IMLebanon

الانتخابات لم تنجب مفاجآت.. والخطر على الكيان

كتب طلال خوجة في صحيفة “الحياة”:

لم تشكل نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية بالإجمال مفاجأة تذكر، بما فيها اختراق بولا يعقوبيان اليتيم من خارج الأحزاب والقوى الطائفية والتقليدية التي تتقاسم بطريقة أو أخرى بعض مفاصل النظام اللبناني الطائفي. أقول بعض مفاصل لأن المفصل الرئيسي المتعلق بسيادة الدولة أصبح هشاً، نتيجة تفلُّت “حزب الله” وسلاحه من موجبات هذه السيادة، وارتباطه منذ نشوئه بمحور إقليمي ما زالت طموحاته وأطماعه تنعكس تدميراً وتخريباً في البلاد والمجتمعات العربية، خصوصاً بعد انتفاء ذريعة مقاومة العدو الصهيوني وتحرير الجنوب.

وأتى قانون الانتخابات ليعكس رجحان ميزان القوى الداخلي والإقليمي لمصلحة المحور الذي يقوده “حزب الله” في لبنان، وشكّل تتمة منطقية لما سمّي التسوية الرئاسية التي كرست الاختلال، والتي أتت ضمن عنوان ميشال عون رئيساً أو لا رئيس. وما زاد الطين بلة في هذه التسوية، أن فريق ١٤ آذار السيادي ذهب إلى هذه التسوية منهكاً، مفككاً وحتى متأخراً، ما ألقى ظلالاً على نظرية ربط النزاع التي حكمت الحكومات السابقة والتي حفظت نسبة معقولة من التوازن.

وحتى لا نضع المسؤولية في الاختلال الفادح على كاهل الأحزاب الطائفية “السيادية” فقط، دعونا كعلمانيين وأصحاب سوابق يسارية، وكمستقلين عموماً في حراك ١٤ آذار السيادي نتواضع ونعترف بالوهن والضعف الذي يعتري صفوفنا، على رغم النفس الكبير الذي أخذناه بداية عند انطلاق الربيع العربي، خصوصاً في محطته السورية، إذ يقع بلدنا على تماس مباشر مع الفالق الجيوسياسي السوري. وتشكّل تجربة المجلس الوطني الفاشلة والتي “سايرنا” فيها المناضل الراحل سمير فرنجية، الذي لم يكلّ ولم ييأس باستيلاد إطارات وأفكار مستقلة وجامعة وعابرة للطوائف، خير دليل على ضعف الحركة السيادية المستقلة في ١٤ آذار.

النَفَس الثاني أخذه المستقلون من الحراكات المطلبية والحياتية والبيئية التي استطاعات جذب فئات مدنية وحتى شعبية واسعة إلى ميادينها، إلا أن شعاراتها بقيت مبهمة وملتبسة، خصوصاً حين رفعت شعارات سياسية حيّدت فيها القضية السيادية الرئيسية، كما أن أمراض الشخصانية والفردية سادت بعض قياداتها الناشئة أو المركّبة، ما جعل اختراقها سهلاً من مجموعات لطالما شكّلت عبئاً على النضال العلماني والديموقراطي عموماً، وهذا ما أدى إلى شبه تلاشيها قبل الظهور مجدداً في الانتخابات البلدية والنيابية.

فبين النسبية التي تناسب “حزب الله” والأرثوذوكسي بالصوت التفضيلي الذي يفضّله “التيار الوطني الحر” جرى تقسيم الدوائر بما يعكس الواقع المختل، علماً ان بعض القوى من بقايا ١٤ آذار لحست المبرد في صياغة القانون المشوّه، خصوصاً حين أوهمت أو انوهمت أن انتفاخها واقتناصها بعض المقاعد يشكل ضمانة القضية السيادية.

شكّلت صياغة هذا القانون اعترافاً بمشاركة “حزب الله” عبر حلفائه باختراق تمثيل الطائفة السنية في عقر دارها، أي في المدن والمناطق التي شكّلت الخزان البشري السيادي بعد اغتيال رفيق الحريري (واستكملها بغزوة الموتوسيكلات)، علماً أن مشاركته الطوائف المسيحية تتم بالتفاهم مع “التيار الوطني الحر” ومع قوى وشخصيات أخرى. وعلى رغم المرونة الجنبلاطية، إلا أن قدرته في اللعب ضمن الطائفة الدرزية لا يستهان بها. أضيف: وعلى رغم التباعد الشديد بين “حزب الله” و “القوات”، فإن المبالغة وكيل المديح في عفة وزراء ونواب الطرفين ليست كاملة البراءة. ذلك أن منظومة الفساد المرافقة للنظام الطائفي السياسي والمتحوّلة إلى ثقافة في عهد الوصاية، قد تصلّبت وتجذّرت مع ضرب سيادة الدولة وتهديد كيانها وإنشاء دويلة ضمن الدولة والدخول في مواجهات وحروب لحسابات ومصالح خارجية.

على هكذا خلفية بدأت المباراة النيابية غير المتكافئة والتي كادت تخلو من السياسة، لولا الردود الدفاعية على الشعار “الحزب اللاهي”: “نحمي ونبني”، والذي كان يشي بمزيد من اقتحام الحلبة الداخلية، على طريقة: السياسة والأمن لنا والإدارة والاقتصاد والاجتماع وحتى النقد لنا ولكم، وما إدخال مفردة وزارة التخطيط سوى التعبير الصارخ عن هذا التوجّه تحت ذريعة محاربة الفساد الذي يساهم “حزب الله” في أبرز تجلّياته، عبر إضعافه مؤسسات الدولة السيادية وحماية التهريب المقاوم من المعابر والمطار والمرفأ، وعبر المساهمة في تورّم القطاع العام وتدني إنتاجه وتغطية هدر وارتكابات حلفائه، علماً أن البعض يجادل بأن هذا التوجّه يعكس مؤشرات إيجابية.

قلنا منذ البداية إن القوى المستقلة والعابرة للطوائف ليست وازنة، وإن بعض المجموعات المبتدعة حديثاً، تحت مسمى “المجتمع المدني”، تحاول اختصار طريق النضال الديموقراطي الشاق والمعقّد والمتعرّج، بالقفز إلى ساحة النجمة تحت شعار مكافحة الفساد وبرامج غب الطلب وشتم الطبقة السياسية التي تعتمد المحاصصة والزبائنية، وكأن هذه الطبقة أتت من كوكب آخر، خصوصاً حين رفعت شعاراً ملتبساً “كلن يعني كلن” وهو ما أراح صدر الحزب المسلح حتى الأسنان والذي يشكّل الخطر الأكبر على كيان البلد وأمنه، وبالطبع على اقتصاده المتراجع بفضل تراجع الاستثمارات، الخليجية منها خصوصاً. لذا لم يكن غريباً، وإن كان معيباً، أن يلجأ بعض الخاسرين إلى شتم الناس بعد صدور نتائجه المريعة مساوياً بين الناس والطبقة السياسية، على طريقة “مثل ما تكونون يولّى عليكم”

فحين يصبح الموضوع “قم لأقعد محلك لأني أنظف منك”، فستختار الناس من تعتقد أنه الأفضل في حماية مصالحها الفردية والجماعية في نظام الطوائف وليس من يعدها بقصور من رمال.

هكذا تكاد تتطابق مصالح الناس مع مصالح زعماء الطوائف، وهكذا نفهم التفاف العامة حول سعد الحريري في زياراته للأحياء والقرى ذات الغالبية السنية، على رغم تراجعه واستضعافه نتيجة الموازين المختلة وبعض الخيارات، ما مكّنه من تخفيف الخسائر المتوقعة من القانون الانتخابي، خصوصاً حين استطاع استنهاض العامة حول خطر “حزب الله” على الكيان وعلى التوازن الطائفي، على رغم تأكيده أنه ماضٍ في سياسة الاستقرار والتسوية التي ظلّلتها والتي سماها الواقعية السياسية.

وهكذا يصبح النظام الطائفي الذي يكرهه وعن حق العلمانيون واليساريون، قادراً على منع “حزب الله” من الإطباق الكلي على البلد، خصوصاً أن سمير جعجع ووليد جنبلاط حصدا نتائج مهمة تحت سقف النظام الطائفي وحتى حليف “حزب الله” المسيحي استعمل لغة ملتبسة ومذهبية، منتقداً بعض تداعيات الشيعية السياسية على الجمهور المسيحي لشد العصب بمواجهة الصعود القواتي. فهذا النظام الطائفي لطالما سمح منذ نشوئه بفسحة من الحرية والمناورة، كما شكل سداً بوجه الانقلابات والتفرّد المطلق على رغم فائض القوة التي لا تصرف في أحيان كثيرة. وللمفارقة فإن هذا الواقع الملتبس يعني أن الدولة ضعيفة والنظام قوي وإن نسبياً، ما يجعل مهمة القوى السيادية المستقلة أكثر تعقيداً وصعوبة.

هل نضمر في تحليلنا للواقع السياسي ولتوزّع القوى السياسية بعد الانتخابات يأساً من صعود قوى لبنانية مستقلة عابرة للطوائف في هذه المرحلة، أم ندعو إلى تبصُّر قواها المتبعثرة بتعقيدات الواقع السياسي اللبناني وتناقضاته المختلفة والنظر إلى خطورة المرحلة، خصوصاً مع تصاعد المواجهات الدولية والإقليمية، وحشر البلد الصغير بين زوايا حادة؟ وفي الحقيقة فإنه يجري حشر المنطقة العربية، والمشرقية خصوصاً، بين سندان إسرائيل وإيران وتركيا ومطرقتي روسيا وأميركا، ما يجعل مهمة اليساريين والعلمانيين والمتنوّرين وعموم النخب كمن يحفر الجبل بإبرة.

مع ذلك لا أرى طريقاً أقصر. أما القفز إلى آخر السباق والتعامي عن طبيعة الأخطار الكيانية وغيرها من الأخطار البنيوية فلن يؤدي سوى لمزيد من الإحباط واليأس المترافق مع حصة وازنة من الشتائم، ما يزيد في هامشية هذه النخب ويزيد في انكشاف القوى السيادية لتصبح أكثر مذهبية وأقل قدرة على مجابهة الأخطار المحدقة بالبلد، بما فيها الخطر الكياني.