IMLebanon

بعض الملاحظات الأولية عن تلك الانتخابات

كتبت نهلة الشهال في صحيفة “الحياة”: 

تفرض الانتخابات النيابية التي أجريت في لبنان الأسبوع الماضي الفحص والتحليل، ليس كتمرين اعتيادي يلي كل حدث كبير، خصوصاً وأن هذه انعقدت بعد 9 سنوات من سابقتها، وبعد تمديد لثلاث مرات متتالية بدءاً من 2013 حين انتهت ولاية المجلس الأصلية (وهي تمديدات جرت بحجة عدم ملاءمة الظروف، أو عدم الاتفاق على القانون الانتخابي الجديد الخ…). وليس المهم، استطراداً، رسم خريطة الربح والخسارة لهذه أو تلك من القوى بناء على حسنات أو سيئات القانون الانتخابي الجديد الذي وُضع في التطبيق للمرة الأولى ونعت بـ «النسبي»، ولا حساب المقاعد وتوزيع الأصوات على ضوء الصراعات، وبعضها سياسي وأغلبها حزازات، وتغيب عنها تماماً وفي كل الأحوال المقاربات البرنامجية.

وهذه هي المسألة الأولى. فقد كانت الحملة تبدو مزدهرة وحيوية. وكانت لافتة غابة الإعلانات التي تولتها شركات متخصصة، والتي كان أغلبها متقناً لجهة الشكل، وكان بعضها بأحجام مدهشة، تغلِّف بنايات عالية وضخمة (وخصوصاً منها صور المرشحين)، وسبقتها محاولات (تخضع لفن الإعلان) لإثارة الفضول بفضل الغموض الذي يُفترض به أن يحفز الترقب، كحالة مرشح بقيت لوحات الإعلانات التي ظهر بعد ذلك أنها تخصه تحمل كلمة «أكيد»، إلى أن لحقتها كلمات أخرى وتوقيع الرجل في مرحلة ثانية، وصورته علاوة عليهما في مرحلة ثالثة… أو كحملة بدأت بـ «شو الحل؟»، ومعها أحياناً «معاتبة» للناس (من قبيل عاجبك هيك أي هل انت راضٍ؟ الخ…) لتنتهي بـ «صوتك هو الحل» داعية لمرشحين بعينهم. وكان يمكن افتراض أنها حملة اعلانية لوزارة الداخلية التي شاركت في المجهود بملصقات بعضها رفع الكلفة مع المواطنين فجاءت من قبيل «إيه هِزّا وروح صوت»، أو «بلا نق، روح صوت» الخ… أو كحملة حزب الكتائب عن «نبض التغيير» الذي أظهر لفترة صوراً لشبان وشابات يصرخون غاضبين، وكان يمكن أن يكونوا متظاهرين يساريين مثلاً، لا سيما أن تشكيل الأرزة الكتائبية كان فيه تفنن لا يُلتقط من اللحظة الأولى.

لكن الجميع اكتفى بإطلاق شعارات، بعضها متكرر بتعديلات طفيفة، تمتدح الوفاء مثلاً أو خصالاً أخلاقية أخرى، سواء منها تلك التي تطبع المرشح نفسه أو التي تخاطب منتخِبيه، فبدت أقرب إلى تقاليد «الزجل»، وهو الشعر الشعبي الذي يمتلك تراثاً كبيراً في لبنان، ويقوم في بعض أجزائه على نوع من التوفيق في الإفحام.

وحتى تلك القوى أو الشخصيات التي حاولت قول شيء في «السياسة» فقد ظلت في إطار الشعارات. وقد بدت حملة حزب «القوات اللبنانية» أعلاها شأناً إذ اختارت نشر جملة تنطلق من «صار بدّا» (أي صار مطلوباً) ثم تتوالى على إثرها المتضادات: «صار بدا محاسبة مش محسوبية» مثلاً، (أو «سيادة مش تبعية» حيث يختلف الاشتقاق اللغوي…)، وهكذا بخصوص الفساد والشفافية والمساءلة الخ… ما لم يمنع «القافية» من الإفلات أحياناً، باعتبار الالتزام بالإيقاع ربما، أو بسبب عدم التوفق، فخرجت مثلاً «صار بدا عدالة مش ظلامية» عوضاً عن «ظلم»، لا سيما وأن الظلامية ليست نقيض العدالة وإنما هي نقيض شيء آخر.

ولفتت حملة «تيار المستقبل» الأنظار باعتبارها استندت إلى صورة لـ «خرزة زرقاء» كانت تحتل مكان أحرف العين أو القاف أحياناً- وهو أمر ملائم غرافيكياً- ثم صارت «نحنا الخرزة الزرقا يلّي بتحمي لبنان» أو «خرزة زرقا بعين الطائفية» وهكذا… وكان ذلك أقرب إلى مفهوم تقليدي عن الصون، قد يمكن اعتباره تطوراً بالمقارنة مع الشعار السابق الذي كان من قبيل «معكن والسما زرقا»، وهو مجرد استثمار في اللون المختار تمييزاً لهذا التيار في مقابل ألوان أخرى لتيارات مناوئة كاللون الأصفر مثلاً المنطلِق من علم حزب الله. وكان في حملة المستقبل شعارات سياسية قليلة منها «رفض أي جيش غير الجيش اللبناني»، أو ذلك الشعار الذي بدا تباهياً على سائر بلدان المنطقة (أو حتى ربما شماته بهم؟)، والذي تحدث عن ثبات العملة اللبنانية بينما «بقية العملات حولنا عم تنهار» أو الهدوء والأمان في لبنان بينما «المنطقة تحترق»… فيما يعلم القاصي والداني مدى هشاشة الوضع اللبناني استقراراً أمنياً ونقدياً.

ويستحق هذا الجانب بذاته دراسة طويلة، فهو منجم معطيات طريف، ولكن غني جداً لو قورب تحليلياً، ويمكنه أن يُفصح عن خصائص تخص الوعي العام وتموقع المرشحين، وأخرى تخص المتعارَف على اعتباره مقبولاً لجهة الذوق السائد بحسب المناطق وربما الطوائف أو الأوساط الاجتماعية المستهدفة، ولجهة الإمكانات المالية المتفاوتة للمرشحين، وبالأخص للمرشحات (وقد كن 111 مرشحة لأول مرة في لبنان) الخ… ويا ليت توجِّه كليات الإعلام والعلوم السياسية والسوسيولوجيا (بالأخص) طلاب دراساتها العليا لتناوله عوض المواضيع المكررة أو المبهمة!

إلا أن السمة الأهم التي لا بد من الإشارة إليها (على الأفل) في عجالة كهذه تخص نقطتين: أولاهما التوالد المذهل للوراثة التي تعممت ففاقت ما كان خاصية إقطاعية أو وجاهية مدينية، لا سيما أنها تطال «حديثي نعمة» في السياسة والجاه وحتى المال. فمن شاخ أو تعب أو ينوي الانشغال بميادين أخرى، رشح ابنه، وقد يكون يافعاً أو غير مهيأ، والظاهرة غطت كل المناطق اللبنانية وكل الطوائف. وبهذا المعنى فهناك تجدد لإقطاع سياسي، ولكنه هذه المرة يُمارَس في شكل مباشر ورثّ. وهذا أيضاً مجال لدراسات أكاديمية قد تساعد على التقاط بعض آليات التحكم القائمة في المجتمع والنظام السياسي اللبنانيين، والانكباب على تعريف مفاهيم من قبيل التجديد والشبابية.

وثانيتهما طغيان ردود أفعال على وضعيات بعينها، قد تكون في بعض المناطق تخص استيقاظ عصبيات أولية- أو إيقاظها- كالانتماء إلى عائلات بيروت الأصلية (أو كسروان!) بمواجهة تمدد حضور الوافدين ونفوذهم. وهذه الأخرى دالة للغاية، وبالأخص حيث ظهرت، وهي أمكنة تتميز إما بانغلاقها التاريخي (مثلما كان حال كسروان «قلب لبنان» الصغير، وهو ما لم يعد قائماً) أو بـ «كوزموبوليتيتها» العالية وإن بالحدود الوطنية اللبنانية وليس بالمعنى العالمي (كحال بيروت).

يبقى أن نتائج الانتخابات أفصحت كذلك عن سمات أخرى نختار منها ثلاثاً: رعب حزب الله من اختراق تمثيله للشيعة، الذي حمل السيد نصر الله على الحضور الفاعل في سياق هذه الانتخابات (وما اعتبره نصراً عند ظهور النتيجة سليمة من الخرق). والدلالة المهمة لمضاعفة حزب القوات اللبنانية عدد نوابه، بينما بدا منذ بضع سنوات متلاشياً لصالح التيار الوطني الحر (الجنرال عون) الذي افتُرض فيه أنه مثّل في ذلك الوقت تجديداً، والحاجة لدراسة الانتماء الاجتماعي لقاعدة هذه القوى، وهو ما يحمل بالتأكيد منجم معلومات ودلالات. وأخيراً الهزيمة التامة لتيار اللواء أشرف ريفي في طرابلس الذي لم يتمكن من إيصال حتى رأسه إلى النيابة، بينما حظي بتصويت انتقامي ضد التيارين الآخرين في الانتخابات البلدية قبل عام، ففاز فيها بشكل كامل، وبينما افترض هو إمكان الاستثمار في العصبية السنية «المستفَزة»، والتي ظهر في شكل واضح أنها ليست سمة تلك المدينة، بعكس ما يشاع عنها.