساسا آخر تُرْسَى عليه الأمَّةُ اللبنانيةُ، ليس في تَشَارُكِ أبنائِه أرضاً واحدة ولا في وِحدةِ لُغتِهم أو الانتماءِ الإِتْنِيِّ. ولم يَرَ هذا الأساسَ بالطبعِ في  الانتماءِ إلى الدينِ الواحدِ مؤكِّداً أَنَّ وِحدةَ الدينِ ليسَتْ عنصراً فعّالاً في وحدةِ الأوطان. هذا الأساسُ رآه في “الميثاقِ الضمنيِّ” بينَ مُختلَفِ أديانِ الوطنِ ومذاهبِه. وأياً تكُنْ تسمِيةُ هذا الميثاقِ فهو يتطابقُ معْ مفهومِ الأمةِ المعاصِر، حيثُ تَرْتَضي الجماعاتُ التي تَشْترِكُ في اللغةِ والثقافةِ والمصالحِ أَنْ تَضَعَ خلافاتِها جانباً لتعيشَ معاً مُتعاوِنةً في إطارِ الوطنِ وفي ظِلِّ الدولة. أُكرِّرُ في إطار الوطن وفي ظلّ الدولة”.

وقال بولس: “لم يَفُتْهُ طبعاً ولم يُنْكِرْ أَنَّ الجماعاتِ الطائفيةَ اصْطدَمَتْ في الماضي فيما بينَها في نِزاعاتٍ داخليّةٍ عَوَّقَتْ تَقَدُّمَ الوطنِ اللبنانيّ. لكنْ أيُّ بلدٍ في العالمِ يُمْكِنُه أَنْ يُفاخِرَ بأَنَّه لَمْ يَشْهَدِ اقْتتالاتٍ داخليّةً أَخَوِيَّة؟، وكان يرى أَنَّه لا يَنْبغي أَنْ يَلْتبِسَ الأمْرُ حولَ طبيعةِ هذه النزاعاتِ الطائفيةِ التي تُحَرِّكُ بعضَ الجماعاتِ مِنْ حينٍ إلى حينٍ في لبنان. فهي ليسَتْ عوارِضَ مرضٍ حقيقيٍّ وعميق، إنما هي، في نظرةٍ موضوعيةٍ وعاقلة، حركاتٌ سطحيةٌ مُصطَنَعةٌ يفتعِلُها محرِّضون اختصاصيون- محرضون اختصاصيون- يَتلطَّوْنَ وراءَ الدينِ لِتحقيقِ مصالحِهم الخاصَّة. والدليلُ أَنَّ المسألةَ الطائفيةَ لا تطفو على السطحِ إلا عندَ توزيعِ الوظائفِ والمَناصِبِ والأموالِ العامَّة. وهذا ما يَفْرِضُ إقامّةَ المُعادَلةِ الطائفية، ليسَ دفاعاً عن المُعتقداتِ والمُمارساتِ الدينيةِ التي لا يُمكِنُ أَنْ تكونَ موضوعَ جدَلٍ، بل لأنها، في غيابِ الأحزابِ المنظمة، تؤمِّن الحريةَ والعدالةَ السياسِيّتَيْن، مُقيمَةً التَّوازنَ بينَ الطوائف”.

وأشار الى أن “اليومُ هو مِثلُ البارحةِ والغدِ، والأَطماعُ الخارجيّةُ والنزاعاتُ الدولية، وموقعُ لبنانَ الجغرافي، وطَبْعُ سكّانِه الحُرِّ وتعقيدُ نزاعاتِهم المُتشابِكة، وأخيراً الجهودُ المشتركةُ والمستمرَّة، الضروريةُ لدَعْمِ استمرارِ الكِيان، هذه الأمورُ كلُّها تفرض دوماً على اللبنانيين الوحدةَ في الحِكمةِ والتسامُح”.

وتابع بولس: “رأى جواد بولس أَنَّ السياسةَ الرشيدةَ هي نتيجةُ الاخْتِبار، وما اختبارُ الفردِ بشيءٍ يُذْكَرُ بالنسبةِ إلى اختبارِ الكثيرِ من الأجيالِ البشريةِ التي سَبَقَتْنا في هذه الرُّبوع. إنَّ مَنْطِقَ الحياةِ لا يَتوافَقُ دائما مع منطِقِ العقلِ المُجَرَّد. فالتاريخُ هو سياسةُ الماضي، وسياسةُ الحاضرِ هي تاريخُ المستقبل”.

واعتبر أن “هذا المُنطلق، المُسْنَدَ على حقيقةٍ تاريخية، مهمٌّ إن أرَدْنا أن ننظُرَ إلى المستقبل. فكلُّ محاولةٍ لنَقْلِ مجتمعٍ من حُضْنِ حضارةٍ إلى حُضْنِ حضارةٍ أخرى، سيُلاقي الفَشَل، وفي ذلك تحذيرٌ لِمَنْ يعتقدُ أنَّ بإِمكانِه أَخْذَ لبنان وكلِّ الهلالِ الخصيبِ إلى المحيطِ الحضاريِّ لإيرانَ اليوم أو إلى المحيطِ الحضاريّ لِشبه الجزيرةِ العربية، كما أنّ الجُهودَ المبذولةَ لِنَقْلِ المجتمعاتِ من حضارةٍ الى أخرى لن تنجحَ أبداً، والبلدانُ ستَجْتمِع حولَ الدولِ الرَّكيزية. التحدّي الذي يواجهُنا هو أن نتفادى إلحاقَنا بمحاورَ مُماثِلةٍ اليوم، وتلكَ هي الفكرةُ الجوهريةُ لإعلانِ بعبد”.

وشدد بولس على أن الخيارُ الوحيدُ الذي يخدُمُ مصلحتَنا هو التَّجذُرُ في هُوِّيَتِنا اللبنانيةِ معَ الاستفادةِ  مِنْ العطاءاتِ الحضاريةِ لِدُوَلِ الجِوارِ كمصر وتركيا وإيران والحضارةِ العربيةِ المتأصِّلةِ في شبه الجزيرة،  فنصقُلُها كلّها ثمّ نذوِّبُها في شخصيتِنا اللبنانية من دونِ أنْ نذوبَ فيها، مضيفًا “على ضوءِ نزعةِ اللبنانيِّ إلى الحريّةِ والاستقلاليَّةِ يجِبُ النظرُ إلى وضعِ لبنانَ ودورِه في عصرنِا هذا. نحن اليومَ نرى أنّ التَّحديثَ لم يَعُدْ يتطابقُ مع الغربنة، ولا هو يُؤدّي الى تغريبِ المجتمعاتِ اللاغربيّة، وبالتالي لا يُمْكِنُ لبنانَ التقولبث بِقَالَبِ الغربِ المُرْتكِزِ على الفَرْدانيّةِ والعلْمنة، بل عليه تطويرُ نَموذَجِه الخاصِّ المُسْتنِدِ على تجربتِه التاريخيةِ في المنطقة”.

وقال: “نحن، أيها السادة، وراءَ هذه الفكرةِ المُدهِشةِ، خصوصاً وأنها ليسَتْ جديدةً، بل هي قديمةٌ مِنْ عمرِ جبالِ لبنان. مِنْ عمرِ أقدمِ شجرةِ أرز، مِنْ عمرِ الحضارةِ في هذا الشرقِ الروحانيّ. فكرةُ أنَّ الجماعاتِ المتديّنةَ قادرةٌ على العيشِ معاً بِموجَبِ ميثاقٍ سياسيٍّ لا يَحولُ دونَ تأكيدِها الهُوِّيَةَ الطائفيةَ لِكُلٍّ منها، حتى ضمنَ الحقلِ العام، لكنَّها تسمحُ أيضاً بتحقيقِ المساواةِ فيما بَيْنَها، لأنَّها توافقَتْ على توزيعِ اللامساواةِ بِالتَّساوي بناءً على اتفاقٍ مُشترَكٍ وليس إكراهاً. بالتوافقِ وليسَ بالإكراه. قد تكونُ هذه الفكرةُ، بقدرِ ما كانَتْ عليه الأبجدية، هديَّتَنا الى عالَمِ اليوم”.

وأضاف بولس: “يَشْهَدُ الإسلامُ اليومَ أَوْجَ توسُّعِهِ الديموغرافي مع ما يترتّبُ على ذلكَ مِنْ عواقبَ مُخِلَّةٍ بالاستقرارِ في الدولِ المسلمةِ وجيرانِها. قد يميلُ بعضُ المفكرين الجغراسياسيين الى الاعتقادِ أَنَّ مواجهةَ هذا التوسُّعِ هو بالتحفيزِ على زَجِّ الفُرْقَةِ بينَ مذاهبِه وزجِّ عناصرِه المتطرّفَةِ في حروبٍ دينيةٍ تُفْضي إلى تدمير قوّتِه. أقولُ للسنّةِ والشيعةِ في لبنانَ إِنّهُم في حال انغَمَسوا في هذه اللعبةِ سيخسرون جميعاً. سيتقاتلون وصولاً إلى التعبِ والإنهاكِ والإفلاس. وإن كانت هذه هيَ الحال، أعتقِدُ أنّ للطوائفِ غيرِ المسلمة، الى جانبِ كونِها شاهدةً على إيمانِها، دوراً مُهمّاً تلعبُه في سياقِ مواجهةِ صعودِ التياراتِ الدينيّةِ المتطرّفةِ وأحزابها، وذلك للمحافظةِ على العيشِ المشترَكِ الذي لا يمكنُها أَنْ تَضْمَنَ استمراريَّتَها بدونِه. العيشُ المشتركُ هو كابوسُ الأوصوليين  ولكنّه أيضا كابوسُ أولئِك الراغبين في إشعالِ الفِتَنِ بينَ مختلَفِ أجناسِ المتطرفين الدينيّين لأنّهم يَرَوْنَ في ذلك خَطَأً، حمايةً لأَنفُسِهِم”.

واشار الى أن “إِستمرارُ لبنانَ رَهْنٌ بتأكيدِ اللبنانيين هُوِّيتَهم اللبنانية. لا يعني ذلك العُدولَ عن هُوِّيَتِهم العربيةِ كما قد يعتقدُ البعضُ، بل العمل على استيعابِها، وليسَ مِنْ خلالِ رفضِ التأثيرِ الفارسيِّ كما قد يرغبُ فيه البعض، بلْ مِنْ خلالِ دَمْجِه. وليسَ بإدارةِ ظهرِنا لِلْغَرْبِ المُرتَبِكِ، بل بالسَّماحِ لتأثيراتِه الثقافيةِ بالتَّسَرُّبِ عَبْرَنا كالتيّارِ الذي يَعبُرُ المياهَ فَنَنْتَقي مِنْه ما يُغذّينا ونَدَعُ أوساخَه تنجرِفُ في المياه”.

ورأى بولس أن التحدّي الذي نواجهُه للتعبيرِ عَنْ هُوِّيَتِنا الثقافيةِ كَلُبنانيين على اختلافِ طوائفِنا، هو أَنْ نُحِبَّ ما نحنُ عليه مِنْ دونِ أنْ نكرهَ ما لَسْنا عليه. ففي حينِ يمكنُ لِكلِّ فَرْدٍ التشديدُ على عناصرِ هويتِه الثقافيةِ الأكثرِ التِحاماً بمعتقداتِه، يجبُ أنْ نَفْهَمَ أن هويتَه تَشتملُ على عناصرَ ملتحِمةٍ بالقَدْرِ نَفْسِه بمُعْتَقَداتِ الطوائفِ الأخرى”.

وأضاف: “إنَّ غايةَ هذا الموقعِ الالكترونيّ هو إعادةُ نشرِ فكرِ هذا الرجلِ المميَّز الذي واكبَ الأَحداثَ الكبرى في عصرِه مُنْذُ ما قبلَ الاستقلالِ ولغايةِ وفاتِه العامَ 1982، وذلك بُغْيَةَ وَضْعِ هذا الفكرِ وطروحاتِه أمامَ الأجيالِ الصاعدةِ. هذا الفكرُ القائلُ عن ثِقةٍ بأنَّ لبنانَ هو الأساسُ والباقي هو المُتحَرِّكُ، وبأنّ لدى لبنانَ الكثيرَ لِيُقدِّمَه للمنطقةِ، والساعي إلى ضَرْبِ ونَقْضِ الفكرةِ الموهومةِ أو المقصودةِ عن سوءِ نيّةٍ، القائلةِ بأنّ لبنانَ هو مُصْطَنَعٌ أو ساحةٌ أو أرضٌ سائبةٌ أو وطنٌ بالصدفةِ والباقي هو الأساسُ، والتي بها يُحاولون حَشْوَ عقولِ أَبْناءِ وأجيالِ هذه الأيام”.

وختم: “ما كانَ هذا الموقعُ ليُبْصِرَ النورَ لولا المساهَمَةُ السخيّةُ مِنَ السَّيِّد إدمون أبشي. عندما اتَّصلْتُ بإدمون لأَشكرَه على الهِبةِ التي تقدَّمَ بها سابقاً لتمويلِ مشروعِ ترميمِ ضريحِ يوسف بك كرم وتمثال البطريرك الدويهي، تحدّاني لِأَختبِرَ استعدادَه للالتزامِ بتمويلِ أيِّ مشروعٍ له علاقةٌ بالحِفاظِ على تاريخِ وتراثِ إهدن، بلدتِنا الحبيبة. ففعلت. وكانتِ النتيجةُ دعمَه السريعَ والسَّخِيَّ وغيرَ المشروطِ وغيرَ المحدودِ لهذا المشروع. أودُّ أنْ أُعْرِبَ عن امْتِناني لهذا الرجلِ الإستثنائيِّ الذي لم يبتعدْ عن جُذورِ أجدادِه والذي بَقِيَ وفياً للقِيَمِ التي صَنَعَتْ قوةَ الموارنة، ألا وهي الإيمانُ، صلابةُ الشخصية، الإلتزام، تَثْمينُ الحريةِ، حُبُّ الأرضِ، التعلُّق بالهوية، وحدةُ الهدفِ وسخاءُ القلبِ والروح. لِيُبارِكْه اللهُ وَلْيُكْثِر مِنْ أَمْثالِهِ.

أَشكرُ لكُم جميعاً حُضورَكُم، وأخص بالشكر فخامة الرئيس، وأهلاً وسهلاً بِكم في ديارِكُم في إهدن!”.

 

وكان أيضا من المشاركين في الإحتفال الوزر السابق شارل رزق.. للإطلاع على الخبر اضغط هنا