IMLebanon

في سمائنا “اف 35”

كتب حسن عليق في صحيفة “الأخبار”: 

في الثاني والعشرين من أيار الماضي، عرض قائد سلاح الجو الإسرائيلي صورة جوية لبيروت. الصورة لم تكن لعاصمتنا. بيروت كانت في الخلفية: رأس مكتظّ بالأبنية في البحر الأبيض المتوسط. الصورة التُقِطت من علوّ شاهق، فبدت سلسلة جبال لبنان الغربية، وخلفها سهل البقاع. إلى يمين الصورة مطار رفيق الحريري الدولي، وإلى يسارها خليج جونية. الأرض اللبنانية ليست سوى الخلفية. في مركز الصورة، طائرة «اف 35». المقاتلة الأميركية ذات البدن الضخم، والمصنوعة بهدف التفوق في الجو، وتنفيذ عمليات أرضية بعيدة المدى، تحلّق في سمائنا. الصورة لم تستفز أحداً في لبنان. مجالُنا الجوي ليس لنا. الطائرات الإسرائيلية تخترقه بصورة يومية. اعتاد سكان الجنوب وجزء من البقاع سماع صوت الطائرات المعادية حتى بات مألوفاً يُستخدم لإطلاق النكات. على مدى السنوات الماضية، تحدّث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن الخروقات الجوية الإسرائيلية. مواجهة سلاح الجو الإسرائيلي غاية في الصعوبة، في ظل دعم العدو الأميركي اللامحدود للعدو الإسرائيلي في هذا المجال. إلا أن من عرف المقاومة في لبنان، واقترب من عقلها، يُدرك أن فيها من يضع نصب عينيه الطائرات الإسرائيلية كأهداف تتهاوى مستقبلاً، أو على الأقل، بذل كل جهد ممكن لجعل سمائنا محرّمة على العدو يوماً ما.

الولايات المتحدة الأميركية التي منحت إسرائيل طائرات «اف 35» تتسيّد بها مجالنا الجوي، تمنح الجيش اللبناني في المقابل طائرات «سوبر توكانو»، المطوّرة من طائرات ملاحقة المهربين عبر الحدود. والمبارزة بين الـ«سوبر توكانو» والـ«اف 35» تبدو كمن يضع على خط انطلاق في حلبة سباق سيارة «ماكلارين» إلى جانب جرار زراعي مجنزر بمحرك صغير. أصلاً، المقارنة بين «اف 35» وسوبر توكانو تثير الضحك إلى حد الغثيان. رغم ذلك، لم يجرؤ مسؤول لبناني واحد على تسجيل أي اعتراض. تحليق طائرة «اف 35» في سمائنا أمر لا يستحق الوقوف عنده. حتى وسائل الإعلام تعمّدت عدم إعطاء الخبر حجمه الطبيعي.

مسلّحة بالـ«اف 35» فوق رؤوسنا، تجول السفيرة الأميركية، وزميليها الفرنسي والبريطاني، على القوى السياسية، مطالبين بوضع الاستراتيجية الدفاعية على طاولة البحث. تلقّف هؤلاء دعوة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى بحث الاستراتيجية بعد الانتخابات النيابية، ليحرفوا الأمر عن مساره، ساعين إلى حرف النقاش نحو مسار وحيد: نزع سلاح المقاومة، تحت شعار وضعه بتصرّف الدولة. صحيح أن حزب الله أعلن موافقته على دعوة عون إلى بحث الاستراتيجية الدفاعية. وصحيح أيضاً أنه لا يمكن وضع موقف الرئيس في إطار السياسة الأميركية ـــــ البريطانية ـــــ الفرنسية، إلا أنّ على قيادة المقاومة أن تكون واضحة في التعبير عن نظرتها إلى هذا الملف الشديد الحساسية. فقوة المقاومة، المتراكمة منذ عقود، دماً وأرواحاً وجراحاً وسلاحاً وتدريبا وخوضاً لحروب لم تنته بعد، أوجدت معادلة ردع أدت إلى حماية لبنان من أي عدوان واسع او اعتداء إسرائيلي مباشر. بقيت ساحتان: الساحة الاستخبارية ولها أسيادها وقواعدها، وسلاح الجو. المساس بمعادلة الردع الحالية ممنوع. هو يرقى إلى جريمة الخيانة العظمى بحق لبنان وسكانه. التجربة الوحيدة الناجحة، في شتى المجالات، في لبنان، هي تجربة حمايته على يد المقاومة. فلماذا العبث بها، تارة تحت عنوان وضع قوة المقاومة بيد الدولة (العاجزة عن منع متعهد من الاستيلاء على الملك العام، ومن حل أزمة «المجارير»)، وطوراً بهدف الانصياع لرغبات ثلاثي واشنطن ــــ لندن باريس المسمّى «مجتمعاً دولياً»؟ البند الوحيد على طاولة الاستراتيجية الدفاعية هو أن «اف 35» تحلّق في سمائنا، وكيفية منعها. فلتبدأ الدولة من هنا. وبعد نجاحها في هذا الملف، فلتبحث عن بنود أخرى لدرسها. أمننا ليس مادة لعبث الهواة، ولا لتحقيق أمنيات سفراء ثقيلي الظل لدول لا تكنّ لنا سوى العداء.

إذا كنا لا نريد الاستفادة من تجربتنا الخاصة، ولا من تجربة الفلسطينيين المظلومين في قطاع غزة، فالمثل اليمني يُبث مباشرة أمام أعيننا. لا يكفي أن تملك القدرة للدفاع عن نفسك، ولاستنزاف عدوّك. عليك أن تمتلك القوة لردع أعدائك، أي منعهم من مباشرة الحرب ضدك. إذا فُرضت عليك المعركة، فلن يقاتلك عدوُّك وحدَه. سيشاركه حلفاؤه قتل أطفالك. وستفتح الحرب سوقاً لكل انتهازي ولو كان تافهاً (الدور الفرنسي في اليمن نموذجاً)، ولكل مرتزق (النظام السوداني مثلاً)، ليدمّروا مدنك وقراك واقتصادك وآثارك، وليسعوا إلى إبادتك. دول لا مصلحة لها في إقليمك، لا من قريب ولا من بعيد، ستأتي من قارات أخرى لتعتدي عليك (الدور المغربي في اليمن على سبيل المثال). عدم امتلاكك ما يردع أعداءك سيجعل أياً كان حاضراً للقتال ضدّك. ومَن يقدّم نفسه ضامناً للسلم والأمن ولحقوق الإنسان، ستكون له اليد الطولى في حصار شعبك وتجويعه.

من لا يرد أن يرى، فليبقَ مغمضاً عينيه. أصلاً، رأيه لا يقدّم ولا يؤخر. أما الحريصون على أمن لبنان، فما عليهم سوى البحث عن سبل لتعزيز الاستراتيجية الدفاعية المعتمدة حالياً، لكي لا نقع في التجربة اليمينة، وعلى رأس جدول أعمالهم أنّ في سمائنا «اف 35»، وأن طائرات التجسس لا تغادر أجواء الجنوب. وبالنسبة إلى طائرات «سوبر توكانو» التي يجري تقديمها كسلاح فعال لحمايتنا، فلنبدأ باختبارها. هل هي قادرة، سياسياً، على إسقاط طائرة إسرائيلية من دون طيار؟