IMLebanon

رسالة مفتوحة الى فخامة الرئيس (بقلم الدكتور جورج شبلي)

michel-aoun-new-1

كتب الدكتور جورج شبلي

(استناداً الى خطاب القَسَم)

في خطاب القَسَم تشكّلت أبرز مرحلة في مسيرتك كرئيس مُؤتَمَن على الوطن والدولة. وهناك، أردتَ أن تكشف عمّا في ضميرك من اندفاع، لفكّ أسر مفهوم الدولة من الذين كانت آيات سرورهم تحقيق حالةٍ  هي اللّادولة، أو الدولة البديلة التي لا تمتَ بصلة الى مفهوم الدولة الحديثة كما يحدَده القاموس السياسي العالمي، وكما يريده أغلب اللبنانيّين.

الدولة السيّدة كانت الكلمة المفتاح في بنود خطاب القَسَم. وهذا يعني الوقوف قُبالةَ حراكٍ مشبوهٍ يرمي الى إضعاف النسيج الوطني  ليصبح غير قادر على حماية نفسه ، فيُفسح للبعض في المجال لامتلاك السلطة باللجوء الى الوسائل غير المشروعة. وهذا يعني في الفكر الإستراتيجي تعريفاً موضوعياً لمفهوم الدولة، يحذّر من الخطر الداهم في الطّرح المُقابل والذي يعني إنهيار بنى الدولة الموجودة ،وبالتالي إقامة  مشروع مشبوه يعيدنا الى زمن الإنحطاط.

لقد تبنّى خطاب القَسَم أنَ الدولة هي مجموعة من الأجهزة المكلَفة تدبير الشأن العام للمجتمع. وقد نشأت، كما قال “هوبز”، ضمن تعاقد ارادي وميثاق حرَ بين المواطنين لينتقل هؤلاء من حالة الطبيعة، أي حرب الكل ضد الكل، الى الحالة المدنيّة. من هنا طرحت نظرية العقد الأجتماعي تبريرا كلاسيكيا لنشأة الدولة وذلك من خلال تصوَر شكل الحياة في مجتمع بلا دولة، أي في حالة الفطرة، وهي حالة تتَسم بحروب أهلية وصراعات مستمرَة وسيطرة شريعة الغاب حيث الحق للقوة. وذلك ما هيَأ للناس أتفاقا أو عقدا يضحَون بموجبه بجزء من حريَتهم من أجل أقامة كيان ذي سيادة ،يستحيل دونه حفظ النظام والإستقرار. فغدت الدولة الضمان الأوحد ضد الفوضى وألغاء الآخر والأنارشية التي بلا ضوابط. فالدولة أذا هي ضرورة وحاجة، والغاية من تأسيسها تأمين الحرية للأفراد والحفاظ على حقهم الطبيعي في الوجود باعتباره وجودا حرا والدولة، كما يراها خطاب القَسَم، هي الشخصية الحقوقية المعنوية التي تفرض سيادتها على مساحة الوطن، وتنبثق عنها السلطات التي تدير شؤون مؤسساتها، وهي بالتالي الحامية والضامنة لحقوق الناس.

هذا الطّرح الذي ينسجم مع ما ذهب إليه علماء الأجتماع الذين اعتبروا أنَ الدولة هي حالة تعبير عن سموَ الفرد عن أنانيَته، ورقيَه الى مستوى الوعي الجماعي. وقد قال “روسَو” في هذا المجال: أنَ الدولة هي تجسيد للأرادة العامة في الأمتثال للقوانين بدل الخضوع لسلطة القوي . من هنا يصحَ الأستنتاج أنَ الدولة هي الناظم الأساسي للتشكيل الأجتماعي ،والجهة المؤتمنة على السياسة التي يتمَ بها تنظيم حياة الأفراد داخل مجتمع ما، اعتمادا على مؤسسات تشكل جهاز الدولة. وهكذا يمكن  للأنسان أن يضفي على حياته نوعا من الأستقرار والنظام عبر التقيَد بمبادئ  وقوانين تشرف عليها سلطة عمومية. فالدولة هي بالفعل الكيان السياسي والأطار التنظيمي الذي يوحَد المجتمع ،وهي تجسيد للخير العام والمصالح المشتركة للمجتمع.

أما خصائص الدولة كما وصَّفها خطاب القَسَم، فهي ممارسة السيادة، أي أنَ الدولة هي وحدها، ومن دون شريك، صاحبة القوة العليا غير المقيَدة في المجتمع، وهي تعلو بذلك فوق أيَة تنظيمات أو جماعات موجودة داخلها. كما أنَ أجهزتها هي المرجعية الوحيدة المسؤولة عن صياغة القرارات العامة وتنفيذها. وأنَ هذه القرارات ملزِمة للمواطنين جميعا كونها تعبَر عن المصالح الأكثر أهمية لهم. والدولة تحتكر وحدها “العنف الشرعي” كما يقول “ماكس فيبر”، أي انها تمتلك منفردة قوة الإرغام لضمان الألتزام بقوانينها، وهي ليست أبدا جهازا قمعيا. وتمارس الدولة اختصاصاتها هذه على كامل الاقليم الوطني الذي يشكل وحدة سياسية قائمة بذاتها .

انطلاقا من هذا الكمَ النظري الموضوعي الذي أنتج وعيا راسخا لمفهوم الدولة ،ينبغي العمل على تجاوز الأزمة الإستراتيجيّة الحادة التي يمرَ بها الوطن والتي تتناول قضية كيانيّة هي وجوده. وهذه هي النقطة الأكثر أهميّة في الإختلاف البنيوي بين طرح خطاب القَسَم وبين طرح سواه. وبكلام أكثر وضوحا ،إن خطاب القَسَم يفضح التخريب وألحاق الضرر بمؤسسات الدولة وأضعاف مقوَماتها وأفراغها من مضمونها ،وهذا ما يمارسه أمر واقع أمني يعمل كدولة ضمن الدولة. كما أن الدولة في نظر القيِّمين على هذا الأمر الواقع، وبعض سواهم أيضاً، لم تنشأ ككيان اجتماعي سياسي اقتصادي عسكري مشرَع قانونا ،لذلك لا اساس لوجودها كدولة فعلية بالنسبة اليهم. وما يريدونه فعلاً هو نموذج هجين وتقاسميّ لا يتناسب مع التركيبة الوطنية ومع أسس التشارك في العيش الكريم للجميع. أمام حالة التقسيط السياسي هذه، والتي ينبغي التنبَه لها،أوجب خطاب القَسَم في روحيّته التأكيد على أنّ حياة الناس مرهونة بوجود الدولة، التي وحدها ترعى الشأن العام الذي يجعل منها سلطة شرعيّة تعمل على أشاعة النظام وتحقيق الأمن، وتأمين الحقوق ورعاية المصلحة الجماعية، وتحرير المواطنين من خوفهم بتوفير حماية لهم من كل أشكال العنف والتسلَط ,وذلك ليسود مناخ العدالة والحرية والمساواة والسيادة. انّ الخطاب/ الوثيقة  يضع هذا التنبيه برسم الجميع: مواطنين ومسؤولين سياسيّن كي يدركوا أن لا خلاص إلاّ بتبنّي ما تضمّنه خطاب القَسَم، لئلاّ يصحَ فيهم ما قاله جورج بوش: “لو أتيح للناس اكتشاف الحماقات والأخطاء التي ارتكبناها بحقَ وطننا وشعبنا ودولتنا ،لعمدوا الى مطاردتنا في الشوارع لإعدامنا”.