IMLebanon

القاع: فسيفساء سياسية على رقعة صحراوية

kaa

 

 

كتبت سعدى علوة في صحيفة “السفير”:

تبدو الطريق الى منزل أسعد التوم في القاع، خالية إلا من سيارات نادرة تعبر نحو كنيستها حيث ما زال الأهالي وعوائل الشهداء يتقبلون التعازي بالشهداء الخمسة الذين سقطوا على خلفية استهداف البلدة بثمانية انتحاريين في يوم الاثنين الأسود.

هذا الفراغ هو انعكاس للنزوح القسري لأهالي البلدة عن بلدتهم. فالجغرافيا التي رمت بالقاع هناك عند أطراف السفح الشرقي لسلسلة جبال لبنان الشرقية طبعتها بمناخ شبه صحراوي هو الأشد في البقاع الشمالي، حيث لا يتجاوز معدل امطارها السنوي أكثر من 150 ملليتراً. والمفارقة أن السلسلة نفسها التي تفصل القاع عن سوريا، تكتنز من هذا الجفاف علاجا بالماء الذي ترقد عليه تلك الجبال التي تحولت من نعمة إلى نقمة في ظل الأداء الرسمي لدولة إدارة الظهر. الأداء الذي ربط مياه القاع بأنبوب تتحكم به قرى أخرى وترك نحو 181 الف دونم من مشاريع القاع بلا فرز.

ومع غياب الالتفات الرسمي نحو القاع، كما جاراتها الهرمل ورأس بعلبك وبقية البقاع الشمالي، تبقى المياه الجوفية التي يقول التوم أن كل المعطيات والأبحاث تفيد بإمكانية جرها بالجاذبية من سفح السلسلة نحو القاع، ولذا تركت مدفونة، مثلما تستمر القاع مرهونة بمياهها المسحوبة من مسافة 24 كيلومتراً من نبع اللبوة منذ ثمانمئة عام، أي ما قبل الاستعمار التركي، وحتى يومنا هذا.

الصحراء مناخهم. الجفاف نصيبهم. الإهمال الرسمي يختصر علاقتهم بالدولة، بالإضافة إلى مشاكلهم مع محيطهم بسبب المياه وتقاسمها، ومع كل هذا وغيره، أتت الحرب الأهلية لتكمل حكاية نزوح معظم القاعيين عن ديارهم نحو بيروت بشكل اساسي، وبعض مناطق أخرى كزحلة والمتن الشمالي. النزوح نفسه أثّر بالخريطة السياسية للقاع وغيّر فيها. هو في النهاية خيار حرّ لنفوس حرّة.

ووفق عملية حسابية بسيطة تأخذ بالحسبان تطور الكثافة السكانية في منطقة البقاع الشمالي، وشريط البلدات والقرى الممتدة على طول الطريق الدولية من بعلبك إلى حمص، يقول التوم إن المشاكل على المياه وقطعها عن القاع لم يكن يوماً لأسباب طائفية «بل تعبير عن حاجة الناس لمياه الشرب والري، فكيف اذا كان يهدر عبر عدم جرّه من السلسلة، في ظل واقع الفقر والحاجة والعوز الذي يظلل ابناء المنطقة كلهم».

وإثباتاً لرؤيته يقول التوم إن التعديات التي تحصل حالياً، على سبيل المثال لا الحصر، على مياه القاع لا يرتكبها أبناء اللبوة والعين فقط، بل أيضاً بعض القاطنين في بلدات الفاكهة والجديدة ورأس بعلبك، وحتى من أوائل البيوت عند مدخل البلدة نفسها، ومن بعض أهلها.

يربط التوم الكثافة السكانية بقوة ضخ المياه التي كانت تصل القاع من اللبوة بمعدل 550 متراً مكعباً في الثانية في السبعينيات، لتقتصر اليوم على ما لا يتجاوز المئتي متر مكعب في الثانية.

مع المياه والجفاف اللذين تركا مزارعي القاع أمام معضلة قطع المياه عن بساتينهم في خضم الحرب الأهلية ويباس بساتينهم مصدر رزقهم وقلة فرص عملهم، نزح كثر قبل أن يلحق بهم أخرون مع حوادث العام 1975، وبعد مجزرة العام 1978 التي اودت بحياة 15 شاباً من البلدة، قضوا إعداماً بالرصاص.

هذه العوامل بالإضافة إلى ترك الغالبية العظمى من أراضي القاع وخصوصا مشاريعها من دون فرز، تسبب بمشكلة كبيرة تركت أثرها على ملكية اهلها واستفادتهم من أراضيها التي تصل مساحتها إلى 181 الف دونم عائمة على مياه جوفية وخصوبة نادرة.

قبل هذا النزوح الذي شهدته القاع، كانت البلدة كما معظم مناطق لبنان ابنة بيئتها وتركيبتها السياسية المرتبطة بجزء منها بالانتماءات الطائفية والأحزاب على اختلافها والبنى التقليدية.

يعتبر رئيس بلدية القاع الأسبق عيد مطر ان القاع اليوم ما زالت كما كانت قبل الحرب الى حد كبير. كانت القاع، وفق مطر، منقسمة بين تيارين سياسيين أساسيين ممثلين بزعامتين محليتين: «الكتائب» ممثلة بالياس البيطار، والقوميين ممثلين بمهنا فاضل. بقيت هاتان الزعامتان تتصارعان حتى بداية الحرب الأهلية.

مع احداث العام 1975 ومجزرة العام 1978، أضيف إلى النزوح وراء لقمة العيش وفرصة تعليم أفضل، النزوح على خلفية سياسية، حيث ترك القاع معظم شبانها المرتبطين بالأحزاب اليمينية (الكتائب والأحرار)، فكان أن أصبحت الساحة خالية للقوميين.

وبرغم حرص مطر على ربط الانقسام بالزعامات المحلية أكثر منها بالإيديولوجية الحزبية، إلا انه قال أن أبناء البلدة وفي المحطات المصيرية المتعلقة بالقاع وقفوا وقفة واحدة للدفاع عنها برغم اختلافاتهم. وما زال البيان الشهير الذي تصدى للاعتداء على القاع خلال الحرب الأهلية مثالاً على وقفة مماثلة حيث جاء شديد اللهجة وجامعاً بين ابنائها كافة.

تأثير النزوح في النسيج السياسي للقاع شكّل نقطة التقاء بين التوم وبين «القواتي» رئيس بلدية القاع الحالي بشير مطر، ومعهم المنسق السابق في «التيار الوطني الحر» في البلدة المختار السابق منصور سعد.

يتوقف المحامي بشير مطر عند حيثية «اساسية» بالنسبة إليه، تفيد بتطور «القوات» في القاع ربطاً بايديولوجيتها وليس فقط بسبب سكن معظم القاعيين في مناطق تواجدها. ويرى مطر أنه من الطبيعي أن يتأثر أهل القاع بالتيارات السياسية في المناطق التي يسكنون فيها وحيث ينشأون.

هذه التأثيرات القاعية بالأحزاب السياسية المسيحية في العاصمة وزحلة عاد بها أهالي القاع بعد انتهاء الحرب الأهلية في اوائل التسعينيات الى بلدتهم، وترجموها اقتراعاً في صناديق الانتخاب في الاستحقاقات البلدية والنيابية المتعاقبة.

ففي قراءة السياسة من بوابة البلدية، عكست المجالس الثلاثة المنتخبة منذ ذلك الحين وحتى الأمس القريب تنوع القاع، ولكن لم يمسك بمجلس بلدية القاع تيار حزبي وحده بمعزل عن البقية، حتى وإن اعتبر البعض أن «القوات» طبعت البلدية الحالية مع وصول رئيسها بشير مطر الذي كان مسؤول «القوات» في البلدة ومعه «قواتيين» اثنين من حملة البطاقات، برغم أن لائحة مطر لم تُخترق إلا بعضو واحد من خارجها.

يقول المنسق السابق لـ «التيار الحر» في القاع المختار السابق منصور سعد إن «تفاهم معراب» انسحب على الانتخابات البلدية في البلدة، وبالتالي فإن «قاعدة التيار هنا منحت أصواتها للائحة مطر، وعليه نحن نعتبر انفسنا شركاء في البلدية أيضاً، وهي بلدية لكل القاع».

وينفي سعد تراجع نمو «التيار» ربطاً بالإيحاء الذي ساد على خلفية نتائج الانتخابات البلدية والاختيارية حيث لم يحتفظ هو نفسه بمقعده الاختياري، ليقول «يجيد البعض لعبة الإعلام ولكن التيار على الأرض ما زال قوياً، وخسارتي تعود إلى اسباب تتعلق بي وليس بالتيار».

هذا التنوع الأفقي السياسي (قوات وحزب قومي وتيار حر) في القاع تبلورت خطوطه العريضة مع استئناف المغادرين للبلدة خلال الحرب عودتهم الاسبوعية إليها ومكوث البعض فيها وخصوصاً المتقاعدين من السلك العسكري.

في المقابل، وجد معظم المتقاعدين العسكريين أنفسهم تلقائياً مع الجنرال عون وتياره ومعهم عدد لا باس به من اصحاب البطاقات الحزبية العونية. ويتذكر العونيون «مجدهم» في انتخابات الـ2005 حين منحوا سليم كلاس العوني 1300 صوت من القاع وحدها في الانتخابات البلدية. «القوات»، بدورها، وسّعت ملعبها على حساب حزبي «الأحرار» و»الكتائب» اللذين يبقى حضورهما خجولاً في البلدة ذات الغالبية الكاثوليكية.

يركز رئيس البلدية بشير مطر على اهمية الحضور بين الناس وإعلاء مصلحة الضيعة وانمائها فوق كل اعتبار. هذا الأمر يلتقي عليه عيد مطر ايضاً ومنصور سعد، ليؤكدان أن نجاح البلدية الحالية مرتبط بهذه النقطة بالذات، والمفتوحة على مشاكل القاع الإنمائية واحتياجاتها والتحالفات التي عقدت على أساسها.

وفي أحوال القاع وأمنها، يؤكد رئيس البلدية بشير مطر أن العلاقة مع الأخر في المنطقة وخصوصاً «حزب الله» تنطلق من مصلحة البلدة أيضاً وخصوصيتها. «نحن»، وفق مطر، «نعتبر أنفسنا محميين من الجيش أولاً ومن أهل البلدة وراء الجيش، وليس لدينا اي مشكلة في التنسيق مع أهل المنطقة في مواجهة الخطر الإرهابي الذي يهدد الجميع، ولكن ليس على قاعدة التبعية ابداً، وخصوصاً ضرورة منع أي تعد على أراضي القاع ومياهها، وهما الشريانان الأساسيان في حياة البلدة».

عيد مطر نفسه، الذي دعم لائحة البلدية الحالية، يقول إن علاقة «حزب الله» بالبلدة كانت طيبة على مدار السنوات السابقة وحتى اليوم. يعطي مطر أمثلة، ليثبت كلامه، عن محطات دعم فيها «حزب الله» عائلات من القاع كما عائلات أخرى في مناطق محسوبة عليه، «ولم يميز». هناك بعض الثغرات في أداء «سرايا المقاومة» المحسوبة على «حزب الله»، وفق عيد، ولكنها «أتت من شباب من أهل القاع وليس من الحزب، وقمنا بإيصالها إلى من يهمه الأمر في المقاومة».

والأهم بالنسبة إلى عيد نقطة الالتقاء الأساسية مع الحزب في مقاومة إسرائيل وفي الحرب مع «داعش» و«النصرة».