IMLebanon

اغتيال رفيق الحريري: جريمة سياسية حققت غرضها

كتب خيرالله خيرالله في صحيفة “العرب” اللندنية:

وضعت المحكمة الدولية جريمة تفجير موكب الرئيس رفيق الحريري في إطارها السياسي. كشفت في الوقت ذاته العلاقة العضوية والعميقة، على أعلى المستويات، بين النظام السوري من جهة و”حزب الله” من جهة أخرى.

لم يترك الادعاء تفصيلا، مهما كان صغيرا، إلّا وكشفه في جلسات المرافعات الأخيرة في القضية التي تبين أنّها عملية مشتركة بين الجانبين. الأكيد أنّ “حزب الله” كان ينفذ مرّة أخرى المطلوب منه إيرانيا في مرحلة دخلت فيها المنطقة مرحلة جديدة في ضوء التغيير الكبير الذي حصل في العراق في 2003.

إذا كان مطلوبا وضع الجريمة في إطارها السياسي، كما فعلت المحكمة، لا مفرّ أيضا من وضع هذا الإطار في إطار أوسع هو خروج إيران منتصرة في العراق بعد تولي الجيش الأميركي إزاحة نظام صدّام حسين ونظامه. تولى الأميركيون أيضا تقديم العراق على صحن من فضّة إلى إيران بعدما دخل إلى بغداد على ظهر الدبابة الأميركية كلّ قادة الميليشيات المذهبية التابعة للأحزاب العراقية الموالية لطهران.

شكّل الحدث العراقي انطلاقة جديدة للمشروع التوسّعي الإيراني. جاء التدخل الأميركي في العراق في وقت بدأ النظام السوري، الذي تحول بعد خلافة بشّار الأسد لوالده إلى أكثر من حليف لإيران ولـ”حزب الله”، يشعر بأنّ وجوده في لبنان صار مهددا. أصاب الادعاء العام عندما تحدث أمام المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي عن أن رفيق الحريري “هدّد الستاتيكو (الوضع القائم والثابت) الذي يؤمّنه الوجود السوري في لبنان”.

كان هذا الوضع القائم الثابت الذي هدده رفيق الحريري استخدام لبنان “ساحة” للنظامين في سوريا وإيران يبتزان من خلالها العرب والقوى الإقليمية والدولية وذلك في وقت راح البلد يستعيد حيويته. ففي مرحلة ما قبل اغتيال رفيق الحريري، بدأ لبنان يزدهر مجددا وصارت بيروت المدينة المفضلة لدى كثيرين من العرب، خصوصا الخليجيين وساد البلد شعور بأنّ لا بدّ من التوصّل إلى التخلّص من الوصاية السورية.

لم يعد هذا الشعور مقتصرا على المسيحيين، بل بدأ يشمل المسلمين، خصوصا بعد انضمام رفيق الحريري وإن بطريقة ناعمة، عبر نواب مسيحيين ينتمون إلى كتلته، إلى لقاء “البريستول”. كان “البريستول” فندقا عريقا من فنادق بيروت انعقدت فيه وقتذاك اجتماعات للقوى المناهضة للوجود السوري في لبنان.

بالعودة إلى الماضي، يظهر جليّا أن النظامين الإيراني والسوري بدآ يأخذان جدّيا نزعة اللبنانيين إلى استعادة استقلال بلدهم، في ضوء انضمام المسلمين إلى المسيحيين بعد الانسحاب الإسرائيلي تنفيذا للقرار 425، بدل بقاء الجنوب جرحا ينزف تحت حجج واهية اختلقها المتزلفون، مثل حجة مزارع شبعا.

كان همّ السوري والإيراني وقتذاك عدم المسّ بالوضع القائم، أي ببقاء لبنان “ساحة”، بمعنى صندوق البريد الذي توجه منه رسائل إلى هذا الطرف أو ذاك لتأكيد أن إيران لاعب إقليمي وأن سوريا تلعب بالتفاهم معها أدوارا خارج حدودها. تستهدف هذه الأدوار استمرار حال اللا حرب واللا سلم في المنطقة. لذلك، لعب النظام السوري مستخدما وقتذاك الرئيس اللبناني إميل لحّود، الذي فرضته دمشق على اللبنانيين، دورا في إفشال القمّة العربية التي انعقدت في بيروت في آذار – مارس 2002.

أقرت تلك القمة مبادرة السلام العربية التي كان وراءها وليّ العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبد العزيز الذي خلف الملك فهد لاحقا. لكنّ بشّار الأسد بذل، مستخدما إميل لحّود، كل جهد من أجل تعديل نصّ مبادرة السلام، الذي درست كلّ كلمة فيه بدقّة متناهية.

أراد رئيس النظام السوري أن تجد إسرائيل حججا كافية لرفض المبادرة العربية. لم يكن التصرّف السوري في لبنان يوما خارج تفاهم عام بين النظام القائم في دمشق منذ العام 1970 وإسرائيل. ظهر هذا التفاهم جليّا مع اندلاع الثورة الشعبية في سوريا قبل سبعة أعوام.

إذا تأكد أمر منذ اليوم الأوّل لاندلاع تلك الثورة، فإن هذا الأمر هو مدى حرص إسرائيل على النظام السوري وعلى بقاء بشّار الأسد في دمشق. تريد إسرائيل التأكّد من أن بشّار لن يرحل قبل تنفيذ كلّ المطلوب منه. المطلوب منه القضاء على سوريا وتفتيتها.

من خلال متابعة الجلسات الأخيرة للمحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي، يظهر أنّ جريمة اغتيال رفيق الحريري ذات طابع سياسي أوّلا. عندما سيصدر الحكم في شباط – فبراير أو في آذار – مارس من السنة 2019، سيتبين أن المطلوب كان القضاء على أي أمل بعودة لبنان بلدا طبيعيا، وذلك عبر التخلص من رفيق الحريري الذي عمل من أجل لبنان واللبنانيين وسوريا والسوريين.

هناك ظلم ليس بعده ظلم يتعرّض له لبنان الذي يعاني حاليا أكثر من أيّ وقت من غياب رفيق الحريري. لدى التمعن في الأحوال التي وصل إليها لبنان، يدرك المرء تماما لماذا اغتيل الرجل في العام 2005 ولماذا تلت الاغتيال حرب صيف العام 2006 والاعتصام في وسط بيروت وسلسلة الجرائم التي استهدفت اللبنانيين الشرفاء الذين قالوا بصوت عال إن هناك أملا في عودة لبنان واستعادة ما كان يمثله على الصعيد الإقليمي.

كشفت المحكمة الخاصة بلبنان كلّ تفاصيل الجريمة. فتح العبقري الرائد وسام عيد، الذي فكّك شبكة الاتصالات ودفع من حياته ثمنا لذلك، الطريق أمامها كي تتمكن من الوصول إلى ما وصلت إليه. من محاولة اغتيال مروان حمادة في أول تشرين الأوّل – أكتوبر 2004، أي قبل نحو أربعة أشهر ونصف شهر من تفجير موكب رفيق الحريري، وصولا إلى اغتيال محمّد شطح، لم تعد من أسرار في لبنان.

ما سعى إليه الجانب الروسي، الذي سعى من خلال التهديد بـ”الفيتو” في مجلس الأمن كي لا يشمل قرار إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان الدول والأحزاب، كان فشلا ذريعا. لم يستطع الادعاء في المحكمة البقاء خارج الدول والأحزاب. سمّى من يجب تسميته استنادا إلى أكثر من ثلاثة آلاف دليل متوافرة لديه. لم تعد هناك أي أسرار في شأن كلّ ما له علاقة من قريب أو بعيد باغتيال رفيق الحريري.

حقّق القتلة ما كانوا يصبون إليه. حققوا الغرض من الجريمة. خير دليل على ذلك ما آل إليه الوضع في البلد حيث بيروت لم تعد بيروت وحيث تخبط سياسي ليس بعده تخبّط في غياب حكومة متوازنة إلى حدّ ما تضمّ أشخاصا معقولين.

يبدو سعد رفيق الحريري، القابل بتسوية مع قتلة والده، الوحيد المهتم فعلا بتشكيل مثل هذه الحكومة. لذلك يعضّ ابن رفيق الحريري على الجرح وفاء لإرث رفيق الحريري، خصوصا أن الحقيقة ظهرت… فيما العدالة لا يمكن إلّا أن تتحقق يوما. ستتحقق العدالة حتّى لو كان الأمل في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان يتضاءل يوما بعد يوم.