IMLebanon

يسوع يسأل: أين المغارة؟ (نجوى جرداق وجان حدشيتي)

christmas-creche

 

نجوى جرداق وجان حدشيتي

 

عاصفة هوجاء، صقيع، ثلج وريح. إنها البداية والنهاية، لا صوت يعلو فوق صوت العاصفة. إنه الخوف والسلام. هي الدينونة قبل يوم القيامة. البشر يدينون أنفسهم، الطبيعة غاضبة والسماء أعطت الانسان إبنها الوحيد. حباً بالبشر الذين غاب الحب عن قلوبهم وإنطفأ، هؤلاء الذين قتلوا الانبياء والرسل والقديسين. هؤلاء الذين تلذذوا بخيرات الدنيا ولكن على حساب دماء الفقراء والبائسين والمرضى. لهؤلاء ولغيرهم، أرسل الله إبنه الوحيد الذي لم يجد مأوى في هذا الكون، سوى مغارة نائية، باردة، منعزلة… وهنا بدأت القصة.

 

في ملء الزمن الرديء، ولد المخلص

كان الامبراطور أغسطس قيصر هو حاكم الامبراطورية الرومانية الواسعة، وفي يوم من الأيام أمر بإجراء تعداد لكل سكان الامبراطورية وذلك بأن يسجل كل شخص اسمه في المدينة التي ولد فيها.

وكانت أرض فلسطين من ضمن الامبراطورية الرومانية، فسافر يوسف النجار مع مريم العذراء الى بيت لحم ليسجل اسمه فيها وكانت العذراء حبلى. فأرهقها السفر جدا. وذهبا ليبحثا عن مكان ليبيتا فيه، ولكن من شدة الزحمة، لم يجدا أي غرفة في أي فندق. وظلا يسألان اصحاب الفنادق طوال الليل الى ان عرض عليهما صاحب فندق ان يبيتا في المغارة المخصصة لحيواناته.

ورغم سوء المكان لم يجد يوسف النجار ومريم العذراء حلا آخر، فوافقا، وخصوصا بعد ان شعرت العذراء بآلام الولادة، وفي هذا المكان ولدت العذراء الطفل يسوع ووضعته في المذود…

في مغارة ولدت يا ربّ المكان والزمان. مع البهائم والبقر والخراف والطيور ولدت. ولكن إذا ما أتيت اليوم لتولد من جديد، فهل تجد في الكون اليوم مغارة تولد فيها؟

 

ليل بارد، وقلوب صلبة، فأين يولد المخلص؟

يا طفل المغارة، لقد غيّرت وجه العالم بحضورك في المغارة، في بيت لحم وفي قلوبنا.

لكننا اليوم لا نعرفك حتى ولو ولدت ألف مرة بعد ألف مرة. فنحن هجرنا تلك المغارة في قلوبنا، وبتنا كما العالم كله، نتجه صوب المظاهر الخارجية، وإبتعدنا عن الداخل، عن نفسنا وروحنا، وعلينا قبل أن نزين العالم أي الخارج، يجب علينا أن نزيّن داخلنا بالفضائل الإلهية. نحن في عيد ميلادك، هجّرنا الحب من قلوبنا، وحوّلنا الصخور المسماة قلوبنا إلى أوثان، نهبط فيها نحو تحقيق ملذاتها فيما النعيم الالهي بنورك نرفضه. إشترينا المغارة والزينة وبعنا من اشترانا بدمه، وهو الآن يبحث عن المغارة في قلوبنا. فهل من يفتح له…؟

 

رموز الميلاد ومعاني العيد وألأنا…

بميلادك يا ربّ، أعدت المصالحة بين الارض والسماء ومحوت الخلاف الذي نشب بين الله والإنسان الذي خالف مشيئة الله.

إن حياتنا القديمة أفسدتها الخطيئة، وحياتنا الجديدة باتت في قلب الخطيئة.

فلا مصالحة مع ذواتنا ولا مع الآخرين ونحن عن سابق إصرار وتصميم نرفض الحب الذي لا ينسجم مع ملذاتنا. ولا تضحية ومصالحة مع الغير ولا رحمة في قلوبنا تجاه الفقير والمحتاج والمريض واليتيم.

جاء طفل المغارة ليعطينا حياة جديدة ونمط حياة جديدة مليئة بالنعمة الإلهية، ونحن رفضنا إستقباله. فيا طفل المغارة، أين ستبيت ليلتك الاولى؟ الا يوجد بيننا من في قلبه رحمة كدفء المزود؟ رجاء لا تعد إلى السماء. فتش مجدداً، علك تجد مغارة؟

 

يسوع يعطينا والعالم…

يا طفل المغارة، كلما إبتعدنا عنك، كما نحن اليوم، كلما أقفلنا بوجهك وبوجه أمك أم البشرية مريم العذراء الابواب، وأخّرنا ولادتك في قلوبنا، وأنت وأمك والبار يوسف تنتظرون ولا من يجيب.

بحق رحمتك، إبق معنا، لا تغادر إلى السماء، الارض تحتاجك، ونحن نناديك بخطايانا. نصرخ إليك ولا ندري، نحن في حالة السقوط العظيم. أنقذنا. فجّر قلوبنا بغضبك ورحمتك. وإبنِ المغارة في قلب كل منا. ورجاء رجاء رجاء، لا تغادر فور إقامتك فيها، لا تغادر المغارة.

 

وكانت مغارة، وكان مسيحيون…

الفرح عمّ الكون بمجراته وسماواته، وأنشد الملائكة نشيدهم الخالد، “المجد لله في الأعالي. وعلى الأرض السلام. وفي الناس المسرة”.

ودَعوا الرعاة أيضا للاشتراك معهم في الفرح، والعذراء فرحت، وعائلة زكريا الكاهن فرحت.

واليوم، لقد رحلوا. رحل المسيحيون بغالبيتهم عن شرقنا المعذب. إنها الحرب، إنها الكراهية. من بقي يعاني، يستشهد ألف مرة إنهم الهدف، هُجّروا، إضهدوا، صلبوا، نُحروا، وباتت بيوتهم شواهد على من كانوا بالأمس القريب ههنا، يصلّون، يدقون أجراسهم، واليوم إنه الصمت، وغضب السماء…

الطفل يبحث عن مغارة يولد فيها. لقد رحلوا يا يسوع، أو رُحّلوا. البيوت فارغة. أدخل، دع المغارة، كل البيوت بإنتظارك، ونجمة المغارة تابعت سفرها، تبحث مع المولود عن موقد متقّد على مدى شرق ظالم قاهر متآمر بارد إضطهد وما زال رسله وقديسيه وأنبياءه… وطفل المغارة.

يا طفل المغارة، أما تعبت من البحث في هذه الليالي الباردة ووسط هذه الرياح. أين المجوس والرعاة وبسطاء القلوب؟ أين هداياهم؟ كيف تركوك؟ أم أنهم تاهوا في الطريق؟ وحده هيرودس مضطرب، وحده يستعد لإستقبالك، ومعه كل أورشليم، ويعد لك إستقبال دم وقتل وتهجير من جديد.

ليلة قاسية يا يسوع، أين الجميع؟ المنازل فارغة من أهلها، ولكن ما بال من تبقى من البشر؟ لما هذه القلوب الصلبة؟ لا حياة فيها ولا دفئا؟ والطفل في الخارج مع أمه مريم وابيه يوسف يبحثون وسط هذه العاصفة الهوجاء. لا بيوت ولا قلوب، فأين يولد المخلص في ليلة الميلاد العظيمة هذه؟

 

يا يسوع، فتّش عن المغارة؟

ها هو الظلام يغطي الأرض، والسواد الكثيف يشمل الأمم. نورك يحيينا، ودفء مغارتك يهدينا، فلا تتعب، فتش عن المغارة.

اليوم سيمر طفل المغارة، أرفع إليك صراخي أيها الطفل الاله، أرفع إليك نفسي. إلـهي عليك توكّلت، فلا يشمَت بي أعدائي. إن رجائي بك كبير يا طفل السماء فلا تخذلني.

الآن وقد اقتربت برهة الولادة، لا مزود معدا لملك السماوات والارض. البرد يقتلنا، لا رحمة في الارض، ظلام وظلم. وحدها رحمتك تبحث عن مسكن. فلا تجد سوى نفوس غارقة بالكبرياء، والشّهوة، والأنانيّة.

“تشجّعوا وارفعوا الرّأس، لأنّ خلاصكم قريب”، هكذا دعتنا رحمة الاله. ولا من يسمعون.

لقد تجسّد إبن الله، وهو إله كامل وإنسان كامل. إتضع ليرفعنا، فتكبرنا وصلبناه، وها نحن اليوم نمنع ولادته، ونسير جنبا إلى جنب مع هيرودس، لنقتل كل طفل، بعد أن قتلنا الطفولة والبراءة في قلوبنا.

فيا رب، لا تتعب، إبحث، علك تجد المغارة…

 

الرحمة اللامتناهية في زمن السقوط العظيم

وظهر مع الملاك جمهور من جُند السماء يُسبِّحون الله ويقولون المجد لله في العُلى وفي الأرض السّلام للحائزين رضاه.

لم يعد هناك خوف لأن الله يحفظنا من كلّ عدو لنا مهما كانت قوّته وجبروته لأننا بهذا السلام دخلنا ملكوت الله ونحن في الأرض. يقول الملك داوود، واذا اصطفّ عليّ جيش فلا يخاف قلبي، وان قامت عليّ حرب فأنا أبقى مطمئنّا”… معك لا نخاف يا يسوع…

وفي الارض السلام، غيّرت وستغير التاريخ، وتقلب كل المعتقدات السابقة القائمة على قوّة السيف وجبروت الجيوش والأمبراطوريات التي كانت تقوم على الحروب والمعارك والغزوات لتبني حضارتها على جماجم البشريّة وسحق الضعفاء وتطبيق شريعة الغاب. معك وحدك سيكون السلام…

إنه زمن الظلمة الحالكة، وفي هذا الزمن وعد الله بارسال “نور لجميع الأمم”. أرسل الله إبنه الوحيد نورا للأمم، والعالم رفض النور، ويهيم فوق متاهات الشر والخطيئة، والطفل يبكي ويفتش عن المغارة.

“هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم”، وبولادته وسط الحملان، أراد أن يوضح لنا من أول لحظة لميلاده في العالم، أنه لم يأتِ لكي يتنعم بالحياة على الأرض، بل لكي يقدم نفسه ذبيحة.

جئت يا يسوع لتقول لنا بولادتك أنك أنت الراعي الصالح.

قناديلنا إنطفأت. قلوبنا أرهقها اليأس والتعب. إفعل بنا ما تشاء. حقق إرادتك فينا. لا تنظر إلى جبال خطايانا ولا إلى قساوة قلوبنا. إجعل قلوبنا مغارة. وشرقنا مغارة. وضع مزودك وخرافك ومجوسك وملائكتك ورعاتك في قلوبنا وشرقنا، لكي نلد من جديد. أمرنا بين يديك، وبين يديك نستودع حياتنا وبلادنا وشرقنا والعالم…