IMLebanon

بعلبك ــ الهرمل: الدولة على رأس المطلوبين

كتب وفيق قانصوه في صحيفة “ألأخبار”:

الدولة، بأجهزتها الأمنية المختلفة، موجودة بكثافة في منطقة البقاع الشمالي. غياب القرار السياسي بفرض الأمن هو ما يترك تلك «البلاد» فريسة لاستباحة بضع عشرات من «الزعران». آخر ما يريده البقاعيون خطة أمنية ـــ عسكرية توقف أبناءهم على الشبهة وتعاملهم كخارجين على القانون وتضعهم في مواجهة عناصر الجيش. وليس من ضمن اهتماماتهم مرور التلزيمات في إدارة المناقصات، كخيار إصلاحي على سبيل المثال لا الحصر. همّهم الأول، قبل تنظيف بيئتهم من «الزعران» وبعده، حصّتهم من خدمات الدولة.

قبل شهور، أقامت دورية للجيش اللبناني حاجزاً طياراً في الساحة الرئيسية لمدينة الهرمل. أراد صاحب أحد المحال التجارية الاحتفاء بحضور «الدولة»، والتقاط صورة للحاجز، من داخل محله، تخليداً لـ«اللحظة التاريخية». كانت النتيجة احتجازه لساعات مكبلاً في الـ«ريو»، كالمطلوبين الخطرين، أمام أعين المارة من أبناء بلدته قبل أن يوافق آمر الدورية على إطلاقه أخيراً.

الدولة الحاضرة

من مدخل مدينة بعلبك الى الهرمل، ستة حواجز رئيسية للجيش: حاجز مدخل بعلبك، مفرق يونين، مفرق حربتا، اللبوة، المحطة، جسر العاصي، بمعدل واحد كل عشرة كيلومترات. حواجز تؤخّر العائدين من قراهم الى الضواحي البائسة للعاصمة في نهاية كل أسبوع لساعات، قبل أن يعلقوا مجدداً في «عنق زجاجة» ضهر البيدر، الشريان الرئيسي لكل البقاعيين. رغم ذلك، يمرّ عبرها كل ما يمكن أن يخطر على بال. لا نتحدث هنا عن كبار المطلوبين ولا عن أسلحة أو مخدرات أو سيارات مسروقة فقط، بل، على سبيل المثال، عن أحشاء الدجاج التي تحملها شاحنات صغيرة من بيروت ومن مناطق أخرى لحساب بعض مربّي الأسماك في نهر العاصي. الرائحة الكريهة لهذه «البضاعة» تزكم الأنوف على مسافة كيلومترات، فيما «يعجز» عناصر الحواجز الأمنية عن استنشاقها!

على طريق بعلبك الدولي، توقف الكمائن «الطيّارة» لقوى الأمن الداخلي، يومياً، السيارات «المفيّمة» وتجبر أصحابها على نزع «الفيميه» وتغرّمهم ما لم يكونوا حائزين رخصاً. يومياً أيضاً، تنظّم رادارات قوى الأمن الداخلي عشرات محاضر ضبط السير. في أقل من عام، زاد عدد هذه المحاضر في منطقة البقاع على 62 ألفاً!

في البقاع الشمالي، تمنع وزارة الداخلية البلديات من إعطاء رخص بناء أو ترميم أو توسيع، ويُمنع حفر آبار مياه، إلا لمن كان قادراً على «تزبيط» أموره مع المخافر الأمنية، أو نيل استثناء من المدير العام لقوى الأمن الداخلي. والأخير، اللواء عماد عثمان، كان كريماً جداً في الشهر الذي سبق الانتخابات النيابية الأخيرة، إذ وقع نحو 2300 استثناء من هذا النوع!

على عكس الشائع، «الدولة»، بالمعنى الأمني، حاضرة جداً في البقاع الشمالي. حاضرة في حواجز الجيش وثُكَنِه، وفي مراكز الأمن العام ومخافر الدرك ورجال المخابرات وفرع المعلومات والاستقصاء والتحري، وكمائن رجال الجمارك وعناصر السير… كما يحضر ضباط أجهزتها، بقوة، بصورهم المرفوعة في لافتات تهنئهم بتسلّمهم مواقع في مؤسساتهم الأمنية، ممهورة بتواقيع «أصدقاء» وعشائر وعائلات. بات لبعض هؤلاء «أصدقاء» كثر هنا. لم تعد «الخدمة» في هذه «الأنحاء»، كما كان شائعاً، «نفياً» أو عقوبة مسلكية للبعض، بل مزراب ذهب: تكفي سنتان حتى يثري بعض الضباط «لولد الولد».

والحال هذه، يصعب إقناع أحد في البقاع الشمالي بأن الدولة غير موجودة وغير قادرة. هي قادرة جداً الى حد استرجاع سيارة قريب رئيس أحد الأجهزة الأمنية بعد أقل من 24 ساعة على سرقتها. الأصح أن لا قرار بتفعيل هذا الوجود وهذه القدرة، ولا بخروج الأجهزة الأمنية من حال النأي بالنفس. وهو نأي يجعل كل هذا الحضور الطاغي يتلاشى لدى اندلاع أي إشكال أمني. لا علاقة لذلك بـ«الثقافة العشائرية» التي «أدمنت» الخروج على القانون، كما يحب البعض أن يعبّر. يذكر كثيرون كيف كان وجود عنصر واحد من المخابرات السورية على حاجز، في وسط أي بلدة، كفيلاً بإلزام معظم أبناء العشائر والعائلات بيوتهم في الثمانينيات والتسعينيات، عندما كانت هذه «الثقافة» في أوجها. اليوم، وهنت اللحمة العشائرية بعدما فرّخت العشائر أفخاذاً وأجباباً، ولم يعد «شيخ العشيرة» يمون على كل أبنائها. المفارقة، أن الأجهزة الأمنية، والقوى السياسية أيضاً، هي التي تعيد الاعتبار للمفاهيم العشائرية التي كاد أصحابها يغادرونها. فنرى وزراء ونواباً ومشايخ وضباطاً هم من يسارعون الى «الصلح العشائري» ورعايته لدى وقوع أي إشكال «حجباً للدم».

تعرف الأجهزة الأمنية تماماً الـ«120 أزعر» الذين أشار إليهم الرئيس نبيه بري الأسبوع الفائت، وتعرف بؤرهم ومنازلهم وتجمعاتهم. كما يعرف كل أهالي بعلبك من يقودون السيارات «المفيّمة» في مرجة رأس العين، ومن يفرضون الخوّات في سوق المدينة التجاري، ومن أحرق معمل فرز النفايات على أطرافها. كل أهالي «بلاد» بعلبك ــــ الهرمل يعرفون «المطاليب» الخطرين بالأسماء والعناوين. يعرفون أنهم في حورتعلا لا يتجاوزون السبعة، وفي الحمّودية (سهل بريتال) لا يتعدّون العشرين، وفي بريتال يناهزون العشرة، وفي الشراونة يصل عددهم الى نحو 15، وفي تل الأبيض 10، ومثلهم في الهرمل والقصر واليمّونة وعلي النهري والدار الواسعة وغيرها… كما يعرفون تماماً الطرق الترابية التي يسلكها سارقو السيارات من بعلبك الى أقاصي الهرمل، وصولاً الى الحدود السورية. وبالقدر نفسه، يعرفون أن خطط سير الدوريات الأمنية تصل الى المطلوبين أولاً بأول.

«القلّة تولّد النقار»

رغم بلوغ القرف أعلى مستوياته، فإن آخر ما يريده البقاعيون خطة أمنية ـــ عسكرية توقف أبناءهم على الشبهة و«تبهدلهم» على الحواجز وتدهم منازلهم وتضعهم في مواجهة عناصر الجيش. خطة كهذه لا بد ستفتر همّة القيّمين عليها بعد فترة قصيرة لتعود الأمور الى سابق عهدها. «القلّة تولّد النقار». وفي منطقة يبلغ معدل الأُسَر الواقعة تحت خط الفقر فيها 35%، وزاد النزوح السوري في إغراق شبابها في دوامة البطالة، ليس بالأمن وحده يحيا الانسان. قبل ذلك وبعده، يريد البقاعيون من دولتهم الاعتراف بهم لبنانيين، ووقف التمييز الطائفي بينهم، والمناطقي مع بقية مواطنيهم. يريدون من يفسّر لهم، مثلاً، لماذا يُمنع العمل في المقالع والكسارات وتُستثنى عرسال وقوسايا ودير الغزال؟ ولماذا تزوّد بلدة القاع بالكهرباء 24/24 عقب التفجير الانتحاري الذي استهدفها عام 2016، فيما بقيت جارتها الهرمل التي تعرضت لثلاثة تفجيرات انتحارية واستهدفت بأكثر من 300 صاروخ من الجماعات الإرهابية غارقة في الظلام؟ ولماذا المحافظة التي استحدثت لمنطقتهم لا تزال، بعد 15 عاماً، تفتقر الى كثير من الدوائر الرسمية، ما يلزمهم بالذهاب الى زحلة حتى لتصديق «إخراج قيد»؟ ولماذا تسجل منطقتهم أعلى نسبة وفيات للأطفال، قبل الولادة وخلالها وبعدها، نتيجة غياب العناية الصحية؟ وكيف أن عشرات البلدات والقرى على مساحة 800 كيلومتر مربع، من مقنة الى القصر، يسكنها نحو 360 ألفاً وأكثر من 90 ألف نازح سوري، تعتمد على 144 سريراً في ثلاثة مستشفيات، غير قادرة على استقبال الحالات الحرجة؟ بهذا المعنى، تصبح «الدولة» أول «المطلوبين» في بعلبك ـــ الهرمل.

مسؤولية حزب الله

التوزيع العادل للمسؤوليات يقتضي الإشارة أيضاً الى أن جزءاً مما يجري تتحمّل مسؤوليته الى حد كبير القوى السياسية النافذة في المنطقة، وتحديداً حزب الله وحركة أمل. بالتأكيد، تبقى المقاومة أولوية، وهو ما عبّر عنه البقاعيون بتصويتهم الكثيف في الانتخابات الأخيرة. المقاومة أولوية، ولكن… تحتاج إلى كثير من الجهد لإقناع أيّ من أبناء البقاع الشمالي بأن المقاومة التي باتت رقماً صعباً في الاستراتيجيات الدولية عاجزة، بحضورها الحكومي منذ 2005 والنيابي منذ 1992، عن الضغط لتنفيذ مشروع «استراتيجي» واحد في البقاع الشمالي، من نوع مسح الأراضي وفرزها، أو العمل على إعادة تشغيل خط سكك الحديد، أو العفو المشروط عن عشرات آلاف المطلوبين بجنح. كل ذرائع الدنيا لن تقنع ابن الهرمل، مثلاً، لماذا عليه قطع 30 كيلومتراً للوصول الى أقرب كاتب عدل، و60 كيلومتراً للاستحصال على سجل عدلي، و90 كيلومتراً لإجراء معاينة ميكانيكية، ولماذا ليس بين سكان المدينة وقضائها الـ 80 ألفاً ممن يحمل الآلاف منهم إجازات جامعية، قاض واحد أو موظف من الفئة الأولى، ولماذا يُحرم شبانهم من دخول المدرسة الحربية.

التململ الذي عبّر عنه البقاعيون عشية الانتخابات، واستدعى تدخلاً شخصياً من السيد حسن نصر الله، جاء غداة حسم الجيش وحزب الله معركة الجرود وطرد الإرهابيين منها. وفي وقت يعدّ فيه الحزب أكبر «رب عمل» في هذه المناطق، وتقوم مؤسساته الخدماتية والمالية كالإمداد وجهاد البناء والعمل الاجتماعي والقرض الحسن، مقام «دولة الرعاية». هذا ليس تفصيلاً. صحيح جداً أن جزءاً من هذا التململ غذّاه معادون للمقاومة من خارج الحدود ضمن حملة شيطنة الحزب في بيئته الحاضنة. لكن الصحيح أيضاً أن الحزب يتحمّل، في نظر كثيرين من أبناء هذه البيئة، جزءاً معتبراً من المسؤولية عن تحصيل حقوقهم. يدركون أولوية حماية المقاومة بالنسبة الى حزب الله، بمقدار ما يرون فيه مكوّناً في السلطة التنفيذية مسؤولاً عن إخراجهم من ضائقتهم التي يقيمون فيها منذ عقود طويلة. ضائقة تجعل شبابهم فريسة البطالة والمخدرات. يستهويهم شعار مكافحة الفساد الذي رفعه حزب الله منذ الانتخابات النيابية الأخيرة. لكن، ولنكن صريحين، لن يعنيهم كثيراً تحرير الأملاك البحرية من الناقورة الى العبدة طالما أنه «لا بحر في بعلبك»، ولا مرور التلزيمات بهيئة المناقصات طالما أن أحداً لا يحاسب على سوء الأشغال، ولا خفض فاتورة الاتصالات طالما أن «التشريجة» بخمسة دولارات. هذا، على أهميّته، بالنسبة إليهم نوع من الترف. في بلد يجهر سياسيوه وأطرافه السياسيون بمبدأ «عالسكين يا بطيخ»، يريد هؤلاء، أولاً، حصتهم من «بطيخة» الخدمات والتوظيف والإنماء…