IMLebanon

كركوك اليوم والسليمانية أمس وغدا أربيل

كتب إبراهيم الزبيدي في صحيفة “العرب” اللندنية:

لم يحصل إجماع محلي عراقي وعربي ودولي، من قبل، على أمر مثل الذي تحقق في الحكم على مسعود البارزاني بالعمى العنصري وقلة التدبير والنفخة الكذابة وتحدي الأقوياء وهو لا يقف على أرض ثابتة ولا يملك غير الوهم وغرور القوة الفارغة، تماما كما فعل قبله قادة صعاليك أصابتهم لوثة الغرور وعمى البصر والبصيرة فوضعوا أنفسهم وأسَرَهم وشعوبَهم على سنادين الكبار وتحت مطارقهم التي لا ترحم.

وإذا كانت حملة استعادة كركوك ضربة له، شخصيا، ولدولته التي كانت مستقلة، فهي طعنة نافذة للقضية الكردية ذاتها. فهو، بمعركة كركوك الخاسرة، لم يحقق شيئا لشعب كردستان سوى أنْ ذبح حلمه القومي بالاستقلال، من الوريد إلى الوريد، ودفنه لخمسين أو لمئة سنة قادمة، ثم أخرج كركوك من خارطة الدولة الموؤودة، من الآن وإلى زمن آت بعيد.

كما زرع في أعماق كل مواطن كردي شعورا بالخيبة والفشل حين استفز أنقرة وطهران وبغداد ودمشق، معا، واستخرج أقصى ما لديها من حقد مزمن ومتأصل على أيّ محاولة استقلال كردية، حتى قبل أن ترى النور. وقد أضاع على الشعب الكردي، في ساعات، ما كسبه، في سنين، من الثروة والاستقلال والأمن والأمان.

كما أنه، ومعه حاشيته، فتح على الشعب العراقي كله، بكل طوائفه وقومياته وأديانه، أبواب جهنم جديدة من الفرقة والتناحر والاقتتال، وأهدى لإيران ووكلائها العراقيين فرصة من ذهب لاستكمال احتلال الوطن العراقي، وإلحاق ما تبقى من مدنه وقراه وثرواته وحدوده بدولة الميليشيات وشبكات الخطف والاغتيال والاختلاس.

ثم أعطى خصومه الطالبانيين والإسلاميين فرصة الانتقام من البارزانيين ومن لفّ لفّهم بالاتفاق مع إيران ووكلائها العراقيين على طرد مسعود وتنصيب واحد منهم رئيسا للإقليم، لتبدأ صراعات دموية في كردستان، لا تنتهي.

وجعل العرب والأميركان والترك الكارهين للتمدد الإيراني في العراق يقبلون بكارثة احتلال الحرس الثوري الإيراني لكركوك، خوفا من كارثة أكبر وأخطر وأكثر عنفا ودموية قد تتسبب فيها مغامرة مسعود الانفصالية.

ثم إنه نسي، أو تناسى، أن إيران تريد “مستعمرة” العراق كاملة غير منقوصة، من زاخو إلى حد الكويت، ولن تقبل بـ“باختلاس” أيّ مدينة أو قرية، كبيرة وصغيرة، قريبة وبعيدة، من أملاكها، سلما أو حربا، وعلى من يتمرد ويعاند تدور الدوائر.

ولعل أكبر خطايا مسعود وأبشعَها هو اتخاذه الحقّ القومي الكردي سلعة في سوق السياسة، وسلاحا أراد به أن يلوي به ذراع غريمه حيدر العبادي، المحمي إيرانيا وأميركيا، وإرهاب الحشد الشعبي، وكسر أنف الولي الفقيه، ثم يخنق به إخوته “الأعداء” في السليمانية، ليفرض نفسه، في النهاية، وأبناءه وأبناء أعمامه وأخواله، ملوكا لكردستان إلى أبد الآبدين.

كل هذا مفهوم ومعلوم، ولا يمكن لمراقب محايد إلا أن يضع الحق كله عليه فيما جرى في كركوك، وما سوف يجري في غيرها عن قريب.

ولكن لو كان الذي دخل إلى كركوك هو جيش الدولة العراقية، فقط، لاستعادة هيبة الحكومة، وإحلال الأمن والقانون، ولفض احتلال آبار النفط والمنشآت الحكومية الأخرى، لكان الأمر مقبولا، ومبررا، ولا يحق لأحد أن يعيبه، أو يعترض عليه.

ولكن الذي غزا المدينة هو الحشد الشعبي المجاهر بتبعيته لقيادة الحرس الثوري ولقاسم سليماني، “مرفوقا” بجيش الدولة. ودأب غلاة المعممين الإيرانيين على التصريح أحيانا، والتلميح أحيانا أخرى، بأن الحشد الشعبي هو حرسهم الثوري العراقي، وهو الأقوى والأهم من كل رئيس ووزير وقاض وسفير في العراق، وهو القائد الحقيقي لجيش الحكومة وشرطتها وقوى أمنها، دون منازع.

أما وحدة التراب العراقي، وأما حرمة الدستور، وأما سلطة القانون فـ”كل عن المعنى الصحيح محرّف”.

نعم، إن رفع العلم الكردي على دوائر الحكومة في كركوك كان فعلا تمرديا عنصريا غبيا، لم يكن له معنى ولا مبرر.

ولكن إقدام الميليشيات الملحقة بالحشد الشعبي على اقتحام المدينة، وقيام مجنديها، بحضور قادتها الكبار، بإنزال العلم الكردي، بتلك الغوغائية التي شاهدناها على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالرقص فوقه بالبنادق والرشاشات، ورفع الرايات الطائفية مكانه، إهانة لملايين المواطنين الأكراد العراقيين الذين يعتبرونه رمزهم المقدس، وحماقة ومهزلة يتحمل جريرتها رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة وقادة الجيش الوطني دون ريب.