IMLebanon

«المضادات الحيوية» لخروج بريطانيا

brexit-gbp
عصام الجردي

حذّر وزراء المال ومحافظو المصارف المركزية في مجموعة الدول السبع في اجتماعهم الأخير في واشنطن، بحثوا فيه ارتدادات خروج المملكة المتحدة من «أن التقلبات الهوجاء في أسواق الصرف يمكن أن تعرض الاستقرار المالي والاقتصاد العالمي للمخاطر». وفي الوقت نفسه أعلن المجتمعون أن «المصارف المركزية اتخذت خطوات لتوفير السيولة ودعم عمل الأسواق. وعلى استعداد لاستخدام السيولة المؤسسية حتى النهاية سنبقى متحدين ونتعاون كما هو مناسب». محافظ مصرف إنجلترا مارك كارني مستعد لتوفير أكثر من 250 مليار جنيه إسترليني لدعم سيولة الأسواق والدفاع عن الإسترليني. عيون العالم الصناعي الآن مركزة على الأسواق المالية أكثر من تركيزها على الاتحاد الأوروبي ومكونات المملكة المتحدة من شمال إيرلندا وويلز إضافة إلى إنجلترا.
انكسر الزجاج بين لندن وبين الاتحاد الأوروبي. سيتوسع الصدع بين مكونات الاتحاد نفسه. كانت الأنظار مشدودة إلى اليونان للخروج من أزمتها المالية. لو كان اتفاق الاتحاد النقدي ومنطقة اليورو يتيح خروجها من اليورو لخرجت طوعاً قبل إذلالها. ونحسب أنها خارجة لا محالة في النهاية. شخصت الأبصار منذ نحو سنة إلى الصين، واحتمال مواجهة فقاعة ترتد على نمو الاقتصاد العالمي. بكين التي كانت عوناً للنمو الاقتصادي أرغمت على تغيير نموذجها الاقتصادي من التصدير إلى الاستهلاك. انكشفت هي الأخرى على أزمة ديون مصرفية حادة في القطاعين العام والخاص. حين يحل القلق على انهيار أسواق المال وأسعار الصرف محل القلق على النمو الحقيقي وتوفير فرص العمل والرفاه الاجتماعي، كما نشهد الآن بعد خيار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، نعلم أن في الأمر وباء قابلاً للتمدد. هكذا نقتبس من دروس أزمات الركود والبطالة. دائماً كانت الأزمات المالية طويلة الأجل عميقة الأثر.
أزمة الكساد الكبير أو «العظيم» التي أصابت الولايات المتحدة 1929 – 1931، ولحقت بالعالم الصناعي كانت مالية المنشأ. عروض هائلة لبيع نحو 14 مليون سهم كانت كافية لانهيار وول ستريت وفقدانه نحو 50 في المئة من قيمتها السوقية في «الخميس الأسود». لحق الانهيار بقيمة الأسهم الدفترية المؤسسة لرأسمال الشركات. وكان ما كان. ولم يسترد داو جونز قيمته قبل 1954. أزمة 2008 كانت في الرهونات العقارية وقروض الباطن والمؤسسات المالية والمصرفية الاستثمارية. لحقت بها المصارف التجارية. بعد 8 سنوات نمو الولايات المتحدة في الربع الثاني 2016 0.8 في المئة. وآفة الدين تختبئ وراء الورقة الخضراء وجبروتها. طابعة العملة في «فدرال رزرف» نيويورك منتجة في طبيعتها للعملة الصعبة حيث لا يستطيع الآخرون. كلام كارني الذي عرض عضلات «بنك أوف إنجلاند» يبعث على السخرية. مضارب يدعى جورج سوروس تمكن في يوم واحد من أيام 1992من أن يكسب مليار دولار أمريكي من المضاربة ضد الإسترليني. جثمت «صاحبة الجلالة» على قدميها. واضطرت إلى الخروج من آلية تسعير العملات الأوروبية ( E R M ) التي كانت تنظم عمل أسواق الصرف الأوروبية قبل دخول اليورو عملة للتحويلات والتجارة في نهاية 1999، وعملة ورقية في بداية 2002. سوروس يدير الآن صندوقاً بثروة من زهاء 28 مليار دولار أمريكي. فقدت حكومة جون ميجور آنذاك الدعم السياسي. وفقد محافظ مصرف إنجلترا القوي إدي جورج هيبته.
القلق من انهيار أسواق المال والمصارف؟ نعم. ليس لأنها شرايين التمويل للاقتصادات، ولتسهيلات التجارة والنمو فحسب. بل ولتحريك قابلية المستثمرين للانخراط في مشاريع استثمارية جديدة وزيادة رسملة المؤسسات. انقلبت الآية حين باتت الأسواق مرتعاً للمضاربة وكسب الريوع من مستثمرين يدخلون إلى السوق ويخرجون منها لمجرد معلومة أو تقرير. ولمجرد المقامرة أيضاً. قليلون ينتظرون أداء أسهم في نهاية السنة لتحقيق أرباح مفترضة. أو لتحويل أرباحهم أسهماً جديدة لتصليب قيمة المؤسسة وسمعتها الائتمانية ومكانتها التجارية. عشرات التريليونات قيمة أسواق المال السوقية. لسوق لندن الحصة الثانية منها بعد وول ستريت. نحو 75 في المئة من هذه الثروة الهائلة لا اهتمام لها بالنمو وبفرص العمل وبالرفاه الاجتماعي، ما برحت السوق الثانوية ملعبها المربح على مخاطر.
المشكلة الآن أن السيولة بالسعر الرخيص التي زجّت بها الدول الصناعية لتفادي الانهيارات المالية والركود منذ 2008 باتت تفقد تأثيرها. وسألنا أكثر من مرة عما إذا كانت المصارف المركزية ذاتها قد بدأت تفتقد أسلحتها. ال 250 مليار إسترليني التي وعد بها كارني تتبخر بلحظات حين تنهار الثقة بسوق لندن. الحال أصعب لو تحول المرض وباءً متنقلاً من جديد ليصيب الأسواق الأمريكية والأوروبية والآسيوية. يمكن الحكومة البريطانية اعتماد سياسة تيسير نقدي جديدة. لكن ماذا عن أسعار الفائدة البريطانية والأوروبية والأمريكية؟ لن يجرؤ مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي على رفع سعر الفائدة. لو فعل لانهار الإسترليني واليورو معاً. المصرف المركزي الأوروبي يتقاضى فائدة سلبية على ودائع المصارف. لم يعد ممكناً تشجيع زيادة مديونيات القطاعين العام والخاص في الدول الصناعية. من يدري؟ قد يحتاج الاقتصاد إلى مضادات حيوية من نوع آخر بعد خروج بريطانيا. الأخيرة تحتاج إليها أيضاً لوحدتها.