IMLebanon

“التنظيم المدني” في لبنان: أداة لإنتاج اللامساواة

كتبت ايلده الغصين في “الاخبار”:

أدّت السياسات المدينيّة المتبعة على مرّ السنين إلى تعطيل حياة الناس اليومية، وتهميشهم عن القرارات التي يتبلّغون بها من دون المشاركة في صياغتها أو إبداء الرأي فيها. وبفعل التوجّه الخدماتي والسياحي والتجاري، تحوّل البلد إلى ورشة بناء تشوّه البيئة بصورة ممنهجة، وتقضي على المساحات العامة، وتساهم في إقفال حدائق عامة وإزالة محميّات طبيعية، وتضع اليد على الأملاك العامة البحرية. أدّت هذه السياسات في كثير من الأحيان إلى إصدار تصاميم توجيهية لا تلحظ حاجات السكان، ولا تحسّن في مستوى حياتهم ونوعيّتها، بل على العكس، تساهم في تدمير ما تبقى لهم من مساحات عامّة ومتنفس في فضاء المدينة الضيّق

عمليّات الإقصاء: الدامور نموذجاً

يوثّق منشور صادر عن «استديو أشغال عامة» تحت عنوان «إنتاج اللامساواة في تنظيم الأراضي اللبنانية»، الآثار التي لحقت بمناطق عدّة، نتيجة التخطيط السيئ والرؤية الناقصة التي تحكمها الفوضى في تنظيم الأراضي اللبنانية. يبيّن هذا المشروع البحثي الذي انطلق العمل عليه في تموز 2017 بالتعاون مع «المفكرة القانونية»، أن النسبة الأكبر من الأراضي اللبنانية (81%) غير منظّمة، فيما النسبة المتبقية التي صدرت بشأنها مراسيم تنظيمية غالباً ما وُجّهت نحو مراكمة مصالح خاصّة. يغيّب مسار التخطيطات التوجيهيّة السكان عن القرار والمشاركة، انطلاقاً من «المديرية العامة للتنظيم المدني»، وصولاً إلى مجلس الوزراء، وفق ما يبيّن المنشور المعروض، وهو يغلّب المنطق النيوليبرالي وينتهك حقّ السكن الذي يشترط أن يكون المسكن قابلاً للسكن تتوافر فيه الشروط الصحيّة اللائقة ويقع ضمن بيئة سليمة. في المقابل، منح النافذين امتيازات كرّستها القوانين والمراسيم الصادرة التي تراعي مصالحهم وتهمّش الفئات الفقيرة وتتجاهل الحقوق الأساسية للسكان، وخصوصاً حقّهم في الاطلاع على مشاريع تؤثّر على نوعية حياتهم إلا بعد أن تصبح نافذة. شمل المشروع البحثي جولات على 15 منطقة لبنانية من الشمال إلى الجنوب، ودراسة التصاميم التوجيهية والتفصيلية الصادرة بشأنها، والتحوّلات الطارئة عليها. في ما يلي أبرز النماذج التي تمّت دراستها.

في الدامور والدبيّة وساحل الشوف، استغل السياسيون المجازر التي وقعت خلال الحرب لإنتاج خطاب تخويفي، نتج منه مزيد من الإقصاء. وجاءت التصاميم التوجيهية المبنية على أسس طبقيّة لتقصي السكان غير المرغوب فيهم من غير القادرين على تحمّل تكاليف السكن والدخول إلى المشاريع الجديدة على الشاطئ.

في صحراء الشويفات، قصّة أخرى مع تخطيط جغرافيات الحرب وإنتاج السكن والطرقات والمناطق الصناعية على يد المنظمات السياسية ذات الطابع الطائفي، بما يبيّن أن المراسيم لا تلحظ مبدأ العيش المشترك ومشاركة الفئات غير الميسورة.

أما في الدبيّة، فقد صدر تصميم توجيهي في 2016 علماً بأنها ليست المرة الأولى التي تصدر فيها تصاميم توجيهية للدبيّة، وجرى إلغاء محميات… هذا جزء مما عمل عليه المنشور. وبعنوان «هواجس الماضي في بناء المستقبل: هل تشجّع التصاميم التوجيهيّة للدامور على العودة؟»، قدّمت المعمارية والباحثة المدينيّة في «استديو أشغال عامة» عبير سقسوق مراجعة للتصاميم التوجيهية في منطقة الدامور وللتحولات التي طرأت على المنطقة قبل الحرب اللبنانية وبعدها.

استقطبت مناطق ساحل الشوف والإقليم موجات السكان الأكثر هشاشة للاستقرار فيها بعدما بدأت عمليات إعادة الإعمار في العاصمة. واستفاد السكان من قرب المنطقة للمدينة ومن المشاريع العقارية الجديدة فيها، ما أدى إلى ضغط إضافي على الموارد وتحوّلات سريعة في البيئة الريفية أدت بدورها إلى تغذية التوترات الطائفية والسياسية بين وافدين سنّة وشيعة هاربين من ارتفاع تكاليف السكن في بيروت ومالكين مسيحيين مهجّرين لم تعد إلا نسبة صغيرة منهم بعدما تكيّف المهجرون مع مناطق سكنهم «الجديدة». وبعد أول تصميم توجيهي لمنطقة الدامور في 1978، صدر في 2008 تصميم جديد استحدث تصنيفات سكنية جديدة، منها مناطق سكن خاصة أو سكن لعائلة واحدة، كما ألغى المنطقة الصناعية واستبدلها بمنطقة مصنفة سكناً خاصاً. كما أوجد التصميم الجديد منطقة تصنيفها سياحي على طول الخط الساحلي وهي منطقة منتجعات سياحية (17 منتجعاً). في موازاة ذلك، تبرز نسبة مرتفعة من ملكية العقارات حيث المنتجعات وأماكن السكن الفاخرة تابعة لمستثمرين ولشركات عقارية بما يتناقض وخطاب «الدامور لأهلها». التساؤلات تطرح هنا عن علاقة إصدار تصميم 2008 بمشروع «المطلّ» السكني الذي تملّك أصحابه (شركة الاستثمار والتطوير العقاري لصاحبيها النائب السابق إيلي عون والسعودي طارق الرسن) أراضي في الدامور بعدما ساهمت البلدية في تغيير تصنيفها من أراض لا يسمح البناء عليها إلى أراض للسكن الخاص. بما يشير إلى أن جوهر المسألة هو في المصالح الاقتصادية والرؤية الطبقية لمستقبل الدامور، حيث تستثني منها من لا يتحمّل كلفة العيش فيها.

تهديد الصحّة العامة: زوق مكايل ومعمل الموت

في سياق تاريخي وفي سلسلة تصاميم توجيهية، نشأت مناطق صناعية تهدّد الصحة العامة، وخصوصاً الأحياء السكنيّة المحيطة بها. وهذا بالتحديد ما حصل ويحصل في زوق مكايل وغيرها من المناطق. وقد قدّمت الباحثة المدينية نادين بكداش دراسة عن المنطقة بعنوان «تنظيم زوق مكايل يغيّب معمل الموت».

في الزوق، تدّعي البلدية أن لا دور لها في إيجاد حلّ لمعمل الموت، ولا علاقة لها بالتصاميم التوجيهية التي زادت من البناء في الأحياء السكنية المحيطة بالمعمل، على عكس ما يجب أن يحدث. بالقرب من المعمل، يزور السكان المستشفيات بانتظام، وترتفع الفاتورة الصحيّة للمنطقة وتنتشر الأمراض الصدرية والربو ومشاكل التنفس.

خلال الندوة التي نظمها «استديو أشغال عامة»، يقول رئيس بلدية زوق مكايل إيلي بعينو: «في بيتي الذي يبعد 150 متراً عن المعمل، إذا بقي القميص لأكثر من ساعة على المنشر تظهر عليه بقع صفراء». وتعلن البلدية في الوقت نفسه أن لا علاقة لها بالتعديات على الأملاك البحرية «لأنها آتية من فوق». وتتجه البلدية إلى زيادة الاستثمار السياحي في المنطقة على حساب الصناعي، شاكية من المعمل وضرورة بقائه، إنما مع تعديلات في كيفية إنتاجه، كما تشكو من نفق نهر الكلب الذي يشهد على مرور 170 ألف سيارة يومياً ويحتاج إلى أكثر من 3 مسارب.

وفيما شهدت زوق مكايل أوسع نشاط عمراني خلال الحرب، وأكبر استقطاب للنازحين المسيحيين، كانت المنطقة منظمة لاستقبال النازحين ولم تشهد عشوائيات، كما حدث في غير مناطق. لكن التعديات الحقيقية حدثت على الشاطئ ونشأت مجمعات سياحية كبرى في شكل غير قانوني، وبنتيجتها تآكلت مساحات الشاطئ ولم يبقَ منه إلا رقعة صغيرة لم تحتلّها التعدّيات.

فورة الثمانينات العمرانية في المنطقة ظهرت نتائجها لاحقاً في التسعينيات، حيث بدأت المشاكل البيئية والصحية تظهر لدى السكان نتيجة «معمل الموت»، وبدل خفض عامل الاستثمار والبناء بالقرب منه، صدر في 1998 مرسوم جمهوري رفع من قيمة الاستثمار بالقرب من المصنع. كما صدرت في 2002 مراسيم لزوق مصبح وزوق مكايل ألغت الحدائق العامة. في المقابل، خفّض عامل الاستثمار في أعالي الزوق فقط وفق المخطط التوجيهي الجديد، وظهرت منطقتان مصنّفتان: واحدة للفيلات ومنطقة السوق القديم. بينما زاد البناء في المناطق المحيطة بالمعمل، وهي الأكثر تضرّراً منه. إضافة إلى هذا كلّه، صدر منذ أشهر مرسوم يقضي بإنشاء أكبر منتجع على شاطئ الزوق، وبذلك يكون سكان المنطقة قد أُطبق عليهم من المعمل نفسه ومن الشاطئ المفترض أن يكون متنفّساً لهم. تحوّلت زوق مكايل من ضيعة في العشرينيات تضم نحو 1300 نسمة، وسهلاً زراعياً، إلى مدينة فيها منطقة صناعية ويسكنها نحو 30 ألف نسمة.

التجمّعات غير الرسمية: إزالة حيّ شبريحا

يهدّد استكمال أوتوستراد الجنوب السريع قسم الزهراني ـــــ صور اختراق تجمعات سكنية غير رسمية، بينها تجمّع شبريحا في العباسيّة وفق التعديل الذي طرأ على التخطيط الأساسي للأوتوستراد في عام 1995، وحيّده عن منطقة المعشوق في صور بهدف الحفاظ على الآثار التي اكتشفت في المنطقة، ونتيجة تدخّل نافذين لتجنّب استملاك أراضٍ يملكونها ومصابة بالتخطيط. وبحسب دراسة ثانية في منشور «استديو أشغال عامة»، بعنوان «الأرض لمن يزرعها: أصحاب الحقوق في الشبريحا» للباحثة نادين بكداش، يتّضح أنه في العام الماضي انطلق تنفيذ المخططات والتي تستهدف 47 منزلاً على العقار الرقم 66 وتهدّد عائلات بالتشريد.

لا تزال 23 عائلة تتمسّك بمنازلها منذ 3 سنوات وترفض الإخلاء مقابل تعويضات. منذ 2015، المشروع متوقف بسبب اعتراضات السكان، والمتعهد يتقاضى بدلاته مقابل لا شيء. ويضمّ تجمع الشبريحا سكاناً من أصول بدوية فلسطينية منذ الخمسينيات، إضافة إلى لبنانيين وفلسطينيين هجّروا حديثاً من سوريا. تلك العائلات الفلسطينية لم تسكن في المخيمات، وتتخذ من هذا الحي مسكناً لها منذ عقود وحوّلت أراضيه الصخرية إلى بساتين زيتون ورمان وحامض تعتاش منها ومن رعي المواشي، بالإضافة إلى تقديمات «الأونروا»، وترفض الانتقال إلى مكان آخر على اعتبار أن نمط عيشها لا يتلاءم مع شقة صغيرة.

يعدّ التجمّع من الناحية القانونية تعدياً على الأملاك العامة، لكن تصله خدمات البنى التحتية. وتفرّد مجلس الإنماء والإعمار الذي وضع اليد عام 2015 على مساحة نحو 66 متراً مربعاً من كامل مساحة العقار، في تحديد التعويض على هؤلاء من دون منحهم حق الرد أو المطالبة بتعديل. خصص مبلغ نحو 12 مليار ليرة بقرار من رئاسة المجلس تصرف لأصحاب الحقوق، ويعود معظم المبلغ للتعويض (9 مليارات و348 مليون ليرة) على بلدية العباسية، باعتبارها المالك الرسمي للعقار، ويتوزع باقي المبلغ على 49 منشأة (تشغلها 31 عائلة فلسطينية و13 عائلة لبنانية).

ويبلغ أكبر تعويض نحو 119 مليون ليرة، والأصغر نحو 11 مليوناً. جرى تبليغ السكان في أيار 2017 بإنذار من قوى الأمن الداخلي بوجوب الإخلاء، فيما رفض معظمهم الإنذار وواجهوا اعتقالات. وسقط اقتراح إنشاء مساكن بديلة على اعتبار أنه تشريع للحيازة غير الشرعية للأراضي. يطرح الواقع الذي يواجهه سكان الشبريحا السؤال حول التجمعات غير الرسمية التي لا تلحظها التصاميم التوجيهية على اعتبار أنها زائلة، وأن سكانها اللاجئين سيعودون إلى حيث أتوا. بينما أصبح وجود أولئك واقعاً منذ الخمسينيات ولا يمكن معالجته بالتعمية أو بالتلطي.

الإطار التشريعي لتنظيم الأراضي

حاول لبنان تبني تجربة الحداثة في تنظيم الأراضي، فصبّ قانون البناء اللبناني الصادر في عام 1940 في هذا الإطار، ومن ثم ألحق بقانون التنظيم المدني الصادر في عام 1962، إلّا أن التعديلات التي طرأت على هذه القوانين ورفعت عوامل الاستثمار، أدت إلى تكثيف البناء فيه خدمة للاستثمارات، متجاهلة عوامل الأرض والجغرافيا والمجتمع. في عام 2000، صدر قانون ألغى وزارتَي «الإسكان والتعاونيات» و«الشؤون البلدية والقرويّة»، ومعه انقطع أي حديث رسمي عن الحق في السكن والإنماء المتوازن، إلى حين صدور الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية في عام 2009. ومن ضمن أهدافها، تحقيق الإنماء المتوازن بين المناطق، وتوزيع الخدمات والتجهيزات، وترشيد استعمال الموارد.

مسار إصدار التصاميم التوجيهية والتفصيلية، يحدّده القانون الرقم 69 الصادر في عام 1983، ويبدأ من «المديرية العامة للتنظيم المدني» التي تضع التصاميم والأنظمة التوجيهية والتفصيلية، فتعرضها على البلدية لتبدي رأيها، ومن ثم يعرض على «المجلس الأعلى للتنظيم المدني» قبل إحالته إلى مجلس الوزراء للتصديق عليه. هذا المسار والإطار التشريعي يؤديان إلى تفشي الزبائنية والمحسوبيات، في حين تغيب الرؤية الشاملة والتوجهات البعيدة المدى لإصدار التصاميم التوجيهية. يشار إلى أنه قبل الحرب اللبنانية، صدرت تصاميم توجيهية وتفصيلية لنحو 82 منطقة، فيما شملت التصاميم الصادرة بعد انتهاء الحرب نحو 78 منطقة.