IMLebanon

السلطة تحاسب المجتمع المدني… وتتناسى دوره في التنمية

BAU-Seminar
خضر حسان

تقوم سياسات التنمية على بنود عديدة تجدها الدولة مناسبة لبلوغ أعلى درجات سلّم نقل المجتمع من حالة الحاجة والحرمان، الى حالة تأمين الحاجات، وأحياناً تحقيق الفائض. الا ان الوصول الى هذه المرحلة، يتطلب سياسات واضحة وفعالة، وهذا ما يغيب عن معظم دول العالم الثالث، ومنها لبنان. إذ ان سياسات التنمية اللبنانية لا تقوم على دراسة السوق ومراقبة مطالب الناس وحاجاتهم، لأن انتاج السياسات ينطلق من تأمين المصالح الشخصية لزعامات طائفية وسياسية. وتنفيذ هذه السياسات تحكمه ضرورات إنتخابية، تخضع بموجبها التنمية للمحاصصات، وتتفوق منطقة على أخرى وفق الدعم السياسي – الطائفي الذي تتلقاه تلك المنطقة. وعليه، ليس من المستغرب ان لا تهتم الدولة اللبنانية بالمرافق العامة كأساس لعملية التنمية الصحيحة والموحدة في كل المناطق، بل تهتم بالمؤسسات الخاصة التي تدعم المجتمع المناطقي الطائفي، وليس المجتمع اللبناني ككل. ولا يمكن نسيان تهميش الدولة لبعض مناطق الأطراف، وتصويرها كأنها مراتع للفساد والجريمة، كمناطق البقاع، بعلبك وعرسال، على سبيل المثال.

من رحم الواقع، يصبح من الطبيعي ولادة حالات اعتراضية تحاول إعادة تصويب عملية التنمية كعنوان عريض لسد حاجات المجتمع. فتبرز قضايا التعليم والطبابة والعمل ودعم المزارعين وحماية الانتاج المحلي… وما الى ذلك. وحالات الاعتراض هذه تكون عبر قنوات تسمى المجتمع المدني، ويكون المجتمع المدني منظماً وواعياً لمطالبه وخطواته، على قدر ما تسمح به الحياة السياسية في أي بلد، ومن الطبيعي ايضاً ان يُصبغ هذا المجتمع بصباغ السلطة السياسية الموجودة، التي غالباً ما تفرز مجتمعاً مدنياً على شاكلتها، لحماية مصالحها، بإسم فئات الشعب، ويكون هذا المجتمع المصبوغ، المحارب الشرس للمجتمع المدني الشعبي الحقيقي. ووجود مجتمع مدني حقيقي يضغط على السلطة السياسية من جهة، ويحتمي من هجمات المجتمع المدني الزائف من جهة أخرى، يؤثر سلباً على المطالب الشعبية، وعلى تحقيق التنمية، كهدف أبعد، لأن الصراع الشعبي – الشعبي، يحمي السلطة ويطلق العنان لإستمرار سياساتها اللاتنموية.

علاقة المجتمع المدني بالتنمية ليست علاقة تنفيذ سياسات محددة، بل علاقة مراقب يهدف الى تصويب المسار، وذلك عن طريق تشكيل “لوبي” يضغط على السلطة الرسمية التي تملك وحدها آليات وضع الخطط وتنفيذها، حتى وان امتلك المجتمع المدني لبعض الخبرات، الا انه لا يحل بأي شكل من الاشكال محل الدولة. ولكن في لبنان، إستقالت الدولة من واجبها، وتعاظمت الإستقالة مع انتشار عمل المجتمع المدني المحلي والعالمي، في مناطق الأطراف، وباتت مشاريع الجمعيات والمؤسسات المدنية، تلبي حاجات السكان أكثر من مشاريع الدولة. فكان الاتجاه الى تفعيل دور المجتمع المدني ليحقق مستويات التنمية التي عجزت الدولة عن تحقيقها.

دور المجتمع المدني اللبناني، وبرغم انجازاته، الا انه لم يصل الى مرحلة تحديد الأولويات وخطط العمل المنظم. لكنه إكتسب الكثير من الخبرة في خضم مطالبة الدولة بإيجاد حل لأزمة النفايات. لكن الدولة بكل أجهزتها الرسمية وغير الرسمية، حاولت الإلتفاف عليه والإستمرار في تمرير المحاصصات، حتى في أزمة النفايات.

وبعيداً من الخطط المشبوهة التي عرضتها الدولة، الا ان المجتمع المدني الذي بدأ يشكل نواة وعيه الجماعي، أسقط محاولات الإلتفاف، فكان رد الدولة أمنياً وسياسياً حيناً، ونفسياً أحياناً، عبر القمع الوحشي للمتظاهرين واتهامهم بالإرتباطات الخارجية، وصولاً الى اعلان فشل الحراك الشعبي من خلال مؤتمرات وندوات تنظمها جمعيات وجهات وأحزاب تابعة بشكل أو بآخر للسلطة السياسية. وللغاية نفسها، نظمت “جامعة بيروت العربية” ندوة بعنوان “دور المجتمع المدني وتأثيره في التنمية”، الا ان الندوة لم تتناول بأي شكل من الأشكال موضوع التنمية، بل تناولت الحراك الشعبي عبر توجيه السهام إليه، واعتباره غير منظم وفوضوي ولم يقدم شيئاً في سبيل حل ازمة النفايات… وغير ذلك. ولم يوجه أصحاب الدعوة والمتحدثون في الندوة، اي إشارة الى مسؤولية الدولة، بل ورد ذلك بطريقة سطحية تفيد بأن على الدولة ايجاد حلول وان هناك ازمات سياسية تحكم البلاد. فإستضافت الندوة ممثلين عن وزارة الزراعة والداخلية وبحضور وشخصيات أخرى منها رئيسة حزب الخضر في لبنان ندى زعرور، والتي سلطّ المنظمون الضوء على قضية طردها من وزارة البيئة، من قبل شبّان الحراك الشعبي، خلال اعتصامهم في الوزارة للمطالبة بإستقالة وزير البيئة محمد المشنوق، ليتحول الموضوع إيّاه الى نقطة نقاش من طرف واحد، دون الاستماع الى وجهة نظر الشبّان الذين طردوها، علماً ان الطرد يومها جاء على خلفية دخول زعرور وحديثها مع الشبان، عبر طريق وزارة البيئة، وبالتالي فإنها أتت من خلفية السلطة وليس من خلفية الحراك. وقد أوضِحت هذه النقطة حينها.

إضافة الى ذلك، مَنَع المنظمون أي كلمات توجه الى السلطة وتسألها عن سياساتها تجاه النفايات والكهرباء والقضايا المعيشية، وكان تصويب المنظمين على ان المجتمع المدني لا يجب ان يتدخل في السياسة، حتى وصل مستوى القمع لديهم، الى الاستعانة برجال الأمن التابعين للجامعة، لإسكات الطلاب – الحضور الذين يوجهون اتهامهم للدولة بوصفها المسؤولة عن وضع الخطط ورعاية شؤون اللبنانيين، كما ان أمن الجامعة، بناءً على طلب المنظمين، حاول إخراج مراسل “المدن” من الندوة، وتحويل النقاش الى ردّ على الإستفسارات بأسلوب شخصي، وليس بناءً على وقائع ملموسة في ملف النفايات وغيره. ولدى سؤال “المدن” عن طريقة التعاطي الأمنية تلك، أصر رجال الأمن على “الحديث” خارج قاعة الندوة، ووقف النقاش.

بعيداً من ذلك، تناسى المنظمون ان موضوع نقاشهم يرتبط بالتنمية، والتي لا ينفصل الجانب السياسي عنها، لأن تحقيقها يتم عبر سياسات تضعها الحكومة. كما ان قياس معدلات التنمية في اي بلد، يتضمن النظر الى المستوى التعليمي ومستوى الحريات ودور المرأة والمشاركة السياسية… وغيرها، ومراقبة هذه العملية من قبل المجتمع المدني، تفترض حكماً تعاطي المجتمع المدني بالسياسة، حتى وان لم يهدف الى استلام السلطة، وهنا بالذات ينفصل هدف المجتمع المدني عن هدف الأحزاب، الذين يشكلون قبل وصولهم الى السلطة جزءاً من المجتمع المدني.

الأمثلة كثيرة على ارتباط المجتمع المدني بالسياسة، فحملة مكافحة الفساد الغذائي التي يلعب المجتمع المدني دوراً اساسياً فيها، تسهم في الحفاظ على مستوى الصحة في لبنان، وبالتالي الحفاظ على معدلات التنمية المرتفعة، وهذا الفعل، يتم عبر التنسيق بين المجتمع المدني والوزارات المعنية، اي السلطة السياسية، ولأجل الحد من الفساد الغذائي، تصدر الوزارات او الحكومة احياناً، مراسيم وقرارات بهذا الشأن، أي ان دور المجتمع المدني لامس جانباً سياسياً واضحاً. وأيضاً، فإن “ضغط المجتمع المدني تمظهر في هيئة التنسيق النقابية، ويتمظهر في العمل النقابي، وهذا المجال هو في صلب العمل السياسي، فهيئة التنسيق التي رفعت مطلب سلسلة الرتب والرواتب، تريد اقرار قوانين تضمن السلسلة، وهذا عمل سياسي، لا يفترض بالضرورة استلام هيئة التنسيق للسلطة تحت غطاء السلسلة. وعليه، فإن عمل المجتمع المدني يكون في كل حقول العمل الجماهيري”، وفق أمين عام اتحاد الشباب الديمقراطي أيمن مروة، والذي يشير في حديث لـ “المدن”، الى ان “المجتمع المدني كان حاضراً في العمل المطلبي والعمل المقاوم، ومن الطبيعي ارتباط عمله بالجانب السياسي. فتغيير قانون الانتخاب، والمطالبة بحق المرأة بإعطاء جنسيتها لأولادها وخفض سن الإقتراع الى 18 سنة، هو في صلب العمل السياسي للمجتمع المدني”.

ظهور المجتمع المدني بشكل فعال في الآونة الأخيرة وإصراره على شق طريقه وسط فئوية السلطة وتهميشها للقضايا المطلبية، دفع بالسلطة وبالمجتمع المدني على حد سواء الى البحث الجدي في هوية ودور المجتمع المدني. الا ان السلطة لن ترضى بأن يكون هناك هوية واضحة للمجتمع المدني، لأن من شأن ذلك ان يوسّع دائرة المحاسبة ومراقبة تنفيذ السياسات، بهدف تحقيق تنمية متوازنة وحقيقية في كل المناطق اللبنانية. ويبدو ان دور المجتمع المدني، مازال مجهولاً حتى بالنسبة لكثير من الباحثين والأكاديميين والسياسيين، الذين يريدون “قولبة” المفهوم الواسع للمجتمع المدني، وحصر دوره في الإعتراض غير المجدي على سياسات السلطة. ليكون المجتمع المدني حينها، بوقاً إما بخدمة السلطة، وإما صوتاً غير مسموع.