IMLebanon

من “عدالة” حرب العراق إلى انعدام “قانونيتها”

iraq-war

 

 

كتب وسام سعادة في صحيفة “المستقبل”:

أن يصدر تقرير لجنة التحقيق في حرب العراق (لجنة تشيلكوت)، بعد ثلاثة عشر عاماً على نشوبها وانقلاب حال العالم من وقتها، متهماً رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير بتوريط بلاده وقواتها المسلحة، وتضليل البرلمان، وعدم استنفاد الخيارات السلمية في معالجة أزمة برامج تسلّح النظام العراقي، فهذا حدث لا تزال تتكشف تداعياته، وليس مجرّد عملية “ترتيب أرشيف”، أو رمي ملابس مهترئة.

هو نقلة نوعيَة، ليس فقط من جهة الارتقاء بآليات المراجعة والمحاسبة وتعميمها على السياسة الخارجية والتدخل العسكري، بعد أن ظنناها مقتصرة على الأمانة المالية والسياسات الداخلية.

بالاضافة الى هذا كلّه، وهو أساسي، ثمة بعد آخر: بريطانيا، شأنها في ذلك شأن الولايات المتحدة الأميركية، ما عادت قادرة على تعبئة مركزها في سلّم القوى العظمى بشكل حيوي ومستقر. شجب حرب العراق صار محك استرداد الفعالية، في أميركا رأس المنظومة الغربية، وبريطانيا “الملكة الأم” لأميركا ووصيفتها، ومن ثمّ فرض معايير لـ”قوننة” حروب المستقبل.

كان الغزو الأنكلو- أميركي للعراق، بذريعة اخفاء أسلحة الدمار الشامل، وخطورة تسرّبها للتنظيمات الارهابية، بل ورصد صلات بين نظام صدام حسين وتنظيم “القاعدة”، ثم بنتيجة مباشرة لذلك، إسقاط نظام صدّام وعدم العثور على أسلحة دمار شامل، وحل الجيش النظامي، وليس فقط الحرس الجمهوري والتشكيلات البعثية، ونقل الهيمنة المذهبية من غلبة بلباس قومي بعثي “علماني”، الى غلبة فئوية تلبس مذهبيتها بالتمام.

عشية هذا التدخل المنفرد بالثنائي الأميركي البريطاني، مع دور لاحق لبولونيا، ومن دون غطاء الأمم المتحدة ولا حلف شمالي الأطلسي ولا الاتحاد الأوروبي، كان هناك من ينظر الى أنها “حرب عادلة”. اليوم لم يعد النقاش بشأن “عدالتها”، وانما بشأن قانونيتها، وبشأن امكانية احالة المتسببين بها على العدالة، ولو اعتبارياً. تطورت آليات المحاسبة والمراقبة لتصير المسألة الحكم اذا كانت هذه الحرب “قانونية” أو لا، وهل خرقت القانون البريطاني أم لا، وهل خرقت القانون الدولي أو لا.

جسّد قرار بلير المضي في تلك المغامرة الى جانب جورج بوش الابن “بركسيت” عميقة لبريطانيا حيال أوروبا، في مقابل “وحدة حال” مع أميركا. المفارقة اذاً أن يأتي الشجب لبلير في البرلمان البريطاني بعيد تصويت بريطانيا على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

المفارقة الثانية، تزامن محنة بلير هذه مع تصريح مثير للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، اعتبر فيه أن صدام حسين كان يحوي كل السيئات لكن تحفظ له ايجابية أساسية، وهي أنه كان يقتل الارهابيين.

من جهة، فك ارتباط مع حرب العراق بدعوى أنها لم تكن قانونية، ومن جهة ثانية، فك ارتباط معها بدعوى أنها أدّت الى إضعاف ديكتاتور معاد للقوانين، وباطش بالارهابيين في وقت واحد، وترامب هنا لا يتحدث فقط عن صدام حسين الماضي، فمنطقه يتعلق بالديكتاتوريات في العالم الثالث عموماً، وأفضالها “الأمنية”.

كلام ترامب هنا ليس نشازاً، انه في مكان ما مكمل للحدث البريطاني، مجاهرة بالمسكوت عنه، وهو اعادة الاعتبار الى الديكتاتوريات في العالم الثالث، بوصفها قلاع متقدمة ضد الارهاب، والتفكير أنه، اذا كانت هذه الديكتاتوريات موجودة، وتؤدي هذا الدور، وترد عن حواضر الغرب الديموقراطي الضربات، فعلام يقلق الحرب راحته، وتضلل مؤسساته، وتنخر آلياته الديموقراطية، بذريعة نشر هذه الديموقراطية في شرق لا يبدو أنه يريدها جدياً؟!.

لأجل هذا كله، سياق استقبال تقرير تشيلكوت عربياً مختلف عن السياق البريطاني. لو لم يتم إسقاط صدام حسين، لربما كان صدام حسين لا يزال الى اليوم في العراق، ولا يمكن التكهن بكامل المشهد لو صح ذلك. صدام هذا كان دمّر بالفعل ترسانته الكيماوية والجرثومية، لكنه أراد دائماً تقديم نفسه كما لو أنه يخفي شيئاً ما في مكان ما.

بريطانياً وأميركياً، هناك من يقول الآن “لو بقي صدام لما قامت داعش”. وهناك من يقول “لو بقي صدام لما استأسدت ايران”. لكن منطق الـ”لو” لوحده لا يعتد به.

حرب العراق كانت كارثية، لكنها كارثيتها الأساسية برزت في سياسات واشنطن ولندن لادارة الاحتلال أكثر مما برزت في التدخل الحربي بحد ذاته. بالتوازي، ليس للعالم بعد تقرير تشيلكوت الحد الادنى من الاجابة التي كانت قائمة قبله، على سؤال “كيف يمكن وضع حد لصدام”؟. لا يمكن قراءة التقرير لوحده، ومن دون تنشيط نقدي يستعيد السياق الذي كان قائماً وقتها.