IMLebanon

جان عبيد: في إنتظار paraphe من السماء

كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:

منذ زاد قانون الانتخاب عام 1992 عدد النواب من 108 الى 128، ووزّع المقاعد العشرة مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، شاع قولٌ ما لبث ان تأكد: سُميّت كل من المقاعد المحدثة باسم المذهب الذي مُنح اياها، الا مقعد طرابلس. هو مقعد جان عبيد.

حلّ جان عبيد في مقعد طرابلس في انتخابات 1992 و1996 و2000، قبل ان يعزف في انتخابات 2005 على اثر اغتيال رفيق الحريري. ترشح منفرداً في انتخابات 2009 وخسر. بداية، كان من بين 40 آخرين عُيّنوا نواباً عام 1991 لملء شغور في البرلمان وتحقيق المناصفة في المقاعد، فاضحى نائب الشوف في مقعد كميل شمعون. آنذاك إقترح عليه احد المقاعد الثلاثة الشاغرة في زغرتا ـ وهو ابن قضائها ـ بعد وفاة نوابها الثلاثة طوني فرنجيه وسمعان الدويهي ورينه معوض. بيد انه اختار دائرة ابعد، تفادياً لنزاع مع العائلات الزغرتاوية الثلاث، التقليدية في نيابة القضاء منذ مطلع الستينات، في انتظار اول انتخابات نيابية عامة تحلّه في الدائرة الصائبة.

قيل ان إبن علما هبط على مقعد طرابلس من دون ان يكون من ابنائها. لكن الرجل قطن في القبة اكثر من عقدين من الزمن. مرّ في مدارسها منذ اولاها الابتدائية المجانية، ثم الفرير، ثم الآباء الكرمليين، وصولاً الى ثانويتها الرسمية.

يحار البعض اذ يسأل اين يقيم اصدقاء جان عبيد وخصومه، ومَن يكون هؤلاء واولئك؟ من اقصى اليمين الى اقصى اليسار يعرفهم جميعاً. صديق حافظ الاسد وصدام حسين قبل ان يدخل واحدهما مع الآخر في نزاع البقاء والموت. عرف الاول وهو بعد برتبة رائد عندما دخل الى مكتب رئيس الوزراء السوري صلاح الدين البيطار ـ وكان جان عبيد يزوره مهنئاً بمنصبه ـ فتصافحا للمرة الاولى. ابان فراره من سوريا بعد الانفصال عام 1961، لاذ صلاح الدين البيطار ببيت بدوي عبيد سنتين ونصف سنة، عاد على اثرها الى دمشق واصبح رئيساً للحكومة عام 1963 في ظل حكم البعث.

على مرّ سني صراع البعثين السوري والعراقي حتى وصول حافظ الاسد الى رئاسة بلاده عام 1971، جمعت عبيد علاقة وطيدة بدمشق احالته احد ابرز اصدقائها، ثم بات احد اقرب حلفائها في لبنان منذ عام 1976، حملت الرئيس السوري على فرض اطلاقه في اقل من 48 ساعة، بعدما خطفه مسلحون غير مجهولين في 12 شباط 1987. ما لبث ان استقبله حافظ الاسد اشعاراً بصداقتهما المخضرمة، اذ اعتبر خطف جان عبيد رسالة مباشرة اليه.

إلمامه بالعقل السوري وردود فعله وطريقة تفكيره، جعله مستشار رئيسين لبنانيين متعاقبين هما الياس سركيس وامين الجميّل للشؤون السورية. عشية القمّة الاولى مع حافظ الاسد، 29 شباط 1984، اشترط عبدالحليم خدام الغاء امين الجميّل اتفاق 17 ايار (1983) قبل وصوله الى دمشق. اوشكت ان تتعثر قبل ان يطلب الرئيس السوري من جان عبيد “تخريج” مغزى اللقاء. اعدّ مسودة بيان يقضي بتعهد الرئيس اللبناني الغاءه رسمياً في بيروت بعد ان يُعلن من دمشق اتفاقه مع نظيره على هذا القرار. يومذاك اصرّ عبدالحليم خدام على شرطه، فقال له جان عبيد: الحرب ليست هاربة من دربكم. اعلنتموها وهي قائمة. انتهى الامر بذاك المخرج.

لم يكن من السهل هضم عبارة حافظ الاسد له كي يستعجل صوغ المخرج: 17 ايار اسوأ بالف مرة من كامب دايفيد.

هو من قلة باقية مرت بالعصور اللبنانية الثلاثة في العقود الستة الاخيرة: ما قبل الحرب وابانها وفي ظل اتفاق الطائف. بدأ صحافياً ثم انقطع عن المهنة عام 1972 كي ينصرف الى مدرسة جديدة يكاد احد لا يضاهيه في دروسها: العلاقات العامة والصداقات المفيدة. عنده، تقاطع الاضداد ككميل شمعون وكمال جنبلاط، وسليمان فرنجيه الجد ورشيد كرامي، وموسى الصدر وكامل الاسعد، قادة اليسار كمحسن ابراهيم وجورج حاوي واليمين كبيار وامين وبشير الجميّل، عبد المجيد الرافعي في طرابلس وبعثيي سوريا في بيروت، كذلك الزعماء الفلسطينيون واولهم ياسر عرفات وجورج حبش. يُعثر عليه ـ هو الآتي من اجيال ما قبل الحرب ـ في اجيال ما بعد اتفاق الطائف منهم عمر كرامي وسليمان فرنجيه الحفيد ووليد جنبلاط وصديقه الحميم لاكثر من اربعة عقود نبيه برّي اكثر المتحمسين لابصاره رئيساً استحقاقاً بعد آخر.

اول عهد بيت جان عبيد بالسياسة علاقة والده بدوي بقبلان والد سليمان فرنجيه الجد، وآخره الذي لم ينقطع برفيق الحريري. عُيّن ثلاث مرات وزيراً في حكومات 1992 و1996 و2003. في الاولى، اختار وزارة الدولة لئلا يتولى ملف الكهرباء فيضعه تحت الشبهة بعد انتزاعه من جورج افرام ثم اقالته، فذهبت الحقيبة الى الياس حبيقة. في الثانية، وزيراً للتربية عدّل المناهج التربوية ومنح المعلمين آخر سلسلة رتب ورواتب حينذاك، واعلن على الملأ في اعادة افتتاح المدينة الرياضية والدورة العربية الثامنة عام 1998 في حضور الياس هراوي وولي العهد السعودي الامير عبدالله انها “مدينة كميل شمعون الرياضية”، قائلاً: “لن تُسمَّ سوى باسم الذي انشأها”. كان رفيق الحريري يريد اطلاق اسمه هو عليها بعد اعادة ترميمها. في الثالثة، وزيراً للخارجية مثل امامه حدث لا ينسى، حينما حضر وزير الخارجية الاميركي كولن باول الى لبنان، بعد دمشق، في 3 ايار 2003 وقال له في اجتماعهما المغلق وكانت الولايات المتحدة غزت العراق واسقطت نظامه ليومين خليا: امام الاسد ستة اجراءات يقتضي القيام بها اذا كان يريد صون نفسه.

ردّ: هل توجّه انذاراً اليه عبري؟ كنتَ هناك فلماذا لم تحكِ معه. ما تطالبه به ضد ابيه، انقلاب على كل ما فعله ابوه وعلى عهده. على الاقل امنحوه بعض الوقت لحفظ ماء الوجه.

جان عبيد هو ايضاً المرشح الدائم للرئاسة اعوام 1989 و1998 و2004 و2007 انتهاء باستحقاق 2014. بينه وكل مرشح آخر كانت ترجح عليه كفته معادلة بسيطة: “ظروف” هذا غير ذاك.

في يوم اغتيال رينه معوض، 22 تشرين الثاني 1989، احضر رفيق الحريري في طائرته الخاصة جان عبيد من باريس الى دمشق، يرافقهما الفضل شلق وسمير فرنجيه. هناك عقد اجتماع بينه وعبدالحليم خدام وحكمت الشهابي.

سأله الاول ماذا سيفعل بميشال عون؟

ردّ: كما اعطيتم زعماء الميليشيات فرصة للدخول الى السلطة، وبينهم مقاتلون وقتلة، يقتضي اعطاؤه هو ايضاً فرصة.

قال: قتلة؟

ردّ: بينهم سفلة حتى.

وسمّى اسمين.

قال عبدالحليم خدام: أليس هو الذي يريد تكسير رأس سيادة الرئيس ودقّ مسمار في نعش النظام؟

ردّ: كان كلام معارك وليس كلام اقتدار. ما أُعطي اولئك لا يصحّ حجبه عن قائد الجيش ورئيس الحكومة الدستورية.

قال: واذا رفض؟

ردّ جان عبيد: نوجّه اليه انذاراً باخلاء قصر بعبدا. الجيش اللبناني هو الذي يوجّهه اليه.

قال: ليس هناك جيش لبناني.

ردّ: نجمع الويته. الجيش اللبناني هو الذي يقود قمع التمرّد.

قال عبدالحليم خدام: يعني انك لا تريد للجيش السوري ان يتدخّل.

ردّ: نجمع الوية الجيش اللبناني، ويكون الجيش السوري قوة اسناد.

قال: اذاً لا تريد دخول الجيش السوري الى قصر بعبدا.

ردّ: اجتاحت اسرائيل لبنان ووصلت الى بعبدا ولم تدخل القصر الجمهوري، مقر كرامة الشرعية. هل يجوز ان تكون سوريا اقل حرصاً على هذه الكرامة.

طال الاجتماع في الرئاسة السورية من العاشرة الا ربعاً ليلاً حتى الثالثة الا ربعاً فجر 23 تشرين الثاني، انضم اليه الرئيس الأسد لاحقاً، يستمع الى الحوار الدائر بين الرجلين. بدا نائب الرئيس اكثر ايغالاً من رئيسه في فرض الشروط، الى ان قال في ختام الاجتماع: لن تنتظر سوريا جمع الالوية.

كانت تلك اشارة صريحة الى استعجالها انهاء ظاهرة ميشال عون، لكن بآلتها العسكرية.

بخروجه من الاجتماع لحق رفيق الحريري بجان عبيد ـ وكان حضر النصف الساعة الاولى قبل ان ينصرف ـ وهو يصرخ بعدما اخطره عبدالحليم خدام بفشل الاتفاق: لماذا فعلت ذلك؟

قال: هذه ليست ساعتي.

سأل: كيف؟

قال: عندما يريدون رئيساً ليس له ان يبدي ملاحظات على مشروع يُحضّر له، هذا يعني انهم لا يريدونه. طلبتُ حفظ ماء الوجه للجميع.

ردّ رفيق الحريري: أخطأتَ.

كرّر: ليست ساعتي.

مع ذلك لم تُنهَ الظاهرة الا بعد 11 شهراً، 13 تشرين الاول 1990.

سقط جان عبيد في امتحان رئاسة تريدها دمشق وفق شروطها، شأن كل استحقاق مذذاك. كان احد ثلاثة اسماء اتفق عليها حافظ الاسد وسعود الفيصل، ابان مداولات النواب اللبنانيين في مدينة الطائف، لرئاسة لبنانية تتولى تنفيذ اتفاق انهاء الحرب: اثنان من داخل البرلمان هما رينه معوض والياس هراوي، وثالث من خارجه هو جان عبيد.

في رئاسة 2004، بعدما بدا انه المرشح الاوفر حظاً لخلافة اميل لحود، وكان تبلّغ قرار دمشق دعم ترشيحه، اتى القرار 1559 كي يقلب الخيارات رأساً على عقب، فيصير الى تمديد ولاية الرئيس الحالي. اتى استحقاق 2007 المؤجل ستة اشهر على نار 7 ايار 2008 في بيروت، واستحقاق 2014 المؤجل 890 يوماً على نار انتظار انتخاب ميشال عون رئيساً.

هكذا الرجل، استحقاقاً بعد آخر، يقول: لم تأتِ ساعتي بعد.

لجان عبيد كلمة ابدية تجعله يعتقد ان لا رئيس يأتي في لبنان من دونها: ثمة paraphe من السماء يصنع الرئيس: إمضاء إلهي. كان حميد فرنجيه الرئيس المفترض فانتخب كميل شمعون، كان عبد العزيز شهاب المرشح المفترض فانتخب شارل حلو، كان بشير الجميّل الرئيس فحكم امين الجميّل، كذلك بين رينه معوض والياس هراوي.