IMLebanon

فارس سعيد يحاول بعث الحياة في خيول من خشب

كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “العرب” اللندنية:

لعلّ الصفة الوحيدة العالقة في أذهان اللبنانيين عن النائب السابق والطبيب فارس أنطون سعيد هي صفة “المنسق العام” لقوى الرابع عشر من آذار، الثورة الشعبية التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتي نجحت في إزالة كابوس الاحتلال السوري عن صدور اللبنانيين في العام 2005.

ورغم أن سعيد انخرط في العمل السياسي الذي أبعده عن عالم الطب الذي كان من رواده منذ العام 1993، إلا أن “قيادته” للأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار أبرزت صفاته السياسية الكبيرة التي يتمتع بها، كما أن صداقته “المزمنة” مع رفيق دربه النائب الراحل سمير فرنجية، ساهمت في صقل هذه الصفات وجعلته متمرّسا في خوض إحدى أهم الصعاب التي يواجهها “عمّال” السياسة في لبنان: الحوار.

ما معنى لبنان الدولة

شارك سعيد في تأسيس المؤتمر الدائم للحوار، كما شارك في “خلوة سيدة الجبل” حول تحديد معنى لبنان، كما شارك في خلوة الحوار “الإسلامي – المسيحي” في عنايا في العام 1995 وفي خلوة الحوار “الدرزي – المسيحي” في العام نفسه في بعقلين، كما انضم إلى الهيئة الوطنية للحوار “الإسلامي – المسيحي” التي عقدت في بكركي خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 1996، لكن العلامة الفارقة في مشاركاته الحوارية كانت انضمامه إلى فريق تأسيس “لقاء قرنة شهوان” في العام 1997، اللقاء الذي فتح باب المطالبة “الوطنية” بضرورة تطبيق اتفاق الطائف وخروج الجيش السوري من لبنان.

واليوم، يجد سعيد نفسه في خضم معركة جديدة يخوضها في إطار رفع الاحتلالات والوصايات عن لبنان ويرفع شعار “رفع الوصاية الإيرانية عن لبنان”، هذه المعركة التي تستهدف في ما تستهدفه، تقليص نفوذ “حزب الله” وهيمنته على سائر قرارات الدولة اللبنانية “المغيبة”، وهي معركة لا يتوانى عن وصفها في تصريحات خاصة بـ”العرب” بأنها “صعبة”.

ويقول سعيد المولود في العام 1958 في قرطبا قضاء جبيل إن “معركة إخراج سوريا من لبنان نشأت بسبب ظروف موضوعية في حينها عندما نتج عن الاحتلال السوري قيام طائفة متمردة، وهم الموارنة الذين التحموا مع الطوائف الأخرى في ظروف داخلية وخارجية محدّدة أهمها اغتيال الحريري، فكانت الثورة الشعبية الكبرى التي أزاحت عن صدورنا كابوس الاحتلال”.

ويضيف “بالطبع اليوم لا أرى هناك طائفة متمردة، فحتى أبناء الطائفة السنية دخلوا في سكينة سياسية بعد انهيار المعارضة السورية، ولذلك فإن معركة تحرير لبنان من الوصاية الإيرانية ستكون صعبة”.

ورغم أن عائلة سعيد ليست عائلة سياسية بالمعني التقليدي اللبناني، ولا تملك حضورا “مارونيا” بالمفهوم الطائفي، إلا أن والد فارس “طبيب الفقراء” أنطون سعيد، كان معجبا بشخصية الرئيس الراحل فؤاد شهاب الذي فتح له باب الدخول في المعترك السياسي من خلال تشجيعه ودعمه في العام 1960 على خوض الانتخابات النيابية ضد زعيم “الكتلة الوطنية” العميد الراحل ريمون إده لكنه لم يوفق، لكنه أعاد الكرة في العام 1964 حيث تمكن بفضل دعم “المكتب الثاني”، وهو اسم مخابرات الجيش اللبناني في ذلك الحين، من إسقاط لائحة إده بالكامل والدخول إلى المجلس النيابي.

لكن القدر كان بالمرصاد لأنطون سعيد فلم تمض سنة على انتخابه نائبا حتى توفي فترشّحت أرملته نهاد جرمانوس سعيد لانتخابات فرعية قاسية في وجه أده وخسرت أمامه. وفي انتخابات 1968 خسرت أمام “الحلف الثلاثي” الذي تشكّل في مواجهة “الشهابية” بين ريمون إده وحزبي “الأحرار” بقيادة الرئيس الراحل كميل شمعون و”الكتائب” بقيادة الراحل بيار الجميل.

اجتياح المسيحيين

مع طلائع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، سافر الابن سعيد إلى باريس لدراسة الطب، لاستكمال المسار المهني للعائلة الذي بدأه جدّه الطبيب فارس، قبل أن يعود نهاية 1989 إلى لبنان لمتابعة مسيرة العائلة السياسية بعدما خاض تجارب سياسية متعددة، فتنقل بين أحزاب يسارية ويمينية، وتأثر بقراءات عن ماركس وعبدالناصر وكمال جنبلاط، لكنه في قرارة نفسه ظلّ ذلك “الشهابي” المتأثر بالشخصية الفذّة، النظيفة الإصلاحية والوطنية التي جسّدها الرئيس الراحل.

أنهى اتفاق الطائف الحرب الأهلية، ومع مقاطعة المسيحيين للانتخابات التشريعية الأولى التي تجرى منذ العام 1972، التزمت عائلة سعيد المقاطعة، لكن نهاد قررت خوضها في الدورة اللاحقة، حيث تمكّنت من الفوز بالمقعد النيابي الذي كان يشغله زوجها الراحل، والتي قامت بدورها بتسليمه إلى نجلها فارس في العام 2000 حيث فاز في تلك الانتخابات ليحمل لقب “سعادة النائب”.

كان سعيد وسمير فرنجية المحركين الرئيسيين في ما كان يسمّى “لقاء قرنة شهوان”، هذا اللقاء الذي دفع بكل قوته لمعارضة عهد الرئيس أميل لحود الذي، كما يقول سعيد، “يجسّد الوصاية السورية بأبهى تجلياتها”، والمطالبة بتطبيق اتفاق الطائف لجهة انسحاب قوات “الاحتلال” السوري من لبنان، كما عملا على التقرّب من معارضي عهد لحود وفي مقدّمهم زعيم “الحزب التقدمي الاشتراكي” النائب وليد جنبلاط والحريري الأب.

يشار إلى أن اتفاق جنبلاط و”قرنة شهوان”على المطالبة بتطبيق اتفاق الطائف، ترجمه “اللقاء” ببيان شهير في العام 2000، والزعيم الدرزي بخطاب أكثر شهرة في مجلس النواب، انبرى بعده نواب “الوديعة السورية” في لبنان إلى هدر دمه وتخوين أعضاء اللقاء والتطاول على الرئيس الحريري الذي كيلت له مختلف الاتهامات بالتواطؤ والخيانة وصلت إلى حد اغتياله في 14 فيفري 2005.

عاد العماد ميشال عون من منفاه الفرنسي في العام 2005 وشكل ما وصفه جنبلاط بـ”التسونامي” الذي اجتاح المناطق المسيحية، خصوصا وأن الطرف المسيحي القوي الآخر، رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع كان لا يزال يقبع في سجن وزارة الدفاع. حينها لم يتمكن سعيد من تكرار فوزه في الانتخابات النيابية في العام 2005 بسبب الأصوات الشيعية “الكثيفة” التي صبّت لصالح لائحة عون في جبيل، فخسر مقعده النيابي لكنه ظل محتفظا بـ”مقعده” السياسي على الساحة اللبنانية.

وبعدما انضوت القوى المناهضة لسوريا في تحالف “14 آذار”، أنشأت هذه القوى مكتبا لإدارة عملها الميداني والشعبي سميّ بـ”الامانة العامة” وتولّى سعيد مهمة “المنسّق العام” فالتصقت به هذه الصفة ولم تغادره كما لم يغادرها.

لكن مع انفراط عقد هذه القوى نتيجة خروج جنبلاط، و”حرد” الكتائب وتراجع الدعم المالي الذي كان يوفره الحريري الابن، ومع تراجع زخم ثورة الشعب السوري، انفرط عقد “الأمانة العامة” ليجد سعيد نفسه حائرا في الموقع الذي سينطلق منه مجدّدا لتكملة مشواره “النضالي لتحقيق السيادة والحرية والاستقلال”، فعاد إلى موقعه الأول في لقاء “سيدة الجبل” حيث حاول ولا يزال تنشيطه ليعود فاعلا وصوته مسموعا بعدما غاب صوت “الشريك الملهم” فرنجية، وبعد نجاح مبادرة “المجلس الوطني لقوى 14 آذار” الذي تولى رئاسته فرنجية بالاجماع بعد حلّ الأمانة العامة.

حظر وحدة المسيحيين

فيما ينغمس لبنان في فوضى ما بعد الانتخابات النيابية الأخيرة،  والتي لم يوفق فيها سعيد بعدما خاضها في وجه القوى التي كان يفترض أنها ستدعمه وتقف إلى جانبه وفي مقدمها حزب القوات اللبنانية التي تعود علاقته برئيسها إلى منتصف تسعينات القرن الماضي، يعود سعيد إلى خوض مغامرة المطالبة بتحرير لبنان من الوصاية الإيرانية وحاول عقد لقاء “سيدة الجبل” في فندق “البريستول”، المكان الذي له في ذاكرة اللبنانيين ذكرى طيبة تعود إلى أيام الاجتماعات التنسيقية التي كان يستضيفها قبل وبعد اغتيال الرئيس الحريري، لكن قوى الأمر الواقع المهيمنة على القرار السياسي والأمني في لبنان منعت انعقاد اللقاء.

ولم يبد رئيس لجنة التنسيق والارتباط في “حزب الله” الحاج وفيق صفا أي تردد في البوح بأنه كان من منع عقد اللقاء، فعاود سعيد محاولته من خلال نقل مكان اللقاء إلى فندق “مونرو” مقابل فندق فينيسيا في بيروت، لكن إدارة الفندق اعتذرت أيضا عن استضافة اللقاء، ما دفع سعيد إلى إطلاق اتهاماته بوجه العهد ككل ووقوفه خلف منع انعقاد اللقاء، وتوجهه إلى رئيسي الجمهورية والحكومة، قائلا “أنتما مؤتمنان على لبنان لكن تسيئان للأمانة عندما تتصرفان بصبغة أمنية وليس سياسية”، لكن المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية نفى تدخله في حين علق المكتب الإعلامي للرئيس سعد الحريري مؤكدا أن “رئاسة الحكومة لم تتدخل في هذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد، وهي غير معنية بأي مزاعم تساق في هذا الشأن لأغراض سياسية واضحة”.

لكن سعيد المصمم على عقد اللقاء في بيروت وجد في “نادي الصحافة” في فرن الشباك المكان الأنسب لهذه الغاية، وألقى مداخلة خلال اللقاء ركز فيها على “الخطاب المسيحي في إطاره الوطني اللبناني، وفي بعده المشرقي-العربي”، وهو بذلك يشير إلى الثنائية المسيحية المستجة المكونة بين “التيار الوطني الحر” و“القوات اللبنانية” التي نشأت بين “التيار الوطني الحر” من خلال ما سمي “تفاهم معراب” الذي لم يدم طويلا وانهار خلال مرحلة تشكيل الحكومة العتيدة.

رفض حتى النهاية

عما إذا كان ذلك الخلاف قد يؤدي إلى “حرب إلغاء” جديدة شبيهة بتلك التي خاضها عون أثناء ترؤسه الحكومة العسكرية في العام 1989 ضد “القوات اللبنانية” التي يقودها جعجع، قال سعيد لـ“العرب” إن المسيحيين “انقسموا في العام 1989 بين من هم مع الطائف ومن هم ضد الطائف أما اليوم فهم ينقسمون على قاعدة النفوذ”.

وأضاف “لا حرب ذات معنى سياسي بين الموارنة، لأنهم مثل الدروز خرجوا عمليا من المعادلة، لكن إلصاق صورة الموارنة بسلاح حزب الله وبنظام الأسد لا يخدم أجيالهم القادمة”.

ويرفض سعيد كليا التفاهم الذي وقّعه عون عندما كان رئيسا لـ”التيار الوطني الحر” مع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله وعرف باتفاق “مار مخايل”، واعتبر في مداخلته في “لقاء سيدة الجبل” أنه “إذا كان البعض منا يستهوي دفتر الشروط الذي ينص على: أنا أحميكم من التطرف الإسلامي، وأجعل من زعيمكم رئيسا للجمهورية، وأسمح لكم بممارسة السلطة متجاوزين اتفاق الطائف، وأوفر لكم المناصب والغنائم، وفي المقابل سلموا بوصايتي على الدولة وإمساكي بمصيركم”، فإن هذه “ذمية مرفوضة، فضلا عن كونها إهانة موصوفة، لأن من يحمينا ويحمي كل مواطن لبناني، هو الدولة والقانون والدستور والجيش الوطني“.

لا يقبل سعيد الاستسلام للأمر الواقع الذي نشأ بفعل عوامل داخلية وإقليمية، ويعتبر أن القبول بذلك “تخاذل غير مبرر”، ويرفض أن يسبق اسمه أي لقب فهو “فارس سعيد فقط” ومصمم على المضي قدما بما يؤمن به على قاعدة “إذا الشعب يوماً أراد الحياة”.