IMLebanon

18 يوماً “رحّالة” على أدراج الصين!

كتبت رولا عبدالله في “المستقبل”:

تشبه الحياة في الصين وتيرة قطاراتها السريعة التي تشكّل نسبة 65 في المئة من قطارات العالم. السرعة 300 أو أكثر، ولا مجال لالتقاط النفس «الافتراضي» إلا على مقاعد «التراموي» وأخواته في بلد يعرّف عن نفسه بأنه «مجتمع العمل الواقعي»، وبأنه أحد الشركاء الخمسة في قمة «بريكس» التي تجمع الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم، وهي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، على أن يبقى ذلك النفس الافتراضي رهن الفضاء المحلي من خلال منع مواقع التواصل العالمية من مثل «واتساب» و«تويتر» و«فايسبوك» و«غوغل» لصالح الموقع الأول في الصين «ويتشات»، والأخير يغني لدى أبناء الصين بقومياتهم الـ56 عن المواقع السالفة الذكر باعتباره يجمع كل ما يطلبون ويتمنون، وهو يعود إلى رجل الاعمال الصيني ما هواتينغ، الملقب ب«Pony»، وثروته في حدود 43 مليار دولار، أما طباعه فإنها تشبه الطبع الغالب على أبناء الصين من حيث الخجل والحياء والعمل بصمت وفق المثل الشعبي عندهم: «للنفوس العظام إرادة، وللنفوس الضعيفة أمنيات».

وإذا كان الأخضر يغلب في بلد المليار ونصف المليار نسمة، حيث أشجار الحور التي تحتفظ بالاسم نفسه تزنر الشوارع، فإن الحياة تتسم بالبساطة والعملانية في العاصمة بكين وفق مخطط تنظيمي دقيق يحدد للدراجات نقاط الانطلاق، وللسيارات وجهتها وللقطارات محطاتها، وليس آخرها ابتكار أول طريق سريع يعمل بالطاقة الشمسية. أما الأبنية، فإنها مجمعات شاهقة الارتفاع تأخذ في الحسبان عدم الحاجة إلى الشرفات. وبجوارها أبنية لا تزال تحتفظ بالنمط العمراني التقليدي من حيث التصميم والبناء. وفي مؤاخاة النمطين العمرانيين، يمكن استخلاص المبادئ والأسس التي قامت عليها «جمهورية الصين الشعبية الاشتراكية»، من حيث ضرورة الاحتفاظ بإرث الأجداد من دون الوقوف على الأطلال. إذ للمدينة روح المنافسة ومواكبة التقدم العصري بما يؤهلها أن تغدو دولة كبيرة (وليست عظمى بحسب ما يشددون بالنظر لما يحمله المعنى من إمبريالية وفوقية).

وللضواحي عادات وتقاليد وطقوس دينية ودنيوية بما ينسجم مع الحاضر الآخذ في حسبانه هرولة العالم نحو العولمة وهرولة أبناء الصين نحو استثمار كل شاردة وواردة من أجل إحراز تقدم علمي وبشري وصناعي وزراعي، بالحجم الذي يكرسها دولة دائنة بدلاً من أن تكون مدينة، بمعدل نمو بلغ نحو 9,5 بالمئة منذ تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح قبل نحو أربعين عاماً، فكانت ثمرة تلك السياسة نظام صناعي متكامل يحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث إنتاج السلع الصناعية الرئيسية، إضافة إلى كونها أكبر دائن للولايات المتحدة بقيمة سندات تصل إلى أكثر من تريليون دولار، وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وقد تمكنت من إنشاء 763 ألف شركة بالاستثمار الأجنبي أو الخارجي، وبقيمة استثمارات تجاوزت 1،53 تريليون دولار أميركي بما يؤهلها احتلال المرتبة الأولى بين الدول النامية، وثالث أكبر دولة في الاستثمار الخارجي، باحتياطي يفوق الـ3 تريليونات دولار أميركي، وليس آخراً في مخططها بإعادة إحياء طريق الحرير القديم لربط شرق الكرة الأرضية الذي يصلها بالدول العربية وبينها لبنان، وهو الأمر الذي يبرر النشاط الكبير على خط الصين – لبنان في مختلف الميادين من منطلق: «تعالوا لنتعاون معاً، فنحن باعتبارنا دولتين تنتميان إلى هذا الشرق نبقى الأقرب من حيث القناعات والتفكير ويجمع بيننا أننا دولتان ناميتان».

وعلى قاعدة «ليس المهم أن تكون القطة بيضاء أم سوداء، وإنما المهم أن تعرف كيف تصطاد الفأر»، تحيك الصين الشعبية شبكة علاقاتها وفق «النفس الطويل». هي الدولة الوحيدة التي التزمت بسياسة تنظيم الأسرة. فكان لها ما أرادت من نمو اقتصادي ممسوك بما يسمح لها في القريب العاجل من أن تغدو «لؤلؤة الشرق»، على غرار اللقب الذي تعرف به مدينة «هونغ كونغ» التي خضعت للاستعمار البريطاني عقب حرب الأفيون في العام 1839. فكان على الصين الامتثال للاتفاقية التي تنص على استئجار بريطانيا لـ«هونغ كونغ» لمدة 99 عاماً. وفي مقاربة أخرى لسياسة «أكل العنب» بدلاً من قتل «الناطور»، التجأت الصين في تعاملها مع 56 قومية، إلى سياسة «الدولة الواحدة والنظامين» في بعض المناطق ومنها منطقة «التيبت» (Tibet). وفي كل التاريخ السالف، تحرص الصين من خلال المتحف الحربي لديها على أن تبقى ذاكرة الأجيال الشابة متّقدة بعداوات وصداقات الأمس من خلال لافتات صغيرة تجاور كل قطعة حربية شاركت في الحروب التي خاضتها الصين، ولا سيما الحرب مع اليابان التي كانت أكثر إيلاماً في الأرواح والأملاك، مع الاحتفاء في باحة المتحف بالصاروخ الصيني العابر للقارات «DF»، ومعنى اسمه «رياح الشرق، إضافة إلى تميز الجهاز الحربي الصيني بناقلات للسفن وغواصات وبوارج ودبابات مائية. وفي المشاريع الدفاعية الصينية، يحضر سور الصين العظيم المعروف سابقاً بـ«تنين الأرض»، باعتباره أحد أبرز المشاريع العسكرية في التاريخ المعماري البشري. ولاحقاً غدا رمزاً للأمة الصينية التي لم تتوان قبل أكثر من ألفي عام، عن بذل العرق والدماء على امتداد أكثر من ألفي كيلومتر. ويقال بأن نحو 800 ألف شخص شاركوا في البناء، وقتل على أدراجه نحو عشرة آلاف من العمال والمحاربين، في حين استخدم البناؤون دقيق الأرز لربط حجارة السور ببعضها.

وإذا كانت آلاف الكيلومترات من الأدراج والابراج الدفاعية ضرورة للذود قديماً عن البلد الذي تتجاوز مساحته الـ9 مليون كيلومتر مربع، فإن إعادة إحياء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الجديد وفق الرُؤية الإستراتيجية التي أعلن عنها الرّئيس الصِّينِيّ شي جين بينغ عام 2013 تأتي بمثابة وثاق «آسيوي» لتعزيز التّعاوُن الاقتصاديّ والتِّجاريّ والثقافيّ والسياحيٌّ، إذ يشمُل المشروع البري والبحري تشيِيدِ شبكات من الطُرُق وسِكك الحَدِيدِ وأنابيبُ النّفط والغاز وخُطُوطٌ الطاقة الكهربائيّة والإنترنت ومُختلف البُنى التّحتِيّة، على أن يكون المدخل إلى الحزام خطوة لا بدّ منها، وتتمثل في حاجة الصين إلى تعرف العالم عليها، كما حاجة الداخل إلى أن يتعرف على الخارج، بحسب نائب رئيس التحرير السابق في إذاعة الصين الدولية «ما وي قونغ» الذي واجه طلابه بالسؤال: «ماذا تعرفون عن الشرق الأوسط؟»، فكان الجواب: «اسلام- بترول- حرب- إرهاب». ووفق الصورة النمطية جاء التوجه بضرورة الانفتاح على الحضارات من باب تعلم اللغات الأخرى ومن بينها العربية الآخذة في الانتشار في الجامعات الصينية بما يخدم رؤية الحزام، لتغدو فيروز وجبران خليل جبران وسهيل ادريس وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ بمثابة الوجه العربي الساطع في الصين، على أن تبقى اللغة الصينية الملكة على كل اللغات في الداخل لجهة الحرص على تسمية أسماء المتاجر ووجهات الطرق بالصينية بما يخدم ويعزز اللغة الصينية فحسب، وإن على حساب السائح التائه في المحطات والطرق على عنوان وبوصلة وأرقام تسقطها اللوحات الصينية من مثل«4» و«13» باعتبارهما رقمين مشؤومين.

أما في الإعلام الصيني، وواجهته محطة CCTV ووكالة أنباء «شينخوا»، فاللافت عدم وجود صحافيين من لبنان على الرغم من إبداء استعداد الأقسام العربية في مثل تلك المحطات الرسمية إلى التعاون مع الإعلام اللبناني. إذ تراهن رؤية الحزام على الأهمية الإعلامية في انتشار استراتيجيتها، ولأجلها تحررت أبرز الوسائل الإعلامية من «الفيتو» المفروض على مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث بات بالإمكان متابعة المحطات من خلال صفحات خاصة على «تويتر» و«فايسبوك» وغيرهما بما يتيح للمشاهدين من خارج الصين متابعة برامجها، ويبقى الحظر سارياً في الداخل الذي يشكّل نحو 800 مليون مستخدم للانترنت، أي ما نسبته نحو 57 في المئة من تعداد سكان الصين. أما الصحف التي يبلغ عددها نحو 1915 صحيفة، فإنها تصدر بأعداد تتعدى المليار ونصف المليار، وهي رهن المنافسة من «النيوميديا»، كما هو الحال في مختلف أنحاء العالم.

وماذا عن أبرز إنجازات خطة الإصلاح والانفتاح المعتمدة منذ نحو 40 عاماً؟ يؤكد أستاذ اللغة العربية في جامعة بكين «تشانغ هونغ»، بأن الصين وصلت إلى مرحلة نهاية الحرب على الفقر بحيث لا يعود هناك مواطنون يعيشون تحت خط الفقر بدءاً من العام 2020، على أن تنتقل الاهتمامات لتأمين سبل أفضل للمواطن الصيني الذي يعيش حياة عملية مدروسة تقتضي توجهه صباحاً إلى العمل لمدة ثماني ساعات، ومن ثم يعود إلى المنزل ليأخذ استراحة، وما بين الثامنة والعاشرة مساء تتلاقى «الكوبلات» بحثاً عن رقصة جماعية في الساحات العامة حيث تصدح الأغاني الصينية التي تناجي الموسيقى الشرقية، على أن تنام المدن في حدود الساعة العاشرة حيث تتوقف خدمة المترو وتبقى الألوان الضوئية ساهرة تعلن للسياح روعة الليل على ضفاف أطول الأنهار وأكبر البحيرات العذبة وفي حضرة عمران الحجر بأشكال عمودية تصاعدية إنما ترتفع لتخبر عن بلد تجاوز في الحقيقة البلدان النامية بأشواط.

وفي الصين أيضاً، أكثر من طلب العلم، حيث لا تكفي زيارة نحو 20 إعلامياً لبنانياً لثمانية عشر يوماً بدعوة من وزارة التجارة الصينية ومركز التدريب التابع للمجموعة الصينية للنشر الدولي وغيرهما من التعرف على عادات وتقاليد حضارة امتدت بلا انقطاع لما يزيد على 5 آلاف سنة، حيث لمائدة الطعام عادات خاصة جداً، ولقادة المدن ولا سيما في مقاطعة آنهوي طقوس لا بدّ من احترامها، وللمدربين وصية أخيرة في الطريق إلى المطار: «اكتبوا عنا بعيون شرقية تتلاقى فيها الحضارات ولا تتصادم في عالم لا بدّ من أن يعرف السلام يوماً».