IMLebanon

أليس التكليف لغواً وتفعيل الحكومة المستقيلة ممكناً؟

كتب مصطفى عليّ الجوزو في صحيفة “اللواء”: 

تشيع اليوم عبارة الرئيس المكلف وكأنها مصطلح دستوري يبني عليه بعضهم نتائج، موحين أنه يعني رئيساً بالاحتمال وليس بالفعل، فيذهبون إلى جواز سحب التكليف منه، إما بطلب من رئيس الجمهورية أو بناء على عريضة توقعها أكثرية نيابية. وهذا فهم مغلوط.

ليس من مكلِّف حتى يكون ثمة مكلَّف

والواقع أن صفة المكلَّف في عبارة: «رئيس الوزراء المكلَّف» الواردة في الدستور اللبناني لغو لا معنى له، لأن (أل) التعريف العهدية قد دخلت على تلك الصفة، وما تدخل عليه أل العهدية في مثل هذا الموضع ينبغي أن يكون له ذِكر في كلام سابق، لفظاً أو معنى، أو يكون عُرفاً عاماً؛ والحقيقة أنه ليس في الدستور قبل العبارة المذكورة أي إشارة إلى التكليف، وليس من عرف على التكليف الحكومي، فقد كان رئيس الجمهورية، قبل دخول هذا النص في الدستور، يختار الوزراء ويسمى رئيساً منهم؛ فليس من مكلِّف، إذن، حتى يكون ثمة مكلَّف؛ ولذلك احتار المهتمون بهذا الشأن، أرئيس الجمهورية هو المكلِّف أم النواب؟ وليس هذا ولا أولئك. والدليل على أنها لغو ما جاء في المادة 64 من الدستور المتصلة بصلاحيات رئيس مجلس الوزراء، فهي تتكلم عليه في جميع فقراتها من غير أي صفة أخرى، لا مكلف ولا غير مكلف، وتقول في الفقرة الثانية خاصة، وهي تتحدث عن مرحلة التأليف التي يفترض أن يكون رئيس الحكومة مكلفاً فيها: «يُجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها». ولو صح أنه مكلف لوجب أن يقال: يكلَّف بإجراء الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة، مع ذكر من كلَّفه. ولو صح أنه رئيس بالاحتمال لما كان من حقه توقيع مرسوم التأليف مع رئيس الجمهورية. ومن يسمَّى بمرسوم لمنصب ما لا تبطل تسميته إلا بمرسوم آخر، ويكون المرسوم الآخر مرسوم إقالة، عادة، ولم يعد من حق رئيس الجمهورية إقالة رئيس الوزراء. وأما البيان المنسوب إلى الرئاسة الأولى، وفيه أن الرئيس استدعى الرئيس سعد الدين الحريري وكلفه تشكيل الحكومة فهو يقوم على تأويل لا سند له للفقرة الثانية من المادة 53 من الدستور التي وردت فيها العبارة المشار إليها، والبيان الرئاسي ليس دليلاً على معنى تلك الفقرة لأنه مبني عليها وليس العكس. وفي كل الأحوال فإن ذلك البيان ليس دستوراً.

مراحل تأليف الحكومة

والواقع أن مراحل التأليف أربع:

المرحلة الأولى:

إصدار مرسوم بتسمية رئيس الحكومة بناء على الاستشارات النيابية الملزمة، وهو قرار نهائي لا يمكن الرجوع عنه، ويصبح الشخص المسمى بموجبه رئيساً فعلياً للحكومة، مثلما أن رئيس الجمهورية هو الرئيس الفعلي للدولة، ورئيس مجلس النواب هو الرئيس الفعلي للسلطة التشريعية. ومن البدع اللبنانية تسمية رئيس جديد للوزراء مع وجود حكومة تصريف أعمال. والأغرب من ذلك أن يكون الرئيس المسمى هو نفسه رئيس تلك الحكومة، أي أنه رئيس لحكومتين: حكومة مستقيلة وحكومة في طور التأليف، ولا أظن أن ذلك يحدث في أي بلد في العالم. فالمعمول به في العالم، إن لم أكن مخطئاً، أن حكومة تصريف الأعمال حكومة موقتة أو حكومة انتظار كما وصفها بعضهم، وتعمل، في الحالة التي نناقشها، في الفترة الفاصلة بين انتهاء الانتخابات النيابية وتسمية رئيس جديد للحكومة، بحيث يقدّم رئيس الحكومة استقالته بعد انتهاء الانتخابات النيابية ويطلب إليه رئيس الجمهورية متابعة تصريف الأعمال ريثما تؤلف الحكومة الجديدة. وفور تسمية الرئيس الجديد يخلي الرئيس المستقيل مقر رئاسة الحكومة ويسلمه إلى الرئيس الجديد ويتوقف عن العمل الحكومي. ويتمتع الرئيس الجديد بالصفة الرئاسية الكاملة، ويكون عليه وحده تأليف الحكومة الجديدة، فإذا استعصى عليه ذلك قدم استقالته فاسحاً المجال لتسمية رئيس آخر، أو يعتذر إن لم يكن قد صدر مرسوم بتسميته.

ولذلك نشأت في لبنان بدعة أخرى هي بدعة تشريع الضرورة في ظل الحكومة المستقيلة، وقد دار جدل حول هذه القضية. وسببُ هذه البدعة أن حكومة تصريف الأعمال تنشأ عند انعدام الرقابة البرلمانية على الوزراء، حتى إذا انتُخب البرلمان وهيئاته ولجانه، أصبح المجلس قادراً على مراقبة الحكومة ومحاسبتها فيتوقف تصريف الأعمال الذي قضى به غياب المجلس ويؤتى بحكومة تخضع لرقابته من غير حاجة إلى تشريع الضرورة. لكن الآية انقلبت، فأصبحت الحكومة المستقيلة تعمل مع وجود برلمان منتخب، وأصبح على البرلمان اختراع بدعة لعمله في حضور تلك الحكومة، علماً أنه لم يكن يجوز أن يوصف الرئيس الحريري في المجلس برئيس حكومة تصريف الأعمال، فهو رئيس مسمّى بمرسوم، أي أنه  كامل الصفات، غير أن ممارسته لصلاحياته مرجأة ريثما يحوز ثقة المجلس.

المرحلة الثانية:

هي إصدار مرسوم التأليف الذي تصبح الحكومة بمقتضاه حكومة فعلية لا يمكن حلها. وليس لرئيس الجمهورية رفض توقيع المرسوم وإصداره إلا إذا خالف المرسوم الدستور مخالفة صريحة غير تأويلية، كما ذكرنا في مقالة سابقة، ولا أن يشترط المشاركة في التأليف أو أن يدعي حق الاعتراض والنقض، لأن الدستور يقضي بأن يأتي تأليف الحكومة نتيجة لاستشارة رئيسها للنواب، ورئيس الجمهورية لا يشارك في تلك الاستشارة وقد لا يعلم ما يجرى فيها. وما فائدة تلك الاستشارة إذا كان رئيس الجمهورية يستطيع أن يتجاوزها بفرض معاييره وشروطه؟ إنها تصبح كلزوم ما لا يلزم.

المرحلة الثالثة:

هي كتابة البيان الوزاري والمثول أمام مجلس النواب طلباً لثقته.

المرحلة الرابعة:

ممارسة الصلاحيات التي ناطها الدستور بالحكومة إذا محضها المجلس ثقته.

وهنا قد تنشأ إشكالية دستورية في حال حجْب الثقة عن الحكومة الجديدة: هل يعتبر طلبها للثقة طرحا للثقة بنفسها يوجب استقالتها في حال الحجب، والعمل على تجديد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس جديد للحكومة، أم هو طلب للثقة ببيانها الوزاري فقط، وعليها في حال حجب الثقة التقدم إلى المجلس ببيان آخر؟

الحقيقة أن النص الدستوري الذي يقرر اعتبار الحكومة مستقيلة «عند نزع الثقة منها من قبل المجلس النيابي» لا ينطبق على حالة الحكومات الجديدة، لأن نزع الثقة يعني أن الثقة قد منحت للحكومة من قبل ثم قرر مجلس النواب نزعها منها لإخلالها بواجباتها، أو لأي سبب آخر يراه المجلس، ولا يكون ذلك إلا بعد نيل الثقة؛ فهو بقول آخر يتصل بحكومةٍ ممارِسة لا بحكومة ناشئة تتقدم ببيانها الوزاري. فحجب الثقة بعد طرح البيان الوزاري لا يقضي، إذن، باستقالة الحكومة، بل بتغيير بيانها، أي بإنشاء بيان يعبر عن رؤى تختلف عن رؤى البيان السابق. أما إذا أريد بالنص سقوط الحكومة الجديدة عند حجب الثقة عنها، فيجب أن ينشأ قانون دستوري يجعل مفهوم نزع الثقة يشمل حجبها أيضاً. على أن هذه القضية لا تبدو خطيرة لأن أياً من الحكومات اللبنانية لم يسقط بعد تلاوة بيانه الوزاري، في ما نعلم.

هل اجتماع المجلس للضرورة تفعيل للحكومة المستقيلة

وقد طرأ في هذه الآونة حدث جديد يستحق التأمل، وهو اجتماع المجلس لما أسماه تشريع الضرورة في حضور حكومة تصريف الأعمال. ذلك لأن المسموح به للحكومة المستقيلة أن تصرّف الأعمال بالمعنى الضيق للتصريف، ولا يدخل في ذلك المعنى حضور جلسات التشريع ومناقشة النواب فيها. لكن أكثرية النواب لم تعترض على ذلك، وهذا يعني ضمناً أن المجلس قد أعاد الاعتبار إلى الحكومة، أي فعّلها، وفق تعبير بعضهم، وجدد الثقة بها، وذلك لضرورة ملء الفراغ الذي نجم عن الإصرار على فرض معايير وشروط على رئيس الحكومة لا يسمح الدستور بها.

وقد يبيح هذا لرئيس الحكومة بوصفه رئيساً كامل الصفات، وبوصف حكومته مستعيدة للاعتبار من قبل المجلس، أن يتخطى مفهوم تصريف الأعمال الضيق إلى دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد لممارسة أعماله الطبيعية، ومعالجة القضايا الملحّة خاصة. وهذا السلوك قد يجد تأييداً له في الرأي المشهور لأستاذ القانون في جامعة تولوز: فرنان بوإسّو Fernand Bouyssou والمنشور في المجلة الفرنسية للعلوم السياسية سنة 1970، وهو أن الحكومات المستقيلة تستطيع عندما تطول الأزمات الوزارية أن تقوم بأعمال عادية تتجاوز تصريف الأعمال، وأن نشاطها يكبر بمقدار ما تطول الأزمة، مبرهناً على رأيه بأمثلة من أعمال الحكومات الفرنسية في الجمهورية الرابعة. وهناك دراسات أخرى متعددة تجري في السياق نفسه، وتؤكد أن بعض حكومات تصريف الأعمال في بلجيكا، مثلاً، قامت بأعمال أساسية، تلزم الحكومات التالية كعقد بعض المعاهدات الدولية، وذلك بسبب طول الأزمات الوزارية. على أن ثمة من يحصر توسيع صلاحيات حكومة تصريف الأعمال بالأمور المستعجلة التي لا تحتمل التأجيل، ولا سيما في وقت الحرب، وفي الأمور الاقتصادية الملحة، لكن هذا حين يكون رئيس الحكومة وسائر أعضائها مستقيلين، أما إذا لم يعد الرئيس مستقيلاً، بل صار حائزاً شروط الرئاسة كاملة، فإن الأمر يختلف، في رأينا.

وغني عن التوضيح أن الأزمة الوزارية في لبنان قد طالت جداً في هذا العهد، وهي مستمرة منذ أكثر من أربعة أشهر، وأن الأمور المستعجلة والملحة كثيرة في لبنان، ولذلك تقضي المصلحة العامة بأن تعالج الحكومة الحالية هذه الأمور ريثما يصدر مرسوم الحكومة الجديدة. علماً أن بعض الوزراء في حكومة تصريف الأعمال يمارسون أعمالهم التي يفترض أن ينتهوا عنها في فترة التصريف، والتي ليس لها طابع الاستعجال والإلحاح، وأكثر من يفعل ذلك وزير الخارجية الذي يقوم بنشاط دولي كبير، ويشارك في مؤتمرات تقتضي أن تكون الحكومة قد اتخذت قرارات بشأن المشاركة فيها، ويتنقل على نفقة الدولة، ويطلق مواقف خلافية هامة، ويتصل بوزراء وشخصيات عربية وأجنبية، وكأن الحكومة غير مستقيلة. حتى مشاركة رئيس الجمهورية في نشاطات إقليمية ودولية ينفي عن الحكومة صفة تصريف الأعمال؛ فمثل هذه المشاركة من صلاحيات الحكومة في الأصل، وقد يجوز أن يقوم بها رئيس الجمهورية بموافقة الحكومة، وهذه الموافقة ليست من ضمن تصريف الأعمال بالمعنى الضيق للكلمة، أي الأعمال التي لا تستدعي المحاسبة عند الضرورة، فإعلان المواقف باسم الدولة يستتبع هذه المحاسبة، فيخرج عن المعنى الضيق للتصريف. ولهذا قامت بعض مجالس النواب الغربية بإخضاع الحكومات المستقيلة للمساءلة، وكأنها حكومةٌ ممارِسة.

وإذا صح رأي بوإسّو واستنتاجنا، كان من حق مجلس النواب، في فترة انتظار تأليف الحكومة، أن يفعّل الحكومة المستقيلة ويحاسبها على أعمالها، فيجتمع في حضورها، ويحيل القوانين التي يقرها إلى السراي والقصر لتوقيعها وإصدارها في الجريدة الرسمية، وبهذا لا تتعطل مصالح الأمة، ولا نبقى في الجمود والفراغ الدستوري، ولا نعرض البلد للخراب.

بيد أن هذا ينبغي أن يكون أمراً استثنائياً وموقتاً، وأن يحثّ الدولة على إصدار قانون دستوري تفسيري في المستقبل يرفع ما يلابس الدستور في هذا الشأن من إشكالات، بحيث يُنَصّ على أن رئيس الجمهورية يبلِّغ بكتاب رسمي نتائج الاستشارات النيابية الإلزامية لمن تسميه أكثرية النواب، من غير أي إشارة إلى التكليف أو غيره، ومن غير إصدار مرسوم بذلك، على أن يقيّد القانون الشخصَ المسمّى بمهلة محدودة بدقة لتأليف حكومة جديدة، وتقوم الحكومة المستقيلة أثناء تلك المهلة بتصريف الأعمال؛ وعلى أن يبلِّغ الشخصُ المسمّى بكتاب رسمي رئيسَ الجمهورية أسماءَ الوزراء وحقائبهم عند إنجازه التأليف بالتشاور مع النواب وغيرهم، فيوقع رئيس الجمهورية ضمن مهلة يحددها القانون بدقة أيضاً مرسوماً بتسمية رئيس الحكومة، ومرسوماً آخر بتسمية سائر أعضاء الحكومة، وعند امتناعه من التوقيع تصبح الحكومة رئيساً وأعضاء دستورية حكماً. وإثر ذلك تتوقف أعمال الحكومة المستقيلة كلية. أما إذا تجاوز الشخص المسمى المهلة المحدودة له اعتبر مستقيلاً، ودُعي النواب إلى استشارات إلزامية جديدة، إلا إذا ارتئي أن ينص القانون على حق الشخص المسمى بطلب مهلة جديدة.