IMLebanon

الدولة “تضرب” ملاّحات أنفة بحجة الأملاك البحرية

Enfe-salinas-Salt
انه الفصل الأخير من مسلسل “القضاء على الإنتاج اللبناني للملح”، تشهده شواطئ الكورة شمال لبنان، لا سيما بلدة “الذهب الأبيض” أنفة، الأشهر تاريخياً في إنتاجها للملح، والتي تعتبر من آخر المناطق التي تنتجه. لم يكن يعلم المواطن حافظ جريج، أنه سيحمل من بيروت الى أنفة آخر مسامير النعش المجهز لدفن ملاّحات بلدته. فبعد أن توجه جريج إلى مبنى وزارة الأشغال العامة، للإستحصال على رخصة ترميم لأجران الملح التي ضربتها العواصف البحرية، فوجئ بإمتناع الوزارة عن منحه الترخيص، بحجة أن جميع ملاحات البلدة تمثل تعديات على الأملاك البحرية، وعليه فقد صدر قرار بإلغائها ومنع إنتاج الملح فيها.

هكذا ومن دون سابق انذار، تبلغ أصحاب الملاحات بقرار منعهم من ترميم وصيانة ملاحاتهم، وبالتالي منعهم من انتاج الملح الذي يعتبر مصدر رزق لأكثر من 15 عائلة في البلدة، بعد أن كانت البلدة وجوارها يعتاشون من هذا القطاع قبل “محاربته”، بحسب جريج، الذي اعتبر في حديثه لـ “المدن” أن الملاحات لا تعتبر تعديات بالمعنى الذي يؤدي إلى إلغائها او ازالتها، وذلك لأنها تعمل بناءً على نظام خاص بها في وزارة المالية، يستحصل من خلاله أصحاب الملاحات على رخصة تتجدد سنوياً منذ العام 1952، إلا أن هذا القرار يأتي متمماً لسلسلة قرارات ساهمت في ضرب ومحاربة قطاع إنتاج الملح في لبنان منذ التسعينيات وحتى اليوم، إفساحا في المجال امام الإستثمار السياحي لشاطئ أنفة.

قمع إنتاج الملح تاريخياً

معانات العاملين في قطاع انتاج الملح، لا سيما أبناء منطقة الكورة، تمتد إلى ما قبل التسعينيات، حيث شهدت الحقبة العثمانية التي مرت على لبنان قمعاً عنيفاً للقطاع، حين منع الجيش التركي الاهالي من العمل على استخراج الملح وبيعه، وذلك لصالح بسط هيمنة الشركات التركية المنتجة للملح على الأسواق المحلية، بحسب ما تظهره وثائق تاريخية محفوظة في مكتبة هيئة حماية البيئة والتراث في الكورة. وامتدت معاناة هذا القطاع الى حقبة الإنتداب الفرنسي، للأسباب نفسها، ومنع انتاجها محلياً من أجل تنشيط حركة التصدير من فرنسا. ومع ذلك حافظ أبناء الكورة على تراثهم وعملوا بشكل سري أيضاً في انتاج الملح وتجارته.
مع إعلان إستقلال لبنان شهد القطاع عصره الذهبي، والذي امتد حتى التسعينيات، فبلغت مساحة الملاحات في أنفه أكثر من مليوني متر مكعب، وكانت العنصر الأساسي الذي ساهم في نهضة البلدة وجوارها من مختلف النواحي الإقتصادية والإجتماعية والتراثية، وكانت المورد الأساسي والأول للبلدة وأبنائها، إلى أن بدأ غزو الشاطئ بالمشاريع السياحية التي أغرت عدداً كبيراً من أصحاب الملّاحات ودفعتهم للتخلي عنها، مقابل المشاريع السياحية التي تؤمن مردوداً أعلى وأسرع، كل ذلك بالتزامن مع قرارات حكومية ساهمت في ضرب القطاع.

إهمال حكومي لقطاع انتاج الملح

في السياق، يشرح أمين سر هيئة حماية البيئة والتراث في الكورة، جرجي ساسين، لـ”المدن” كيف ساهم قرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة القاضي برفع الضرائب عن مستوردي الملح المصري، بضرب قطاع انتاج الملح اللبناني الذي كان يغطي ثلاثة أرباع حاجة السوق المحلية. فقد ادى هذا القرار إلى تشجيع المستثمرين على الاستيراد بدل من الانتاج، الذي بات أكثر كلفة من الإستيراد، نظراً لارتفاع أجرة اليد العاملة، وتكلفة الترميم السنوية لأجران الملاحات، إضافة الى تردي الإنتاج في الملاحات القريبة من مصانع شركات “الترابة” بسبب التلوث الناتج عن تلك المصانع.

بالمقابل وبحسب ساسين، فإن قطاع انتاج الملح لم يتم التعامل معه كما حصل مع باقي القطاعات الإنتاجية التي رفعت الضريبة عن إستيرادها، حيث لم يتم دعم هذا القطاع او التعويض على العاملين فيه مقابل الإعفاء الضريبي عن الإستيراد، وهو ما أثر على الإنتاج المحلي. كذلك عبر ساسين عن قلقه من تضارب القرارات بين الوزارات في ما يخص التعاطي مع ملاحات أنفة، ففي حين تمتنع وزارة الأشغال عن منح تراخيص الترميم لأصحاب الملاحات، ما زالت وزارة المالية تمنح تراخيص العمل في تلك الملاحات، وقد كان لافتاً توقفها في الفترة الماضية عن تلقي بدلٍ عن “إشغال أملاك عامة” كانت تطلبه من اصحاب الملاحات، وهو ما يثير الشك حول ما إذا كانت هذه الخطوة تمهيداً لنزع الشرعية عن عمل تلك الملاحات، وبالتالي إيقافها.

الترخيص الممنوح من قبل وزارة المالية للعمل في الملاحات، يستند الى “ضرورة حماية هذه الملاحات وتنظيمها كما سائر ملاحات حوض البحر المتوسط، في شكل يؤمن استمراريتها لتحسين انتاجيتها ودراسة بيئتها، بموجب معاهدة رمسار الدولية”، وهو ما يتوافق مع مشاريع دعمتها وزارة البيئة لإدراج ملاحات أنفة على لائحة المحميات الطبيعية المشمولة في “معاهدة رمسار”، التي تهدف الى صون المناطق الرطبة ذات التنوع البيولوجي حمايتها، الأمر الذي يتناقض مع قرارات وزارة الأشغال العامة اليوم التي تتوعد بإقفال تلك الملاحات ومنع العمل فيها أو ترميمها.

ثورة الملح

يضيع مستقبل ملاحات أنفة، مع تضارب قرارات الوزارات وإجراءاتها، وها هو القطاع مهدد بالزوال بعد أن باتت آخر المناطق المعنية بالإنتاج مهددة بالزوال هي أيضاً. هذا الواقع دفع بالمواطن حافظ جريج للإعلان عن إطلاق “ثورة الملح” في وجه من أسماهم أصحاب “المشاريع المفترسة”، وسماسرة الواجهة البحرية الذين يقفون خلف الضغط الممارس من أجل إيقاف عمل الملاحات واستبدالها بمشاريع سياحية على حساب التاريخ والتراث وأرزاق الناس. ويتساءل جريج حول ما “إن كان ما يقولونه في وزارة الأشغال صحيحاً، ألا يوجد تعديات على الأملاك البحرية أفظع من هذه الملاحات؟”، ويؤكد على انه لن يقبل بأن تكون الملاحات “كبش فداءٍ للأملاك البحرية، وإن كان لا بد من تنفيذ القرار فلتكن الملاحات آخر ما يتم إزالته من تعديات، وإلا فليلغى القرار”.
وأعلن جريج أنه يتم التحضير حالياً لرفع تقرير رسمي يحمل مطالب أصحاب الملاحات الى وزارات الأشغال، البيئة، الثقافة، الاقتصاد، السياحة، مطالباً بمواكبة إعلامية تساهم في لفت نظر الرأي العام الى هذه “الجريمة” التي ترتكب بحق بلدة أنفة وتراثها، والمساهمة في إنقاذ قطاع انتاج الملح في لبنان من الإندثار.