IMLebanon

قائد الجيش: عقودٌ من السوابق

 

 

كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:

على مرّ تعاقب تسعة قادة للجيش منذ عام 1970، انبثق تعيين كل منهم من أزمة نجمت إما من داخل المؤسسة العسكرية، أو من أزمة وطنية اوسع نطاقاً، نُظِر ابانها الى تعيين القائد على انه حل أو جزء من حل. عُدّت في الوقت نفسه الحاجة الى التعيين على ان الجيش اما هو مشكلة او جزءاً من مشكلة.

لم يُنظر الى تعيين القائد الجديد الاربعاء على أنه إجراء حتمي، كما في مطلع كل عهد رئاسي جديد فحسب، بل ايضاً ردّ الاعتبار الى رئيس الجمهورية في ان يختار هو القائد. هنا تكمن اهمية ان يكون الرئيس ميشال عون مَن اختار العماد جوزف عون وأيّده مجلس الوزراء بلا تصويت. وهو الوجه الآخر لتعيين قائد في ظروف طبيعية.

منذ عام 1970 سلسلة طويلة من تعاقب قادة سابقين، بينهم مَن أتى لفضّ مشكلة، ومَن أتى كي تفتعل ولايته مشكلة تلو اخرى، ومَن ختم الولاية هذه بمشكلة. بينهم محظوظون في طريقة وصولهم الى المنصب، وبينهم سيّئو الحظ في طريقة مغادرتهم إياه. على أن كلاً منهم ترك اكثر من بصمة إيجابية أو سلبية في حقبته داخل المؤسسة العسكرية، تأثرت الى حد كبير بطريقة إمرته لها.

على نحو كهذا يصحّ تسجيل بضع سوابق رافقت منذ عام 1970 تعيين القادة المتعاقبين:

أولاها، إقالة قائد هو العماد اميل بستاني في 7 كانون الثاني 1970. بيد ان السابقة تكررت مرتين مع العماد اسكندر غانم في 9 ايلول 1975 والعماد ابراهيم طنوس في 23 حزيران 1984. لم تنطوِ الإقالات الثلاث على اسباب واحدة. عُزيت الاولى الى طموحات سياسية في الوصول الى الرئاسة، والثانية والثالثة الى دور سلبي للقائد ابان الحرب اللبنانية. واقع الامر ان القائدين الاخيرين كانا ــ والجيش بالذات وسمعته وهيبته ــ يدفعان ثمن خلافات سياسية افضت الى توريط المؤسسة العسكرية في الصراع الاهلي.

ثانيتها، تعيين قائد للجيش في 25 تموز 1971 جيء به من الاحتياط بعد سنتين على تقاعده هو العماد اسكندر غانم، خلفاً للعماد جان نجيم الذي قضى في سقوط طوافة عسكرية. يومذاك اثيرت للمرة الاولى إمرة الجيش ما ان يشغر فجأة منصب قائده، وهل تذهب الى رئيس الاركان أم الى اقدم الضباط رتبة؟ كانت ثمة مسألة اخرى اثيرت على الهامش قبل ان يقرّ رأي الرئيس سليمان فرنجيه على غانم. اقترح بعض المحيطين به اسم العميد الزغرتاوي وجيه كرم، فامتعض رئيس الحكومة صائب سلام: هل يصح ان يكون رئيس الجمهورية وقائد الجيش من زغرتا؟ في ما بعد، مع تعديل قانون الدفاع حُظّر الاتيان بقائد من التقاعد، نظراً الى تداعيات الاجراء على الضباط العاملين في الخدمة.

ثالثتها، ليست غير مسبوقة فحسب، بل غير مألوفة وطبيعية حتى. كان الرئيس كميل شمعون وزير الداخلية مَن اقترح العماد حنا سعيد في 10 ايلول 1975. بيد ان القائد الجديد لم يتردد بعد اشهر، منذ آذار 1976 على اثر تفكك الجيش، في مغادرة اليرزة كي يقيم في جونيه ويقترح على ركني القيادة حينذاك العميد موسى كنعان والعقيد جول البستاني ان ينتقلا بالقيادة برمتها وغرفة العمليات الى حيث هو، كي يقود الجيش من هذا المكان، بعدما أضحت اليرزة هدفاً للقصف. انفصل عن قيادته وعن رئيس الجمهورية كلياً. عندما استقبل الوزير الجديد للدفاع فؤاد بطرس في مطلع عهد الرئيس الياس سركيس، لم يتأخر عندما استفسر منه الوزير عن سبب عدم وجود عسكريين مسلمين في اليرزة بالقول: كلٌ ذهب الى ربعه. اضاف انه لا يسعه ضمان امنهم وسلامتهم. شاع عنه تأييده حينذاك وجود جيشين مسيحي وآخر مسلم.

رابعتها، سابقة أضحت عرفاً مستمراً على وفرة سلبياته وانعكاسه على الهرمية والتراتبية، افتتحها تعيين العقيد فيكتور خوري في 28 آذار 1977 قائداً وترفيعه الى عميد أولاً. لم تكمن الثغرة في رتبة عقيد، بل في انها المرة الاولى يُعيّن قائد ليس الماروني الاقدم رتبة بين الضباط. اولهم اللواء فؤاد شهاب اقدم ضباط الجيش رتبة كما بين الموارنة قائداً له، ثم من بعده عادل شهاب ثم اميل بستاني فجان نجيم، الى ان هبط تعيين غانم. تجاوز فيكتور خوري عدداً قليلاً من الضباط الاقدم رتبة. على ان ذروة التجاوز كانت مع العماد ميشال سليمان بتجاوزه اكثر من 90 عميداً اقدم منه رتبة. كانت الحال كذلك بالقادة الذين خلفوا خوري حتى الامس القريب بلا استثناء.

خامستها، ان قائدي الجيش المتعاقبين في حقبة اتفاق الطائف جاء بهما السوريون خلافاً لإرادة رئيس الجمهورية. سمّى الرئيس الياس هراوي العميد الطيار فهيم الحاج، فثبّت السوريون تعيين العميد البحري اميل لحود. سمّى الرئيس اميل لحود العميد اسعد غانم فثبّت له اللواء غازي كنعان العميد ميشال سليمان قائد اللواء العاشر في البقاع الغربي في بقعة النفوذ المباشر للضابط السوري الرفيع. حاول لحود تفادي الكأس بأن سمّى عميداً آخر هو سليم ليّون وأعدّ له موعداً مع كنعان في عنجر. بعد ارفضاضه كان رد فعل كنعان: كيف نعيّن قائداً لم يعرف ضابطاً سورياً واحداً؟

سادستها، تعيين اول قائد في غياب النفوذ العسكري والسياسي لدمشق، هو العماد جان قهوجي في 29 آب 2008، اشهراً قليلة بعد تسوية الدوحة. عُزي التأثير المباشر في اختياره الى وزير الدفاع حينذاك الياس المر اكثر منه الى الرئيس ميشال سليمان الذي مانع رغبة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير في تعيين مدير المخابرات العميد جورج خوري في المنصب. ثمة سابقة اخرى رافقت تعيين قهوجي، انها المرة الاولى يُطرح تعيين قائد للجيش في مجلس الوزراء ويُصوَّت عليه. يومذاك عارض او تحفظ وزراء وليد جنبلاط الثلاثة ووزيرا سمير جعجع الاثنان، فلم يؤتَ له الاجماع.

سابعتها، تأجيل تسريح قهوجي ثلاث مرات. لم تكن الاولى بعد سابقة اللواء عادل شهاب الذي مُدّد بقاؤه في منصبه سنتين بين عامي 1963 و1965 وتأجيل تسريحه الى ما بعد انتخاب رئيس للجمهورية لئلا يفرض على الرئيس الجديد قائد عيّنه سلفه. لكن تمديد بقاء شهاب اتخذ في مجلس الوزراء على نحو مغاير لتأجيل تسريح قهوجي. في 29 أيلول 2016 أصدر وزير الدفاع سمير مقبل قرار تأجيل تسريحه سنة رابعة كان يفترض ان تنتهي في 30 أيلول 2017، في ثالث تمديد بعد أول لسنتين عام 2013 وثان لسنة عام 2015. عُزي القرار الى تجنيب القيادة الشغور والخلاف السياسي على الخلف، فيما توخى تأجيج الصراع في مواجهة الرئيس ميشال عون على ان قهوجي منافسه في السباق الرئاسي. فإذا الاساءة مزدوجة، موجهة في آن الى هيبة المؤسسة وقواعد الانضباط والتراتبية والى القائد نفسه، اذ يستمر بقرار وزير هو المعين بثلثي مجلس الوزراء.

وليست السوابق هذه فحسب.