IMLebanon

“بلدية بيروت” تُغرق الرملة البيضاء بالمجارير

ramle bayda

كتبت فيفيان عقيقي في صحيفة “الأخبار”:

ليست الهجمة الاستثماريّة ومحاولة وضع اليد على الأملاك العامّة ما يهدّد الرملة البيضاء وحسب. فمسارب الصرف الصحيّ التي استحدثتها بلدية بيروت لتصبّ على الشاطئ البيروتي المجاني مقصد الفقراء، وتهرّب وزارة البيئة من مسؤولياتها في حماية موقع صنّف من أهم شواطئ المتوسط، يبشّران بأزمة بيئيّة وصحيّة، لا شكّ ستؤسّس لنبذ هذا الموقع شعبياً تمهيداً لتحويله ملكاً خاصاً.

منطقة “الرملة البيضاء” مصنّفة أملاكاً عامّة تقع تحت وصاية وزارة الأشغال العامة والنقل، ومصنّفة موقعاً طبيعياً فائق الأهمّية من واجبات وزارة البيئة حمايته والمحافظة عليه. هذا ما تنصّ عليه القوانين والمراسيم الصادرة عن الدولة اللبنانيّة.

لكن الواقع يشي بما هو مختلف! بالتزامن مع محاولات تمرير صفقات “وضع اليد” على ما تبقى من الأملاك العامّة البحريّة، وتزوير الإفادات العقاريّة وإخفاء المستندات الأصليّة، تعمل “السلطتان المحليّة والمركزيّة” على إبعاد الناس عن متنفسهم الوحيد، عبر تسليط الصرف الصحيّ على الشاطئ، معرّضة حياتهم لخطر الأوبئة ومياههم وبيئتهم للتلوّث والتدمير، ضمن سياسة “تطفيش” الشعب منها لتسهيل تحويلها إلى مستعمرة خاصّة.

ملكيّة عامّة ومحمية بيئيّة

هناك أكثر من عشرة قوانين ومراسيم ومستندات لمواجهة خطط التطوير العقاري في محلّة الرملة البيضاء، أُقرّت منذ نشأة “لبنان الكبير”، ويُمكن رفعها في وجه من يدّعي وجود سندات ملكيّة خاصّة، يؤكّد مدير المسبح الشعبي ورئيس جمعيّة “سيدرز”، نزيه الريّس، أنها “باطلة ومزوّرة” وأن “المستندات الأصليّة العائدة إلى ما قبل تملّك هذه العقارات، وتثبت أنها ملك عام، مفقودة من السجّلات العقاريّة لمدينة بيروت”.

تاريخياً صُنّفت الرملة البيضاء من الأملاك العامّة، ففي عام 1925 صدر القرار 114/S عن المفوّض السامي الفرنسي موريس ساراي القاضي بتصنيف الشواطئ الرملية من ضمن الأملاك العامّة. وفي عام 1954 صدر قرار “التصميم التوجيهي لمدينة بيروت” عن المجلس البلدي، وصنّف شاطئ الرملة البيضاء منطقة غير صالحة للبناء. وفي عام 2009 صنّفتها الحكومة اللبنانيّة موقعاً طبيعيّاً فائق الأهمّية، محميّاً بأكمله من التلّة الصخريّة جنوباً حتى التلّة الصخريّة شمالاً، استناداً إلى دراسة أجرتها دار الهندسة وIAURIF بهدف ترتيب الأراضي اللبنانيّة وإعادة وضع الشاطئ كما كان، حفاظاً على هوية المكان كإرث طبيعي لبيروت وكثروة إيكولوجيّة. لتُلحق عام 2012 بتقرير صادر عن معهد الدراسات البيئيّة في جامعة البلمند، يؤكّد أن الرملة البيضاء من المواقع الطبيعيّة الحسّاسة التي يجب حمايتها، باعتبارها مسبحاً شعبيّاً للعموم ذا مواصفات إيكولوجيّة بدرجة مُرتفعة، تتمتّع بغنى بيولوجيّ وجماليّ، ومن الضروري تأمين مُراقبة وإدارة دائمة لها كقسم من الشاطئ وحمايتها والمُحافظة عليها كما هي. وهو ما يضعها أولاً تحت مسؤوليّة وزارة الأشغال العامّة والنقل المكلّفة الحفاظ على الأملاك العامّة وإفساح المجال للولوج إليها من دون عوائق حتى لو وجدت سندات ملكيّة خاصّة ببعض أقسامها، وثانياً تحت حماية وزارة البيئة من كل أشكال التلوّث عبر وضع خطط لإدارتها وتنظيمها وإزالة كلّ ما يؤدي إلى تآكل الموقع وتدهوره وتهديده، وثالثاً تحت سلطة المحافظ لتأمين حمايتها بالتنسيق مع الوزارتين.

مافيات السلطة

تُعدّ الرملة البيضاء من أهم شواطئ المتوسط، يبلغ طولها 1800 متر وبمعدل عرض وسطي 75 متراً، بحسب ما تؤكّد رئيسة جمعيّة “الأزرق الكبير” عفت إدريس لـ”الأخبار”، ونتيجة الدراسات التي أُجريت، أُدرجت ضمن المواقع التي تتطلّب حماية وزارة البيئة.

تضيف إدريس: “للشواطئ أهمّية بيئيّة كبيرة لما تشكّله من حماية للتنوّع البيولوجي في المياه والرمال. ويضمّ موقع الرملة البيضاء تحديداً نباتا غير موجود في كلّ لبنان، وتتنوّع فيه الثروة الحيوانيّة والبيولوجيّة، فتظهر فيه السلاحف، وسلطعون الشبك، وأربعة أنواع من بقر البحر، وحصان البحر، فجغرافيّة الشاطئ شكّلت حوضاً صغيراً للأسماك لتختبئ فيه وتتكاثر”.

قُدّمت هذه الدراسات إلى وزارة الأشغال العامة والنقل، ومن المفترض إرسالها إلى المديريّة العامّة للنقل البري والبحري للاطلاع عليها وإبداء الرأي فيها، ومن ثمّ إلى وزارة البيئة لإصدار مرسوم بتحويلها إلى محمية توفّق بين الإنسان والبيئة البحريّة، لكن ذلك لم يحدث بعد، رغم صدور هذه الدراسات منذ أربع سنوات. وبحسب إدريس “الموضوع سياسي، وهناك مافيا تسيطر على البلد. تكمن مسؤوليّة الوزارة في إصدار المرسوم، أمّا الجهة التي من واجبها المطالبة بحماية الشاطئ فهي البلديّة، التي وللأسف خرّبته، وحاولت بيعه، وأغرقته بالمجارير”.

الرملة غارقة في المجارير

في عام 2001 وُضع مشروع “المسابح المجانيّة” لطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور. هكذا نجحت الدولة بإعادة شاطئ الرملة البيضاء إلى كنفها. وعام 2003 بدأت مرحلة تنفيذ المشروع وافتتح “المسبح المجاني” أمام العموم، وأوكلت إلى جمعيتي “سيدرز” و”الأزرق الكبير” إدارته، وبات يدخله يومياً حوالى 2500 شخص، ويوم الأحد حوالى 20 ألف شخص. عام 2006 تأثّر الشاطئ بالتسرّب النفطي لمعمل الجية نتيجة القصف الإسرائيلي إبان حرب تموز، ثمّ أغلق لفترة بعد أحداث 5 أيار 2008 وما تلاها، قبل أن يفتتح مجدّداً عام 2009 بالتزامن مع خطط بلدية بيروت لتنفيذ “مشروع تصريف مياه الأمطار” التي دُمجت فيها شبكة الصرف الصحي.

تاريخياً كان هناك مخرج واحد للصرف الصحيّ في بيروت، ويصبّ على شاطئ الرملة البيضاء، تحت الأرض التي اشتراها وسام عاشور من ورثة الحريري لتنفيذ مشروع “إيدن روك” السياحي. عام 2006 أقرّت البلديّة مشروع “شبكة مياه الأمطار” وبدأت تنفيذه عام 2009 وافتتحته عام 2010، وهو عبارة عن أربعة مخارج تصبّ جميعها على رمال المسبح المجاني، لتتحوّل تدريجاً إلى مصبّ للمجارير تفوح رائحتها في المكان، وتؤثّر على السابحين وقاصدي الشاطئ والحياة البيئيّة فيه. يقول الريّس: “فتحة إحداها كبيرة لدرجة تمكُّن شاحنة من الدخول فيها. وحوّلت إليه تدريجاً مجارير الإيدن روك بطريقة لم نفهمها. أرسلنا شكاوى عدّة إلى البلديّة كونها هي من نفّذت مشروع تسليط المجارير على الفقراء، لكن بلال حمد بادرنا بلا مبالاة، وكأن هناك نيّة مقصودة لإدراكهم أن هناك مشاريع استثماريّة ستنمو في المنطقة”.

خلال سنة تراجع رمل الشاطئ حوالى عشرين متراً، وتُعيد إدريس السبب إلى “الصرف الصحي وكيفيّة تدفقه على الرمل، ما سمح بقذفه إلى البحر والتأثير على سماكته وكثافته، إضافة إلى تلويث البحر وقتل البيئة المائيّة وتهديد صحّة السابحين”، وتستغرب كيفيّة موافقة وزارة البيئة على دراسات الأثر البيئي التي قدّمتها المشاريع المحيطة بالموقع، فسنسول الموفنبيك مثلاً أثّر على التيارات المائيّة التي نقلت الرمال إلى شاطئ البحص المحاذي للرملة البيضاء مغيّرة معالمه.

الشاطئ اللبناني الذي تكوّن طبيعياً على مدى ملايين السنين، استطاعت سياسة بلدية من تدميره في غضون سنوات قليلة. وتحوّلت رماله منبعاً ومجاري للصرف الصحيّ. أمّا وعود بلال حمد بإنشاء شاطئ يليق بسكّان بيروت، ففُهمت خطأ بداية، قبل أن تتبلور لهم أنها سياسة ممنهجة، تستغل أملاكهم العامّة، وتخدم أصحاب الاستثمارات.