IMLebanon

“جرصة” جريصاتي: القضاء مصلوب على ذراع طارق يتيم

كتب محمد نزال في صحيفة “الأخبار”:

وزير العدل طرف، علناً، في قضيّة قضائيّة. يقول للمدّعية على الهواء: «شيري، دمعك بيسوى كل شي في عدليّة». يتصل بالقاضي ويقول له: «بدّي منّك». محامي المتّهم ينسحب مِن الجلسة ويطلب استقالة الوزير. «ارتياب مشروع». «مجلس القضاء» مُحرَج. يُصدر بياناً يقف على خاطر الجميع. قاضي المحكمة مُربَك. هل يقف في وجه الوزير؟ إنّنا «نطلب المستحيل». محامي الادّعاء يتحدّث عن «جماعتهم». اتهامات متبادلة. قضيّة «الرأي العام» بعدما أصبحت «جرصة» لم تحرّك الرأي العام. مرّت بصمت. طفلة الراحل جورج الريف في المحكمة تختنق بدمعها. طارق يتيم، المتّهم بقتل والدها، يبعد عنها بضعة أمتار. كان كئيباً مُكابراً. القوى الأمنيّة كانت قلقة. كم كانت قاعة المحكمة قبل أيّام تُشبه مجتمعنا. كان فيها كلّ شيء

سقف القاعة لا يزال ممزّقاً. القضبان الحديديّة، المهترئة، لا تزال تمسك القطع الحجريّة وقد تدلّت. تكاد تسقط. بعضها لم يعد موجوداً. سقط سابقاً. أمّا الجدران، فمياه “النشّ” ترسم عليها نفسها. إنّه العطن.

موجات اللون الأصفر تزداد اتساعاً. كأنّ أحدهم بال مِن أعلى. رائحة “الكمخة” يُمكن رصدها. المكان كذلك منذ سنوات طوال. لا شيء يتغيّر هنا… باستثناء الوجوه. هنا قاعة محكمة الجنايات في عدليّة بيروت.

كان يُمكن لقطعة مِن السقف أن تسقط فوق رأس المُتّهم طارق يتيم. كان يُمكن أن يكون هذا إعداماً ميدانيّاً. لكن، مهلاً، كان يُمكن أيضاً أن تسقط فوق رأس القاضي، أو المحامي، أو الصحافي، أو أهل الضحية، أو واحد مِن “المواطنين الصالحين” الذين حضروا. السقف لا يُميّز. السقف لا تحكمه العاطفة. لا تحرّكه المصلحة. لا يُراعي أحداً. لا يتلقّى اتصالاً، متلفزاً، مِن وزير للعدل ليُخبره ما الذي عليه فِعله. السقف لا يتأثّر بضغط الرأي العام. السقف حياديّ تماماً.

إنّها جلسة المرافعة الأخيرة قبل الحكم على المُتّهم بالتسبّب في قتل جورج الريف. تلك الحادثة التي شغلت “الرأي العام” قبل عامين. زوجة الريف كانت حاضرة. أحضرت معها ابنتها الصغيرة. صديقة يتيم، التي كانت معه يوم الحادثة، كانت حاضرة أيضاً. كانت وحدها. كان يتيم يُخاطبها بلغة الإشارة. كان هادئاً. يمضغ العِلكة. بدا كمن يُكابر للظهور متماسِكاً. لا يزال قويّ البُنيّة. يُفضّل لبس “نصف الكِم”. هذا يُساعده في إظهار الأوشام التي أضافها فوق يديه داخل السجن. وشمه الجديد: صليب على طول ذراعه اليمنى. يتيم ليس مسيحيّاً! القتيل كان مسيحيّاً، نعم، وهذا ليس تفصيلاً في لبنان. المسكوت عنه في قضيّة طارق يتيم ــ جورج الريف، تحديداً، سيظهر (ربّما) في فلتات لسان المُرافعين. سيأتي لاحقاً.

محامي عائلة الريف يتلو مرافعته. لا تكون مرافعات المحامين غالباً، في بلادنا، شفهيّة خطابيّة. درجت العادة أن تُقدّم إلى المحكمة مكتوبة. هذه المرّة كانت خطابيّة. القضيّة استثنائيّة والعيون عليها. لن يُضيّع المحامي هذه الفرصة. يرفع صوته عالياً، متمايلاً، كما نشاهد عادة في الأفلام. يؤدّي جسديّاً بطريقة جيّدة. يَسرد مجريات “الجريمة” بتعابير تفيض حزناً تعبويّاً. يلتفت بعد كل مقطع إلى الصحافيين. يطلب مِن هيئة المحكمة أن تحكم على المُتّهم بالإعدام: “فهو الحكم الوحيد الذي يُعطينا حقّنا”. تحصل مشادات بين المحامين الحاضرين مِن الطرفين. ترتفع الأصوات مِن الجميع. القوى الأمنيّة شدّدت الإجراءات، في الداخل والخارج، بنحو غير مألوف. لا هواتف. ممنوع أن يُنقل ما يجري بالصوت والصورة. الفتاة الصغيرة كانت تجلس وحدها باكية. بين فينة وأخرى ترفع رأسها نحو يتيم، فلا تطيل النظر، ثمّ نحو القاضي، ثمّ نحو السقف، وهكذا. لقد فقدت والدها. كانت “الملاك” الوحيد في القاعة. جاء أحدهم ومسح على رأسها. ويُكمل محامي العائلة مرافعته. كان لافتاً أنّه استخدم، أكثر مِن مرّة، عبارات مبهمة، مِثل انّ يتيم وصديقته قاما بالجريمة عندما وصلا بالسيارة إلى “البيئة الحاضنة”. وفي مكان آخر قال: “لن يكون هناك أسباب تخفيفيّة لأنها غير موجودة، لا بالتقارير ولا بشهود الحق العام ولا بالشهود الشخصيّة، مع أنّ المنطقة لهم”. مَن هم؟ مَن يقصد تحديداً! وبعد ذلك قال أيضاً: “إنّ ما جرى هو تحقير للمحكمة، فعندما كانت جماعتهم تتدخّل في الأمور، والقضاء كان عاجزاً عن الكلام، كان يبرّئهم مِن الكثير من الأمور والجرائم”. جماعتهم! هذه مفردة شهيرة في الشارع اللبناني. الغريب أنّ المحكمة لم تتوقّف عند الموضوع. كأنّ “هم” جهة معروفة مِن قبل الجميع! المُهم، تُكمِل مجريات المحاكمة، فتسمح المحكمة لزوجة الراحل جورج الريف بالكلام. شحنة عاطفيّة إضافيّة داخل القاعة. هذا طبيعي. لا أحد يَشعر بالألم إلا صاحبه.

يأتي دور وكيل يتيم للمرافعة. هو المحامي أنطوان طوبيّا. يُعطيه رئيس المحكمة الإذن للبدء. طوبيّا لن يترافع. ماذا! إنّها المفاجأة التي كان قد أعدّ لها. قال: “ليس بالتهويل مِن معالي وزير العدل على هيئتكم يحيا القضاء… لن أترافع، سأنسحب مِن الجلسة، أنا أسجّل موقفاً وأستنكر ما حدث بعد الجلسة الماضية مِن قِبل الوزير، الذي قام بمداخلة علنيّة حول ملفّنا”. القاضي، رئيس الهيئة، مُعلّقاً: “ولكنّ هذه الجلسة للمرافعة”! يَردّ المحامي: “أنا لن أترافع قبل أن يتعهّد الوزير بعدم التدخّل في هذا الملف وغيره. يُعلّق القاضي: “ولكن هذه ليست الأصول (…). ينفعل المحامي: “لا، هذه أصول ونص، عندما نرى الوزير يتكلّم مع حضرتك (عبر الهاتف) ويُهدّد بالتشكيلات القضائيّة، فكيف لي أن أطمئن بعد على الملف؟ أنا لديّ كرامتي، ولن أعود إلى الجلسة قبل أن يتعهّد علناً الوزير بعدم التدخّل، ولا بأس أن يستقيل”. جمع طوبيّا أغراضه وغادر القاعة. صمت مُطبق. لقد رمى قنبلة مِن العيار الثقيل في وجه القاضي، المحكمة، القضاء برمّته، في وجه ثنائيّة السياسة والقضاء، في وجه الجميع. لم نعد أمام قضيّة متّهم بالقتل وعائلة مفجوعة بقتيلها. أصبحنا أمام “فضيحة” يُريد أن يذهب بها المحامي إلى النهاية. حارت هيئة المحكمة في الخطوة التي ستأخذها. في النهاية، أرجئت الجلسة إلى الرابع مِن تمّوز المقبل. مسار القضيّة أصبح غامضاً. لا يُمكن إكمال المحاكمة بلا محامٍ. القاضي المستشار كان واضحاً عندما قال للمحامي: “أنت تربط الملف بشيء مستحيل”. المحامي كان واضحاً أيضاً في ردّه: “بالتأكيد سأربطه، المسألة فيها حياة أو موت، لم يحصل في السابق مِثل هذا التدخّل مِن وزير”.

الحديث هنا عن وزير العدل سليم جريصاتي. وزير “العهد الجديد”. الرجل القادم مِن خلفيّة قانونيّة عتيقة. الذي عمل محامياً وكان يوماً عضواً في المجلس الدستوري. إن كان مِثل جريصاتي لا يعرف الأصول، أو يعرفها ولكن لا يعمل بها، فعلى مَن يُعوّل بعد؟ ما حكاية تدخّل جريصاتي بعد الجلسة الماضيّة الذي ذكرها طوبيّا؟ إليكم القصّة. تُرجأ الجلسة نتيجة عذر مَرَضي. يغضب وكيل عائلة الريف، والعائلة معه غاضبة أصلاً، فيقصدون جريصاتي في مكتبه.

تحضر معهم مجموعة مِن “المؤيدين” وبعض الإعلاميين، إضافة إلى كاميرا تلفزيونيّة تنقل اللقاء. تذرف زوجة الريف دموعها وهي تخطاب الوزير. يتأثّر الأخير. مباشرة، يتّصل هاتفيّاً بالقاضي، رئيس هيئة المحكمة هاني الحجّار. هذه المكالمة، حتماً، ستدخل تاريخ القضاء اللبناني وستُصبح مضرب مثل. أمام الكاميرات، قال جريصاتي للقاضي: “ليك ريّس، هذا الملف صادم للرأي العام وأنا أضعه على مكتبي ضمن الملفّات الساخنة (العبارة الأخيرة قالها بالإنكليزيّة). خلّيني كمّل لو سمحت… بدّي منّك شغلة، ليس من باب التدخّل بالوظيفة القضائيّة إنما مِن باب الأداء، فإن كلّ الملفّات الصادمة للرأي العام نُريد فيها أحكاماً في عهدنا”. ماذا عن الملفّات غير الصادمة للرأي العام معاليك؟ ماذا عن ملفّات المغمورين الذين لا يعرفون طرق وسائل الإعلام وجماعات الضغط؟ بعضها جرائم قتل أيضاً. نحن أمام قضاء أولويّته ما يصدم “الرأي العام”! هكذا، إنّها الملفّات التي “تبيع” في سوق الإعلام لتضاف إلى رصيد الفريق السياسي شعبيّاً. هذه فضيحة. نحن أمام “ارتياب مشروع” وليس بوسع أحد، في القانون، المزايدة على موقف المحامي طوبيّا. يُمكن ألا تُحبّه، مثلاً، لأنّه وكيل شخص متّهم بالقتل. هذا شعور شخصي، لكن لا علاقة له بالقانون. ربّما يُقال فعل ذلك كحجّة للمماطلة في القضيّة. هذا وارد، لكن في القانون هذا حقّه. نحن أمام فرصة أرشيفيّة تُخبر مَن يأتي بعدنا كيف كان قضاء بلادنا عام 2017. ماذا يعني أن يُشاهد الناس فيديو اتصال الوزير بالقاضي، في نشرات الأخبار، وهو يُخبره أن التشكيلات القضائيّة مُقبلة، فيقول حرفيّاً: “لا أريد أن أخلق سابقة في هذا الملف بأن هناك هيئة محكمة بأكملها، وأنا أتحدث هنا عن جنايات بيروت، وعلى باب مناقلات، فتطير بملف مثل هذا الملف”! ما هذا! ويُكمل الوزير اتصاله: “أنا اتكلّم معك لأنك ابن الحجّار وابن عبد المنعم الحجار. أنت حبيبي، فالله يوفقك وبشوف وجهك الحلو عن قريب. لكن بـ13 (حزيران) بدّك تعطيني شي نوعي لكون فخور فيه”. ما هذا! عائليّة هي! وتعطيني! لا ينسى الوزير بعد إنهاء الاتصال أن يتوجّه إلى زوجة الريف، قائلاً: “شيري، دمعك هون بيسوى كل شي في عدليّة”. ما هذا!

إنّها فضيحة. لا شيء سوى هذا. حصل ذلك في تاريخ 16 أيار 2017. مجلس القضاء الأعلى نفسه استشعر الحرج. إنّها “جرصة” لجريصاتي والقضاء. لذلك لم يتأخر “مجلس القضاء” ليُصدر بياناً بعد تلك “الواقعة”. جاء في البيان: “انطلاقاً مِن واجب المجلس حماية حياديّة كلّ قاض ودفع أيّ تعرّض أو ضغط مِن أيّ نوع كان مِن شأنه أن يُعكّر صفاء ذهنه، لا سيما مِن قبل وسائل الإعلام، وانطلاقاً مِن الحرص على أن تبقى الأحكام القضائيّة نتاج قراءة المحاكم لوقائع الدعوى ولأحكام القانون، قام (رئيس مجلس القضاء الأعلى) بزيارة وزير العدل الأستاذ سليم جريصاتي في مكتبه، وتوافق وإيّاه على مجمل ما سبق وعلى مقاربة واحدة بشأن التصدّي لأيّ خلل يُمكن أن يطرأ بمعرض العمل القضائي”. البيان كان ذكر في مطلعه، حرفيّاً، الحادثة بالاسم، إذ جاء فيه: “في ضوء ما نقلته بعض وسائل الإعلام المرئي والمكتوب عن مجرى جلسة المحاكمة في إحدى القضايا الجنائيّة، وما تلاها مِن انتقال جهة الادعاء الشخصي برفقة وسائل الإعلام إلى مكتب وزير العدل سليم جريصاتي للتظلّم مِن أداء المحكمة، وما أعقب ذلك من اتصال هاتفي أجراه الوزير…”. ربّما حكاية “استقلاليّة القضاء في لبنان، وفي الدول العربيّة، وربّما في كل العالم، هي “أسطورة” لم يكن لها تجلٍّ تام في عالم الواقع. هي رغبة مشتهاة لكنّها على ما يبدو “ضدّ الطبيعة”. الفارق نسبي بين نظام وآخر. ما مِن قاضٍ يُقرّر معارضة “النظام” إلا وهو يعرف أن مصيره “الكبس”. هم جزء مِن النظام في نهاية الأمر… باستثناء بعض الحالات “الانتحاريّة”. لكن يبقى الشكل، أقلّه مراعاة الشكل، الذي يكون القفز فوقه إشارة إلى انتهاء اللعبة.

بالتأكيد، إن مسايرة “الرأي العام” هي سياسة “كسّيبة”. الجميع يُريد “جلد” المُتَّهم بجريمة القتل. ثقافة القانون لم تنضج يوماً في بلادنا. يبدو أنّها زرع في غير محلّه… إلى الآن. هكذا، لن تجد مَن يعترض لو تم “سلخ” المتّهم، كيفما كان، ولو مِن غير محاكمة. كان يُعتَب، سابقاً، على الناس الذين لا يعرفون الفرق بين المشتبه فيه والمُتّهم والمُدان. يتيم، وإن كانت القرائن ضدّه، إلا أنّه لا يزال متّهماً. المتّهم بريء حتى تثبت إدانته. إنّها “قرينة البراءة”. إنّها ألف باء المحاكمات القضائيّة – القانونيّة. مَن يقبل أن تتدخّل السياسة في هذا الملف فعليه أن يقبل تدخّلها في سواه. إنّها مسألة مبدأ. في بلادنا نُخب لا تنفكّ تتحدث عن “دولة القانون والمؤسسات”، فيما هي لم تخرج يوماً مِن ثقافة الثأر والرغبة في السحل أمام جمهرة الناس. عندما يُحكى عن مجتمعات اللادولة، أو ما دون الدولة، أو ما قبل الدولة، فهذه هي. يَحصل أن تتسلّط علينا “نُخب” سياسيّة وقضائيّة وأمنيّة، مِن هذا النوع، فيما لا يزال لعاب غرائزها يسيل حنيناً لحلبات القتال المميت (أرينا) على الطريقة الرومانيّة القديمة. لا يبدوا أنّنا تغيّرنا. ربّما حصل في المظهر فقط. نلبس الثياب “الشيك” ونضع ربطات عنق.