IMLebanon

كيف يُقنع “حزب الله” جمهوره بثقافة الجهاد والاستشهاد؟

كتبت لبنى الحرباوي في صحيفة “العرب” اللندنية:

نشر موقع إعلامي مؤيد لحزب الله مقالا يروي “قصة شهيدين” هما إبراهيم وأحمد شهاب، إبنا عمومة ترعرعا معا في مدينة برعشيت في الجنوب اللبناني. كانا قريبين من بعضهما البعض وخرجا إلى “الجهاد” معا في تموز 2016 وقاتلا في “خندق واحد” في سوريا. وقتلا معا أثناء المعارك إلى جانب صديقهما عمر من مسقط رأسيهما الذي كان هو الآخر فردا من عشيرة شهاب الموسعة.

ويتحدث مقال آخر عن قصة علي وأحمد يحيى، وهما أب وابنه استشهدا بفارق زمني بلغ 15 عاما بالضبط (أحمد في يوم التحرير في سنة 2000، وعلي في سنة 2015 في سوريا). بعد سرد ظروف وفاة علي، يشبّه المقال حالته بحالات الآخرين الذين جاؤوا من قبله “ذهب الشهيد لملاقاة أبيه الشهيد. وبالمثل، التحق الشهيد عماد مغنية بوالده، وعلي رضا اللقيس بوالده، وحسن إبراهيم بوالده.. وكثيرون غيرهم”.

وعند الوفاة يترك شهداء الجيل الثاني أمهاتهم وأبناءهم خلفهم، لكنهم يلتقون بآبائهم الراحلين. وتلقي هذه القصص الضوء على طريقة العمل عند منظمات مثل حزب الله الذي تحوّل من حركة مقاومة إلى ميليشيا لها قوة عسكرية شبه نظامية. وفي الكثير من الحالات ينتمي الأفراد إلى العائلة أو العشيرة نفسها أو تجمعهم صداقة حميمة. وبالفعل ينطبق ذلك الأمر على الكثير من الميليشيات في المجتمعات العربية.

يستعمل حزب الله أفراد العائلات لتعزيز ثقافة الجهاد والاستشهاد والمقاومة عن طريق تمجيد تضحيات الشهداء، وهذه مواضيع يتم دعمها عن طريق النظام المدرسي والحركة الكشفية. وبفعل ذلك يساعد أفراد العائلات هؤلاء على نشر مشهد أيديولوجي ديني وهوية تتعايش مع الولاءات العائلية والعشائرية وتتعالى عليها في الآن نفسه.

تضامنات اجتماعية

في حين أن الجنود في الجيوش التقليدية قد تكون لهم علاقات وطيدة عابرة مع “رفاق المعركة”، وغالبا ما ينتهي ذلك عندما يغيرون وحداتهم أو يعودون إلى ديارهم. أما “رفاق المعركة” بالنسبة إلى رجال الميليشيات فهم عادة أشخاص تربوا معهم وسيعيشون معهم بقية حياتهم. وربما يكون حزب الله اللبناني هو الميليشيا العربية المعروفة أكثر من غيرها.

وتؤكد دراسة للسير الذاتية لأكثر من 2100 مقاتل من حزب الله “استشهدوا” في المعارك ما بين عامي 1982 و2017 اعتماد حزب الله على التضامن الأسري والعشائري والمحلي لتجنيد الأفراد وبناء وحدات محفزة ومتماسكة وناجعة.

وتكشف البيانات أن عددا كبيرا من شهداء حزب الله تقاسموا روابط أسرية أو عشائرية. فمن بين قرابة 900 شهيد معروفين بالاسم بين 2012 و2017، 5 بالمئة منهم تقريبا أقرباء (أخ، ابن، ابن عم، ابن أخ أو أخت) لشهيد آخر من حزب الله.

كما يحمل قرابة 30 بالمئة من هؤلاء الشهداء الاسم العائلي نفسه والمدينة الأصلية لشهيد آخر واحد على الأقل من هذا الإطار الزمني، وهو ما يوحي بالانتماء إلى أسرة أو عشيرة مشتركة. ومن بين 1200 شهيد معروف بالاسم بين 1982 و2000 وصل هذا الرقم إلى قرابة 40 بالمئة.

ويقول الكاتب نيكولا بلانفورد إن حزب الله في بداياته كان يميل إلى التعويل على شبكات أسرية وعشائرية لتجنيد أفراد جدد. وتم التعويل على الأعضاء القدامى لتحديد أفراد من العائلة الضيقة أو أبناء عم أو أصدقاء أو معارف يقتربون منهم لإقناعهم بالانضمام إلى التنظيم.

أما في الحالة العراقية، فيقول مصطفى كامل، رئيس تحرير صحيفة “وجهات نظر” الإلكترونية، “تعتمد الميليشيات في تجنيدها للشباب على العوامل العشائرية، وهي متحكمة جدا في بنية المجتمع العراقي، فالريف العراقي، وهو المعين الأساس في تحشيد عناصر الميليشيات الطائفية، تسوده القيم العشائرية بشكل كبير، وقد سعت الميليشيات إلى اللجوء إلى تلك القيم في حشدها لهؤلاء الشباب، وهو ما نلاحظه خصوصا في المنظومات التي تأخذ طابعا مناطقيا محددا”. ويضيف “لكن هناك عاملا آخر مهما في تحشيد هؤلاء، وهو العامل المادي”.

ويشرح كامل ذلك بقوله “انتشرت البطالة بين صفوف العراقيين بشكل مخيف، مما أدى إلى بلوغ نسبة البطالة نحو 40 بالمئة في بعض المحافظات، ومن هنا اندفع بعض الشباب إلى الفرصة الوحيدة المتاحة أمامهم للحصول على دخل شهري ثابت، فانخرطوا في هذه الميليشيات”.

ويضيف “مع تأكيدنا على أهمية الجانبين العشائري والمادي، علينا ألا ننسى أن الجهل هو العامل الأساسي الحاسم في تجنيد الشباب ودفعهم إلى محرقة الطائفية والإرهاب”.

لقد ساهمت المنظومة الطائفية المتحكّمة بالعراق، رسميا وشعبيا، في إشاعة عوامل التجهيل والحقد الطائفي بدل أن تكون عامل تنوير وحثّ على التسامح والسلام.

فالعراق الذي تخلَّص من الأمية تماما في العام 1978، ونال جائزة اليونسكو في هذا المجال، يعاني الآن من انتشار الأمّية بشكل مخيف في صفوف الشباب، وتراجع تعليم الإناث بشكل كبير لأسباب اجتماعية ومادية وأمنية طبعا.

الشيء الأهم في هذا الصدد هو أن انتشار الأفكار الطائفية المريضة، المستوردة من إيران تحديدا، ما كان له أن يتم إلا في إطار إشاعة أجواء التجهيل المتعمّد، ومن هنا نجح الفكر الطائفي في استغلال جهل المجتمع للتحريض على الفتنة الطائفية هذا من جهة، وهو أمرٌ غذّته أيضا بشكل فاعل الطروحات المتطرفة من جانب تنظيم داعش من جهة أخرى.

وفي اليمن يستمد زعيم الحوثيين الحالي عبدالملك الحوثي قوته من شعبيته بين أفراد عشائر جماعته. ويشرح آشير أوركابي، الباحث في “مركز كراون لدراسات الشرق الأوسط”، أن “العائلة الحوثية تدّعي شرعيتها من لقب ‘السَّيِّد’ الذي يعود إلى آل النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم. وتشكل الأسر المختارة -التي تنتمي إلى هذا النسب- نموذجا من طبقة النبلاء المحدودة في اليمن، والكثير منهم يتزوجون من عوائل من نسب ‘السَّيِّد’ فقط. وينتمي عبدالملك الحوثي لنسب ‘السَّيِّد’، ويتعمّد هذا الزعيم التفاخر بلقبه”.

ويعتبر نسب “السَّيِّد” أكثر من مؤشر على طبقة النبلاء، فهو المعيار الأساسي لأن يصبح الشخص إماما.

ويؤكد مصطفى كامل في تصريحاته لـ”العرب” “لكن علينا ألا نتصور أن هذه الميليشيات تتمتع ببنية قوية ومتماسكة، ففي اعتقادي أنها قائمة أولا وأخيرا على التحريض الطائفي الذي تمارسه مؤسسات وشخصيات بعينها ووسائل إعلام معروفة تعمل بشكل مبرمج على زرع الفتنة الطائفية لإدامة مسلسل القتل والدمار في البلاد، وفي حال تجفيف هذين المنبعين فإن سطوة الميليشيات ستنهار. بالطبع ليس الأمر سهلا، لكنه ليس مستحيلا أيضا”.

ثقافة الجهاد

يستعمل حزب الله أفراد العائلات لتعزيز ثقافة الجهاد والشهادة والمقاومة عن طريق تمجيد تضحيات الشهداء، وهذه مواضيع يتم دعمها عن طريق النظام المدرسي والحركة الكشفية. وبفعل ذلك يساعد أفراد العائلات هؤلاء على نشر مشهد أيديولوجي ديني وهوية تتعايش مع الولاءات العائلية والعشائرية وتتعالى عليها في الآن نفسه.

ويقوم حزب الله بنشر صور لأمهات يعبّرن عن فخرهن بأبنائهن الذين استشهدوا أو يعبّرن عن أملهن بأن يسعى أبناؤهن للاستشهاد أو يلقونه. وبشكل مماثل تطلق مقاطع فيديو ورسائل “الوصية الأخيرة” بعد الوفاة يتولى فيها الشهداء تشجيع إخوانهم على اتباع خطواتهم عن طريق الانضمام إلى “المقاومة الإسلامية”.

ومثلا في رسالة ترجع إلى حزيران 2017 يطلب الشهيد جهاد محمود شبيب من إخوته “جعل هذا العالم معبرا إلى سعادتكم في الآخرة عن طريق.. الجهاد في سبيل الله والاستشهاد”. وبهذه الطريقة يستعمل حزب الله الأسرة، وهي المؤسسة الأكثر تأثيرا في المجتمع العربي، لترسيخ مثل الاستشهاد التي تعد ربما أقوى مفهوم في نظام العقيدة الشيعية. ويعتبر حزب الله ثقافته المتعلقة بالاستشهاد أحد أقوى أسرار نجاحه.

وفي اليمن دعا القيادي الحوثي ووزير الشباب والرياضة في حكومة الحوثيين حسن زيد، إلى إيقاف العملية التعليمية في مدارس المحافظات الواقعة تحت سيطرتهم، وإرسال المعلمين والتلاميذ إلى جبهات القتال.

وفي نفس السياق، حث زيد الشامي مدير مديرية حفاش المعين من قبل الحوثيين، طلاب مدرسة “الفتح” بالمحافظة الريفية على التوجه إلى جبهات القتال بدلا من مواصلة الدراسة. وشدد الشامي على الطلاب بالقول إن “التعليم ليس مجزيا بقدر الذهاب إلى الجبهات”.

وتجد ميليشيا الحوثي مبررات وطرقا كثيرة ومختلفة لإقناع الأطفال واليافعين بالمشاركة في المواجهات المسلحة، منها الدينية كالحض على الاستشهاد وأخرى مالية في بلد يسطر عليه الفقر. ولهذا يذهب الكثير من الأطفال دون أن يعرف أهاليهم.

وثقافة الاستشهاد متجذّرة في الموروث الإسلامي العربي بشكل عام، لذلك لم يكن صعبا على دعاة الفتنة ترويج المفاهيم التي تخدم توجهاتهم، وقد أدّى المحرّضون من المعممين والإعلاميين الموتورين مهامهم المرسومة في هذا الصدد.

ويقول كامل “لا شك أن غياب مؤسسات الدولة البانية للمجتمع التي تسعى لنشر ثقافة المواطنة وترسيخ قيم التسامح والعدل هو أمر مقصود تماما لتمزيق المجتمع العراقي وبث مفاهيم معاكسة تماما لحركة تطور المجتمعات، من هنا نما الخطاب الطائفي وتزايدت سلطات المعممين وانتشرت الظواهر المتخلفة التي يرفضها الإنسان في القرن الحادي والعشرين”.

وتلعب الانتظارات الاجتماعية أيضا دورا في تشكيل ديناميات التنظيمات المسلحة على أرض المعركة. ويعلم المقاتلون بأنهم إذا لم يقفوا إلى جانب رفاقهم في المعركة فقد تكون لسلوكياتهم انعكاسات سلبية على العلاقات الاجتماعية الأساسية، وربما حتى زواجهم ووظيفتهم وآفاقهم المستقبلية.

تخليص العالقين

لا شك أن تخليص العالقين في هذه التنظيمات مهمة صعبة، ولكن ليست مستحيلة، وفق كامل. ويشرح “يجب أن تعتمد على استراتيجيات شاملة في إطار تعزيز ثقافة المواطنة وقيم السلام والتسامح، وبناء المنظومات الاجتماعية والسياسية والأمنية الحكومية ومؤسسات القضاء العادل النزيه التي تساعد على بناء المجتمع وحمايته من الوقوع في براثن عوامل الفتنة والتحريض. كما تتطلب توفير فرص عمل مناسبة وكافية وفرص تعليم وتنوير، وعودة المؤسسات الثقافية، السينما، المسرح، النادي الرياضي، التي غابت خاصة عن المجتمعين العراقي واليمني، إضافة إلى تعزيز دور الجامعة في خدمة المجتمع، وأن يتم تحجيم المؤسسات الدينية ومكاتب المراجع، ومنها عدد كبير من المراجع الإيرانية، التي تتكاثر كالأميبا.”

ويضيف “بالتأكيد فإن هذه الاستراتيجية الشاملة لا تقوم بها إلا مؤسسات دولة وطنية، وهذا غير متوفر في العراق منذ 15 سنة، ولن يتوفر ما دام دستور الاحتلال التفتيتي نافذا ومشروعه السياسي قائما، وما دامت إيران تعبث بالعراق وتعتبره مجالا حيويا لها، وما دامت هناك ثقافة الاستيلاء على المال العام التي شرّعها معممون بدعوى (حق المواطن من موارد البلاد) وما دامت المخدرات تنهش جسم المجتمع بعد أن كان معافى منها تماما قبل الاحتلال”.

ويؤكد “العراق يحتاج إلى استثمار كفاءاته المغيّبة قصدا بالقتل وبالتهجير، لإعادة بنائه، ويحتاج إلى استثمار موارده المالية الضخمة في رفاه شعبه، ويحتاج إلى بناء مؤسساته الأمنية والعسكرية على أسس وطنية حقيقية وليس وفق نظام المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية، ويحتاج إلى مؤسسات إعلامية رصينة، ويحتاج إلى كفّ التدخلات الإيرانية، وإذا حصل هذا فإن استعادة تماسك المجتمع وإنهاء سطوة الميليشيات يمكن أن يتحققا”.