IMLebanon

تلزيمات الكهرباء… صراع المافيات!

 

كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:

لم تفلح الاعتراضات على ملف تلزيم بواخر الكهرباء في توضيح طبيعة ونتائج الخيار. الطبقة السياسية تكرّر سلوكها السابق في ملف الكهرباء من خلال تبادل الاتهامات بالفساد وتضييع القضية المركزية المتعلّقة بضرورة الاستثمار في القدرة الإنتاجية لشبكة الكهرباء، بدلاً من اللجوء المتكرّر ـ الثابت ـ لخيارات موقتة يُشتم منها رائحة الهدر والفساد.

الأجواء التي سادت بعد إطلاق عملية تلزيم استئجار بواخر مولدة للكهرباء، لم تعبّر عن الوضع الحقيقي لملف الكهرباء، بمقدار ما عبّرت عن الرغبات السياسية الكامنة وراء هذا الملف. فالانقسام على الملف بين “التيار الوطني الحر” وتيار “المستقبل” من جهة وحركة “أمل” وأحزاب “الاشتراكي” و”الكتائب” و”القوات اللبنانية” من جهة ثانية، ليس سوى نسخة عن المشهد المتكرّر في ملف الكهرباء منذ مطلع التسعينيات.

الكلّ يريد حصّة في الكعكة المربحة، والكل يريد أن يستعملها للضغط على الآخرين في سياق التسويق الانتخابي لنفسه… لكن لا أحد، على ما يبدو، يريد أن يقدّم للناس هذه “النعمة”، بل يريدون إذلالهم وإفراغ جيوبهم وحصد أصواتهم.

قصّة البواخر بدأت في عام 2010 حين أقرّ مجلس الوزراء ورقة سياسة قطاع الكهرباء، التي تتضمن اللجوء إلى خيار استجرار الطاقة الكهربائية بواسطة البواخر في انتظار إنجاز معامل إنتاج الكهرباء. مرّت السنوات الواحدة تلو الأخرى من دون أيّ إنجاز يُذكر، باستثناء إنشاء محركات عكسية في الذوق والجية بقدرة إجمالية تبلغ 270 ميغاوات، لم ينفّذ أي مشروع إنتاجي آخر. مشروع المحركات العكسية أُنجز في مطلع عام 2016 ولزّم تشغيله، إلا أن الخلافات عرقلت تسليمه إلى المتعهد لأكثر من عام. أما مشروع إنشاء معمل بقدرة 450 ميغاوات في دير عمار والمعروف بـ”دير عمار – 2” لا يزال معطّلاً، ومشاريع تأهيل معملي الذوق والجية القديمين، فقد نالا كفايتهما من الدرس إلى أن بات من غير المجدي تأهيل الجيّة فيما تأهيل الذوق مجمّد.

في هذا الوقت، بدأت الهجمة من رجال الأعمال تستشرس على قطاع إنتاج الكهرباء. سبق للبنك الدولي أن قدّر أن الخصخصة سترفع كلفة إنتاج الكيلوات – ساعة ثلاثة سنتات على الأقل بالمقارنة مع استثمارات القطاع العام، إذ أن كلفة تطوير القدرة الإنتاجية عبر استثمارات القطاع العام تبلغ 6.58 سنت للكيلوات – ساعة مقابل 8.19 سنت للقطاع الخاص. على الرغم من هذا الوضوح في المقارنة، بقيت الخصخصة تعترض إنجاز معامل جديدة، في حين أن المشروع الذي اجتاز امتحان السياسة وبلا عوائق تُذكر، كان مشروع استئجار باخرتين مولدتين للكهرباء من شركة “كارادينيز” التركية بكلفة 430 مليون دولار لمدة ثلاث سنوات، جرى تمديدها من دون العودة إلى مجلس الوزراء (392 مليون دولار مضافاً إليها قيمة الضريبة على القيمة المضافة بقيمة 39 مليون دولار) يضاف إليها كلفة استهلاك الفيول، وهو المشروع نفسه الذي يتكرّر اليوم لاستئجار باخرتين إضافيتين بكلفة إجمالية (كلفة استئجار البواخر وكلفة الفيول لإنتاج نحو 830 ميغاوات) ستصل إلى 5 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.

اللجوء إلى البواخر حفّز رجال الأعمال المستظلين بالسياسيين للطلب بوقاحة من وزارة الطاقة الترخيص لهم بإنتاج الكهرباء. امتياز جبيل، قدّم طلباً للحصول على ترخيص إنتاج الطاقة، وامتياز زحلة أيضاً، وهما شركتان مملوكتان من رجال الأعمال، مشكلتهما أنهما محسوبتان سياسياً على “القوات اللبنانية”. ما يدفع إلى الاعتقاد بأن وزراء “التيار الوطني الحرّ” المتعاقبين على وزارة الطاقة استغلوا هذا السبب لرفض منح التراخيص لهاتين الشركتين. حسابات الطرفين انتخابية.

القصة لا تنتهي عند هذا الحدّ، بل إن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي حاول الحصول على ترخيص، فاقترح شراء أسهم شركة قاديشا لتوسيع قدرتها الإنتاجية تحت اسم نور الفيحاء، أو إعطاء الإذن لهذه الشركة بإنتاج الطاقة على غرار تجربة البواخر التركية. وكذلك، ظهر مشروع مماثل لوزير العدل السابق أشرف ريفي، ومشاريع أخرى بحجج مختلفة… في ظلّ هذه الشهية المفتوحة، عادت وزارة الطاقة إلى طرح استئجار بواخر كهرباء. رئيس الحكومة سعد الحريري، قالها صراحة أمام زواره إن هذا المشروع “سيمرّ برغم معارضة من يعارض”، ثم كرّر كلامه بطريقة سياسية في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة بعد سجال حاد بينه وبين الرئيس ميقاتي.

الكلّ يريد حصّة من أرباح الكهرباء. واتهامات الفساد في ملف استئجار بواخر الكهرباء التي فضت عروضها في مكتب وزير الطاقة وبرئاسة مستشارته ندى البستاني دليل على ذلك. وتأتي هذه الاتهامات رغم أن الجميع كان شريكاً في القرار المتخذ في مجلس الوزراء في عام 2010. في حينه لم يكن هناك داعٍ لتوجيه التهم بالفساد.

إذاً، وظّفت الاتهامات بالفساد بين منتفع وساعٍ للانتفاع للاستغلال الانتخابي ولأغراض السمسرة المالية. كلاهما شريك في منظومة الفساد. إلا أن بين هذا وذاك، يختلط مفهوم إنشاء معمل دائم للكهرباء مع استئجار باخرة مولّدة للكهرباء بكلفة تساوي كلفة إنشاء المعمل. فالواقع، أن استئجار البواخر قد تكون كلفته موازية لكلفة إنشاء معمل جديد! الاستئجار ليس استثماراً، بل هو إنفاق جارٍ تصرفه الدولة لشراء الكهرباء، أما الاستثمار فهو إنفاق تدفعه الدولة مرّة واحدة لمدّة لا تقلّ عن ثلاثين عاماً لإنشاء معمل ينتج الكهرباء تتوزّع كلفته على هذه المدّة الطويلة.

يصف الوزير السابق شربل نحاس الفرق بين إنشاء معمل لإنتاج الكهرباء وبين استئجار بواخر مولدة للكهرباء، بأنها مثل شراء العقار أو استئجاره. كلفة الإيجار تساوي كلفة الشراء على فترة متوسطة قد تمتد إلى خمس سنوات. الإيجار هو حلّ ظرفي ومؤقت يرتّب أكلافاً بالغة على الخزينة ولا مردود له على الأصول. في العادة يكون الإيجار في حالات الزلازل وحالات الضرورة القصوى وهي ليست موجودة في لبنان “لكن المشكلة الفعلية تكمن في الآتي: ما هو الشبه الفعلي بين البواخر المولدة للكهرباء وإنشاء معمل للكهرباء في لبنان؟ لا فرق كبير بين الاثنين سوى في الباخرة، فالمعمل هو نفسه سواء كان على الأرض أو على الباخرة، لكن استئجار خدمات هذا المعمل يختلف بجدواه الاقتصادية عن شرائه رغم أن تجهيز المعمل على الباخرة أو على الأرض يتطلب وقتاً متساوياً (قد تتفاوت فترة التجهيز قليلاً بحسب كل شركة، علماً بأن المولدات التي توضع على الباخرة هي من إنتاج شركات معروفة في العالم)، وهذا يثير الكثير من الأسئلة والشبهات حول الرغبة والنية في معالجة الأمر بشكل جذري. الشكوك لم تعد كافية في هذا المجال بل أصبحت أمراً ملازماً وضرورة في أي صفقة”.

إذاً، ما هي تداعيات استئجار البواخر؟ يقول النائب ياسين جابر: “أثرنا في لجنة المال والموازنة التبعات المالية على الخزينة جرّاء استئجار البواخر. وتبيّن أن وزارة المال لم تدرج كلفة الاستئجار في مشروع الموازنة، وبالتالي فإن انعكاس هذا الإنفاق على العجز سيكون كبيراً، إذ أن الزيادة في العجز السنوي سترتفع بقيمة لا تقل عن 800 مليون دولار سنوياً”.

في الواقع، إن الأثر المالي كان محور مجموعة تحذيرات أطلقها البنك الدولي في جولاته الماضية على المسؤولين. يقول جابر: “لقد كان البنك الدولي واضحاً بأن زيادة الإنفاق سترتب نتائج كارثية على الاقتصاد، وهو تحدّث عن الكهرباء وعن الخيارات غير المنطقية التي تقوم بها الدولة في هذا المجال. البنك الدولي طلب أن تكون هناك خيارات واضحة ومستدامة، وهذا الأمر لا يشمل استئجار بواخر بكلفة تصل إلى ملياري دولار لمدّة ثلاث سنوات”.

هذا المشهد المقزز من التهافت السياسي لاستغلال حاجة الناس إلى الكهرباء، لا يلغي عملياً الحاجة إلى تطوير القدرة الإنتاجية من خلال إنفاق ملياري دولار على إنشاء معامل، أما الحجّة بأن هناك حاجة لخطّة إنقاذية وطوارئ لصيف 2017، فهي لا تبرّر دفع هذه المليارات على استئجار بواخر. لأن الناس استعاضوا عن غياب الدولة ـ الموزع، بمولدات صغيرة مزروعة في كل أحياء لبنان، وهي موزعة أصلاً بحسب سيطرة الأحزاب و”قبضايات الأحياء” والمافيات الأصغر حجماً قياساً إلى مافيات السياسيين.

“حمّى” بواخر الكهرباء

اجتاحت حمّى استئجار بواخر الكهرباء، العقل السياسي في لبنان، منذ إطلاق عملية استدراج العروض للكهرباء. بهذه الخلفية اندلعت مواجهات تنطلق من اتهام تحالف التيار الوطني الحر – تيار المستقبل، بالانتفاع من التلزيم. وبادرت أحزاب الكتائب والقوات اللبنانية وأمل والحزب التقدمي الاشتراكي إلى هذه المواجهة بشكل متزامن. علّق رئيس مجلس النواب نبيه برّي على الصفقة همساً وعلناً، مشيراً إلى أنها “معوّمة للجيوب”، ولم يكلّ النائب وليد جنبلاط عن إطلاق تويتراته واصفاً إياها بـ”المزحة الكهربائية” ثم قال: “لا لصفقة السفن التركية” و”لا لبدعة السفن والهدر ولا لشركات تلزيم الجباية”، وقال مرّة أخرى: “ابنوا مصنعاً وكفى سفن وسمسرة”. أما رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع فقد ضرب بيده على الطاولة وقال لزواره: “هذه الصفقة لن تمرّ” قبل أن يتولى مندوبوه في الحكومة والمجلس الهجوم المركّز على الصفقة أينما أتيحت الفرصة في مجلس الوزراء أو في اللجان النيابية أو حتى في جلسات خاصة. أما أول من تصدّر هذه المواجهات فقد كانت الكتائب اللبنانية التي تحدثت عن عمولات دفعت سلفاً بقيمة 200 مليون دولار.

الردّ على هذه الاتهامات جاء على لسان رئيس الجمهورية ميشال عون في مجلس الوزراء حين دافع عن الوزير سيزار أبي خليل، متمسكاً بالمادة 66 من الدستور، وذلك ردّاً على المطالبين بإجرائها في إدارة المناقصات لا في مكتب الوزير، وقال إن “الوزير سيد نفسه”. كذلك، دخّل رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان على خطّ الدفاع عن أبي خليل، فاستدعى أبي خليل للإجابة عن الأسئلة والاستفسارات، لكن سرعان ما تبيّن أن أبي خليل استعمل منبر لجنة المال والموازنة لتسويق خطّته والدفاع عن الصفقة المثيرة للشبهات.