IMLebanon

نصرالله وعون وجعجع.. “تفاهمات” وإقفال ساحات؟

geagea-nasrallah

 

 

كتب المحرر السياسي في صحيفة “السفير”:

لبنان ليس بخير.. والأصح أن لبنان بخطر.

قد يكون الخطر الخارجي قدراً لا مفر منه، سواء أتى من جهة الحدود الجنوبية أو الشرقية، لكن ماذا عن الخطر الداخلي وماذا عن مسؤولية كل لبناني في مواجهة هذا الخطر؟

هذه محاولة لإجراء قراءة سياسية لنتائج الانتخابات البلدية في بيروت وزحلة، تتجاوز الصناديق والأسماء واللوائح، إلى ما يصح تسميتها «الحسابات الطائفية» التي باتت تتحكم بسلوكيات شريحة واسعة من اللبنانيين تحركها العصبيات أو المخاوف في هذا الاتجاه أو ذاك.

خرج سعد الحريري من انتخابات بيروت مأزوماً. يشي خطابه أمس بهذه النتيجة، إلا إذا أراد أن يكابر ولا يقرأ الأرقام، فيتصرف كمنتصر في المراحل الانتخابية التالية، وتحديداً في طرابلس. الأزمة بين الحريري والمكون الشيعي واضحة للعيان. هما، وبرغم حوارهما الثنائي الضروري والمطلوب لتخفيف التوتر المذهبي، يندفعان على سكتين متوازيتين متناقضتي الاتجاهات.. والصدام بينهما كان يمكن أن يكون وارداً في كل لحظة، لولا الحصانة الداخلية المشتركة، مدعومة بمظلة دولية حامية للاستقرار لاعتبارات لبنانية وخارجية!

الأزمة بين الحريري ووليد جنبلاط تكبر ولا نقاش سياسياً بين الطرفين، إلا ما يتصل بملفات عاجلة، معظمها يتصل بمنظومة المصالح والخدمات في الدولة.

الأزمة بين الحريري والمكونات المسيحية صارت واضحة للقريب والبعيد. كل الاستثمار الخليجي لاجتذاب «القوات» على مدى عقد من الزمن، بات من الماضي، إذا قرر سعد الحريري أن لا يغادر مربعين اثنين: استذكار تبني سمير جعجع القانون الانتخابي الأرثوذكسي وعدم تصديق واقعة تبني جعجع ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية.

ما جرى في انتخابات بيروت يشي بأزمة مفتوحة بين الحريري وباقي المكونات المسيحية. يكفي للتدليل على ذلك عدم قدرة الماكينات الحزبية (خصوصاً «التيار» و «القوات» و«الكتائب») في العاصمة على اجتذاب الجمهور الحزبي للتصويت لـ«لائحة البيارتة»، بينما أظهرت الأحزاب الأرمنية كعادتها التزاماً جعلها تمنع تسرب جمهورها باتجاه تأييد لائحة «بيروت مدينتي» أو «لائحة شربل نحاس» بما شكلته هذه أو تلك من تعبير احتجاجي على «خيانة».. «الإبراء المستحيل» أو رفض إسقاط اللوائح من فوق!

أما في زحلة، فإن من يدقق في مجريات الساعات الأربع الأخيرة، يكتشف أن قرع أجراس الكنائس واستنفار الماكينات الحزبية بإشراف مباشر من عون وجعجع، جعل التصويت يتخذ طابعاً طائفياً احتجاجياً ضد محاولة سعد الحريري و «حزب الله» مصادرة القرار الزحلي بذريعة «الوفاء» لورثة إيلي سكاف في المدينة، من دون احتساب مردود هذا التجييش على مستقبل العلاقات بين زحلة والجوار.

لكأن كل طرف يريد أن يحصّن نفسه أو بالأحرى ساحته (الطائفية أو المذهبية). أبلغ سعد الحريري بعض معاونيه كلاماً خطيراً قبل ساعات من إقفال صناديق الاقتراع في بيروت: «إذا سقطت «لائحة البيارتة» أو اختُرقت، سأعتزل العمل السياسي نهائياً». هذا الكلام بلغ مسامع قيادات سياسية أخرى أبرزها الرئيس نبيه بري!

اعتباراً من لحظة صدور نتائج الانتخابات في بيروت وزحلة، صار لزاماً على كل من الحريري و«حزب الله» التعامل مع الوقائع بطريقة مختلفة. صحيح أن «حزب الله» حصد غمار ما يزرعه في «ساحته» (النموذج الأبرز في بعلبك وبريتال)، لكن لم يعد خافياً على أحد أن الحزب يكاد يتمنى لو أنه يعفي نفسه من هذا الاستحقاق الذي يجعل بطون معظم القرى والبلدات والمدن الجنوبية والبقاعية (وبعض جبل لبنان) مفتوحة ومشرعة على نبش أحقاد وعصبيات تتناقض كلياً وتضحيات الحزب الكبيرة وما ينبري له من دور على الصعيد الإقليمي.. ومن يقرأ خطاب السيد حسن نصرالله الأخير، لن يجد صعوبة في قراءة مفردات لم يستخدمها قائد حزبي مثله في أي خطاب من قبل.

من هنا يصح القول إن سعد الحريري يجد نفسه في القانون الانتخابي والاستحقاق الرئاسي والخيار البلدي في مواجهة اصطفاف طائفي (إسلامي ـ مسيحي) يعيد تذكير اللبنانيين بانقساماتهم التي جعلت بلدهم يدفع أثماناً كبيرة من منتصف السبعينيات حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

أما «حزب الله»، فإنه يدفع أثمان «تحالف رباعي» حوّل ميشال عون إلى «تسونامي مسيحي» غير مسبوق في التاريخ السياسي اللبناني منذ الاستقلال حتى ربيع العام 2005، ومن ثم يدفع الحزب على مدى عقد من الزمن أثمان «تفاهم سياسي» مع «الجنرال»، برغم أن كل طرف يمتلك «فاتورة» مختلفة لحسابات الربح والخسارة، وها هو الحزب يدفع في العام 2016 أثمان «تفاهم معراب».

لنقرأ ما كتبه الزميل جان عزيز (مستشار عون) في حسابه الشخصي (الفايسبوك)، أمس الأول: «إذا بالرئاسة في هيدي عين (عون) وهيدي عين (سليمان فرنجية) وبزحلة صار في 3 عيون (ميريام سكاف ونقولا فتوش و «التيار الحر»)، لكن بكرا بانتخابات جزين واصلين على السبع أعين… جنرال، سيد، ما بعرف إذا عارفين. واجبي قلكن إنو سوء التفاهم بألف خير»!

لقيادة «حزب الله» أن تخوض في أبعاد مثل هذه «الرسائل»، وهي التي كانت قد استمعت جيداً الى شكوى تبرع «ممثلو الرابية» بنقلها إليها احتجاجاً على تسمية مرشح لـ «حزب الله» في لائحة «الكتلة الشعبية» في زحلة. نسي «المتبرعون» أن الحزب قرر في الانتخابات البلدية الماضية في العاصمة أن يضحي بمقعده البلدي احتجاجاً على بلوغ مفاوضات انضمام «التيار الحر» الى اللائحة الائتلافية البيروتية.. الحائط المسدود.

في العام 2016، أعفى «التيار» نفسه من مجرد إعطاء «علم وخبر» للحزب. اكتفى «الجنرال» بتفويض سمير جعجع أن يفاوض باسمه «تيار المستقبل» وكان له ما يريده من «حصة»، فيما كان الحريري يجاهر في يوم الانتخابات أن عدم وجود «حزب الله» في «لائحة البيارتة» شكّل قيمة مضافة لها!

هذه «العينة»، ويوجد مثلها العشرات، تكفي للتدليل أن قدرة الرابية على الجمع بين «إعلان النيات» و «تفاهم مار مخايل» هي المعيار والأساس. من حق «الجنرال» أن يستفيد من «متراس معراب» لقطع الطريق رئاسياً على سليمان فرنجية، لكن هل يبرر له ذلك أن «يمون» على ما ليس بمقدور الحزب أن يتحمله لا في ثقافته.. ولا في أدبياته؟

ليس من مصلحة «حزب الله» أن يرفض كل ما من شأنه تمتين الوحدة المسيحية وطي صفحة الماضي بين «القوات» و «الجنرال»، وهو إذا تعامل سلباً مع هذا التطور النوعي في الساحة المسيحية، لكأنه يرفض بذلك طي صفحة الماضي بينه وبين «حركة أمل» بكل ما تسببت به من ندوب وجراح في «البيت الشيعي».

في المقابل، ليس خافياً على أحد أن ثمة انزلاقاً مسيحياً إلى حد الهروب إلى الأمام. عندما تحالف جعجع و «الكتائب» مع آل الحريري، اختفى من قاموس معراب والصيفي مصطلح «الحقوق المسيحية» لمصلحة أمور مختلفة. يسري الأمر نفسه على تفاهم «التيار» و «حزب الله». جرى استثمار «فائض القوة» عند الحليف في كل شاردة وواردة من ضمن جدول الأعمال السياسي المحلي المفتوح منذ عشر سنوات حتى الآن، وكاد الأمر أحياناً يجعل الحزب محرجاً أمام حليفه الذي لا يمكن أن يستغني عنه (نبيه بري) وأمام مؤسسة (الجيش) التي لا يمكن التفريط بحرف واحد من حروف أبجديتها القتالية الاستثنائية، والأمثلة أكثر من أن تحصى وتعد.

برغم ذلك، كان يجري دوماً تكبير المخاوف عند المسيحيين. الاستهداف قائم لدور المسيحيين في المشرق. الأمثلة أكثر من أن تحصى وتعد من القدس إلى بغداد مروراً بسوريا، لكن هل الخطر على المسيحيين في لبنان هو نفسه؟ وفي حالتي الإيجاب أو النفي، كيف تتم مواجهة مثل هذا الخطر؟ هل ثمة إستراتيجية مسيحية موحدة (كنيسة وأحزاباً ومجتمعاً) لمواجهة هذا الخطر، أم أن كل طرف مسيحي يغنّي على مواله، وهل هناك «موال» يمكن أن يتجاوز لعبة السلطة والنفوذ و «المصالح».. إلى حد طرح الإشكاليات المتصلة بالدور المسيحي التاريخي وبعده الوجودي للبنان واللبنانيين لا للمسيحيين وحدهم؟ وهل يدري البعض إسلامياً ومسيحياً أن المضي في استثارة لعبة المخاوف قد يجعل المجموعات الإرهابية المتطرفة في طليعة المستفيدين منها؟

الأسئلة كثيرة أمام اللبنانيين وليس المسيحيين من أجل إزالة المخاوف وتبديدها إذا وُجدت، لكن للأمر شروطاً ومقتضيات، محلياً وإقليمياً ودولياً، أولها أن يتحول المسيحيون إلى صمام أمان بدل استمرار انزياحاتهم وانحيازاتهم مع هذه الكتلة أو ضد تلك الكتلة الطائفية.

ورُب قائل إنه عندما أنجز ميشال عون تفاهمه مع «حزب الله»، كان ينبغي أن ينجز في اليوم التالي تفاهماً مماثلاً مع «المستقبل» (ولو أن هناك من يتذرع بأن المحاولة حصلت ولقيت رفضاً)، وعندما أُنجز «إعلان النوايا» مع سمير جعجع، كان منطقياً أن يبادر «الجنرال» في اليوم التالي الى تبديد هواجس الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في الجبل وأيضاً باقي المكونات المسيحية، وبذلك، تكون مناسبة كالاستحقاق الانتخابي البلدي، ساحة اختبار ليس للقدرة على التحدي وتكبير المخاوف وجعل هذا «التفاهم» أو ذاك موجها ضد الآخرين، بل على تعميم التفاهمات والنيات الحسنة واقتحام كل «الساحات» ومنع استمرار إغلاقها بالأقفال والمخاوف!